إبراهيم بيومي مدكور - 2 - فريزر ودراسة الخرافة

ثبتت الخرافة كذلك دعائم الملكية الشخصية وحفظتها، إذ مما لاشك فيه إن هذه الملكية متأخرة في الوجود عن الملكية العامة، فالناس عرفوا متاع الجمعية ومال القبيلة قبل أن يعرفوا مال زيد وعمرو. والملكية العامة نفسها ظهرت في شكلها الأول على صور الملكية المقدسة، فنشأت في أعمال الخرافة وتربت على حسابها. وقد كان التقديس ولا يزال وسيلة من وسائل احترام الملكية والمحافظة عليها. وللخرافة يد أخرى في الدفاع عن الملكية، فقد حاربت السرقة والسراق، وحمت مال الفرد والجماعة، وقضت على عامل كبير من عوامل الاضطراب. وإذا تتبعنا عقائد وتقاليد الأمم الهمجية المعاصرة، وجدنا فيها خير برهان على هذه القضايا

ففي البولينيز أحد أقسام الأقيانوسية، لا يجرؤ أحد على الاعتداء على أملاك الشيوخ والرؤساء والمحاربين لما لها من صفة مقدسة تبعاً لأصحابها، فحرام على أي شخص أن يعدو عليها بالسرقة أو النهب أو التبديد؛ ومن اقترف إثما من ذلك استوجب غضب الآلهة ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وجر على قبيلته بوجه خاص السخط والنكال لهذا كان عدوّ الجماعة التي تعمل على محاربته ورد المال المسلوب إلى أهله. يقول براون: (إن كل ما يملكه السيد أو يحيط به مقدس في نظر عبيده من سكان زيلنده الجديدة. لذلك لا يستطيع أحدهم - برغم حبه للتبغ - أن يمس ورقه منه علم أنها من مال السيد. وقد حدث مرة أن أعطى صديق لي حفنة من التبغ إلى عبد لم يكد يمضغها حتى علم أنها أخذت من منزل سيده، فأسقط في يده، وسارع المسكين إلى مولاه يقص عليه القصص، ويسأله المغفرة وإباحة التبغ الذي مضغه، خشية أن يجر عليه صنعه نتائج مهلكة) فبيت السيد إذا حرم آمن لا يستطيع مخلوق أن ينتهك حرمته. وكثيراً ما ترك رؤساء القبائل التي نتحدث عنها أموالهم وأمتعتهم معرضة للجمهور دون أن تصاب بسوء. وإذا أراد فرد عادي أن يحمي ماله، اكتفي بأن يميزه بشارة من الشارات المقدسة. ووسائل التقديس كثيرة: منها أن يقام في الحقل شاخص على هيئة صليب أو سمك نهري خاص أو أن يوضع تحت شجرة الفاكهة صورة فأرة إذا رآها السارق ولى مدبراً، أو أن يربط في عنق الشخص خيط أحم علق فيه رمز لتمساح أو قطة أو وطواط، تلك الحيوانات التي تثير في نفوس القبائل الهمجية عوامل الخوف والرعب، أو التقديس والاحترام، وقد تحمى قرية بأسرها بواسطة عزيمة أو رقية معلقة في رجل دجاجة، فالخرافة حلت محل القوانين والشرائع المختلفة في حماية الملكية الفردية والعامة لدى بعض الشعوب المتوحشة، وربما كان لها على نفوس معتنقيها سلطان لا يعد له سلطان قوانيننا المنظمة. فكثير من البدو تأنف نفوسهم من الإذعان لأمر، اللهم إلا ما أملته تقاليدهم الخرافية أو قيودهم الجمعية. يقول بعض الرحالة: (أنه ما كان يمكن حكم الزيلنديين بمجموعة من القوانين غير تلك التي جاءت بها خرافتهم. ذلك لأن هؤلاء القوم الحربيين يأبون أن يخضعوا اللوائح ومراسيم لم تصدر عن الآلهة، ولا يترددون لحظة في أن يرفضوا في احتقار أي أمر بشري، وفوق هذا فأنه من الخير أن يقاد شعب قيادة هينة بواسطة خرافة يدين بها بدل أن ترغمه القوة الغاشمة إرغاماً). وقد حاربت الخرافة السرقة بشكل يدعو إلى التقدير والإعجاب، فكان مدغشقر يعتقدون أن من سرق بيضة أصيب بالجرب، ومن سرق قطعة من الحديد حلت به عاهة جسمية أخرى. وكي يحمي أهل صيام حقولهم ينصبون فيها راية خافقة، فإذا ما جرؤ لص واعتدى على هذه الحقول أصيب برعدة وأضطرب اضطراب العلم الخافق ولم يقو على الهرب. ويقال أن صياداً كان يفقد كل يوم جزءاً كبيراً من صيده، فرأى أن يحصن شباكه وفخاخه بتلك الراية الآنفة الذكر، فلم يدن اللص منها في الغد إلا وارتعدت فرائصه، ولم يبرح مكانه حتى قبض عليه. وجرت عادة السومطريين (سكان سومطرة) أن يبتهلوا إلى آلهتهم ويستنزلوا لعنات السماء على من سرق شيئاً من أمتعتهم، فلا يلبث السارق أن يعلن عن نفسه وعما سرق. ويروى أنه سرق مره أرز سومطرية، فأخذت تدعو علناً على السارق، وفي الصباح وجدت الأرز المسروق قد وضع خفية أمام بابها. وهاك نموذجاً من هذه الأدعية الغريبة: (شياطين الماء وملوك الأرض والسماء، أسألكم المعونة والثأر لي ممن اعتدى عليّ. فأن كان السارق رجلاً فيخفق في جميع مشروعاته، وليصب بمرض يعذبه عذاباً أليماً دون أن يقتله، ولتخنه زوجه، وليعصه ولده، وإن ذهب إلى الحرب فليقتل، وإن ركب سفينة فليغرق دون أن يعثر له على أثر، وإن قطع شجرة فلتسقط عليه، ولتصب الآلهة عليه جام غضبها فتهلك زرعه ولا تمن عليه بشيء يأكله حتى يضطر أن يتكفف الناس ولا يجيبون سؤاله فيموت جوعاً. وأن كان السارق امرأة فلتبق عاقراً إلى الأبد، وليسيء زوجها معاملتها، وليهجرها بنوها، ولتصب بأمراض لا شفاء منها.) ويظهر قدماء الإغريق كانوا يلجئون إلى أمثال هذه الأدعية والابتهالات لحفظ أموالهم، فكانوا يكتبونها على ألواح خاصة يضعونها في الأمكنة التي يراد حمايتها، ولا يزال بعض هذه الألواح باقياً إلى اليوم. وقد استخدموا هذه الأدعية كذلك في إرغام السارق على الاعتراف بسرقته، وهذا ضرب من وسائل التحقيق أن عيب بخرافته فهو يمتاز بسهولته. أما الرومان فقد ذهبوا إلى ما هو ابعد من ذلك، واعتقدوا أن هناك آلهاً خاصاً يتولى حراسة الحدود بين الحقول المتجاورة، فكل من اعتدى على جاره كان عرضة لسخط هذا الإله العظيم. ويخيل إلينا أن إله الحدود هذا يفسر ما كان عليه الرومان الأول من عناية بالزراعة وشؤونها. وجملة القول أن الخوف الناشئ عن أسباب خرافية صرف الناس عن السرقة في كثير من الشعوب القديمة ولدى القبائل الهمجية المعاصرة، فنتج عن هذا احترام للملكية الفردية وأمن مكمن المالك من الانتفاع بها. ولا يفوتنا أن نضم إلى الملاحظات السابقة ما نشاهده بيننا من أثر الخرافة في حفظ المال والمتاع. فالعجل إن قيل أنه (للسيد) قضى الليل والنهار في الحقل وخارج الدار دون أن يصاب بأذى، وأن كان من عجول عباد الله الآخرين أضحى عرضة للسرقة والنهب والسم والذبح. وكيف لا (والسيد) الذي جاء بالأسير من بلاده كفيل بأن يحمى ماله غائباً أو شاهداً، حيا أو ميتاً! ولا أضننا نجهل الأحلام المتواترة والقائلة بأن فلاناً رأى (الإمام) مثلاً يطارده طوال الليل، لأنه، فيما يزعمون، لم يوف بنذر نذره له من قبل. وما أشنع هذا الزعم الذي يناقض أصلاً من أصول الدين، ويسمح بالتقرب إلى غير الله، وقد وصل الأمر ببعضهم أن ادعوا أن هذا البلد بلد (الدسوقي)، والآخر ملك (البهنساوي)، والثالث من نصيب (العريان)، ويعنون بذلك أن كل واحد من هذه الأمكنة دخل في حوزة حارس أمين وحام عظيم. فلم يكن بدعاً أن تلجأ طائفة من الناس إلى نقل ملكيتهم - إن صح هذا التعبير - ولو ادعاء إلى بعض الأولياء والمقربين ليحفظ مالهم من الضياع. أما التمائم والرقى فتعمل فيها ما شئت، وحدث عنها ولا حرج: فتارة يقال أن هذه التميمة تحفظ من السرقة والغرق والحرق، وأخرى يظن أن هذه الرقية ما تلبث في دار إلا أمنت كل مكروه، وعل عادة وضع التماسيح على الأبواب تعتمد على خرافة من الخرافات التي ترمي إلى حماية المال والمتاع.

إبراهيم بيومي مدكور
دكتوراه في الأدب والفلسفة


مجلة الرسالة - العدد 104
بتاريخ: 01 - 07 - 1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى