أحمد الزين - النقد والمثال..

تحدثت إليك في فصل سابق عن البيان اللفظي ومنزلته من الشعر، وأنه من أهم ما تتفاوت به الشعراء في مراتبهم، وتتمايز به درجاتهم، كما تحدثت عن الاختلاف بين لغة الشعر والكتابة والخطابة؛ واليوم أتحدث إليك في المعنى، فإن المعنى هو قوام الشعر، والعنصر الأول من عناصره، بل هو الشعر نفسه؛ وما حرصنا على تحسين الألفاظ وتجميل العبارات إلا ليظهر المعنى في صورة فاتنة تجعل القلوب أشد قبولاً له، وأقوى تأثراً به، وينطبع في أذهان الحفظة والوعاة، ويخلد على ألسنة الرواة؛ فلا ينال منه تعاقب الزمن، ولا تمحوه عوادي المحن؛ وتلك هي ميزة الشعر التي اختص بها من دون النثر، وإلا فقد كان النثر كافياً في تأدية المعنى وإفهام الغرض؛ وكما أن الأصوات الغنائية المعروفة الآن بالأدوار لا تعمل عملها في النفس إذا تليت على الأسماع كما تتلى الرسائل، وألقيت كما تلقى الخطب، بل لابد من جريانها على قواعد الفن الموسيقي الجميل، وأدائها بالصوت العذب الرخيم حتى تبلغ في النفوس أثرها، وتفعل في المشاعر فعلها، فكذلك المعاني الشعرية لابد في تأديتها من حسن الألفاظ، وعذوبة العبارات، وجزالة التراكيب، وقوة النسج واطراده، وما إلى ذلك مما سأذكره بعد في هذه الفصول، ليكون أثرها في القلوب أبلغ، وعملها في النزعات والميول أقوى؛ وكما أن سوء الطبع والتحريف، وكثرة الخطأ والتصحيف، وتعمية الخط، ورداءة الورق في بعض الكتب قد تذهب بما حوت صفحاتها من علم غزير وفضل كثير وبحوث دقيقة وأفكار عميقة، فلا غرابة أن يذهب سوء التأدية وضعف النسج والإبهام في العبارات، والإسفاف في الألفاظ، يما يريده الشاعر من أغراض سامية ومعان جليلة؛ بل إن الصلة بين المعاني والألفاظ أشد وأقوى من الصلة بين الألفاظ والكتابة، إذ المعاني لا تؤدَّى بدون العبارات، وقد تؤدَّى الألفاظ مشافهة بدون كتابة. وقد غفل أو تغافل أو عجز عن ذلك بعض الشعراء في عصرنا، فاعتبروا المعاني كل شيء في الشعر، على ما في معانيهم من الضعف والمسخ وسوء تناولهم إياها، وقصور شاعريتهم عن تحويل المعنى الأصلي إلى معنى شعري، وقلة خبرتهم بكيفية وصفها في الشعر، وما إلى ذلك مما سأحدثك به عند الكلام على المعاني؛ ولم يعنوا بالألفاظ أقل عناية، موهمي أنفسهم وغيرهم من قصار النظر أن بيان الألفاظ، وإشراق العبارات، ومتانة النسج، والبلاغة في الأسلوب، وإجراء الشعر على سنن الشعر العربي، أنواع من التزيين والتحلية والزخرف الذي مضى عصره، وانقضى زمنه، وذهب به العصر الجديد، ومحته آية التجديد؛ فملئوا الصحف والدواوين بشعر لا صلة بينه وبين الشعر العربي إلا الصلة العروضية في الوزن والقافية؛ علة أن بعضهم قد يتركهما مبالغة في التجديد، محتجاً بأن ذلك نوع من التقييد؛ على أنهم بعد أن أطلقوا الألسنة والقرائح من قيودها المزعومة، لم يأتوا بالمعجب المطرب في معنى ولا لفظ، ولم يبتكروا غريباً في تشبيه ولا خيال، ولم يخترعوا جديداً في تصوير عاطفة ولا إحساس؛ وإنك لتقرأ ديوان أحدهم من ألفه إلى يائه فلا تظفر منه ببيت يعلق بذهنك فتعيده، ولا معنى يملك لبَّك فتستجيده؛ وسبب ذلك يرجع إلى أنهم لم يقرءوا من الأدب العربي القديم ولا من علوم العربية ما يقوّمون به ألسنتهم، ولم يتعلموا من فحول الشعراء المتقدمين ما يهذبون به معانيهم قبل وضعها في قالبها الشعري، ويميزون به بين المعنى الشعري وغيره من معاني الكتابة والخطابة، فإنه مما لا ينازع فيه ذو ذوق فني دقيق أن المعنى الواحد تختلف صوره باختلاف تأديته في هذه الصناعات الثلاث، وأن الشعر والكتابة والخطابة كما تختلف في ألفاظها وعباراتها تختلف في تصوير معانيها وأغراضها، فإن الخطيب لا يعمد في تصوير معانيه إلى خلودها على مر العصور، وبقائها محفوظة في الصدور، ولكن يقصد إلى نوع من الإثارة الوقتية يلهب بها حمية الجمهور إلى ما يريده من الأمور؛ فإذا فترت همم الجمهور بعد ذلك الموقف لجأ إلى خطبة أخرى وهكذا، ففن الخطيب فنٌّ وقتي لا فن خالد، ولذلك لم ينقل الرُّواة إلينا من خطب الأولين ومواقفهم في المخاصمات والمصالحات وفي حضرة الخلفاء والأمراء ما يوازي كله ديواناً واحداً من دواوين الشعراء، ولا مجموعة واحدة من رسائل الكتاب. أما الشاعر والكاتب فإنهما يقصدان في تصوير معانيها إلى خلودها وبقائها؛ والفرق بينهما أن قصد الشاعر إلى تخليد أثره أكثر، وحرصه على بقاء فنه أقوى، فهو يضع في معانيه وألفاظه من جمال التصوير وروعة الفن ما يرى أنه كفيل ببقاء شعره وحياته على الزمن

ولذلك كانت رواية الشعر أشيَع، وما نقل إلينا منه أكثر

وأيضاً فإن الكاتب والخطيب يبالغان في تقرير المعنى وتأكيده في الأذهان بإكثار الأمثلة وذكر الأشباه والنظائر إلى حدّ الاستقصاء أحياناً؛ أما الشاعر فيقتصر من ذلك على قدر الحاجة، فإن الشعر ضيق لا يحتمل ذلك الطول، بل يراه في بعض الأحيان نوعاً من الفضول. وثم فرق ثالث هو أن الخطيب يراعي في تصوير معانيه أن تكون سطحية بسيطة، قريبة الغور، سريعة إلى الفهم، فإنه يوجهها إلى عقلية بسيطة هي عقلية الجماعة؛ وكما أن هذه العقلية سريعة القياد، فهي سريعة الجموح، لا يؤمن نِفارُها؛ وما أقرب انصرافها وإعراضها عن الخطيب إذا رأت في معانيه ما يكلفها مشقة الفهم وعناء الفكر، ولذلك يعتمد الخطيب في خطبته على الصوت والإلقاء وملابسات الموقف أكثر من اعتماده على غرابة المعنى وعمق الفكر

أما الكاتب والشاعر فيغربان في معانيهما ما شاءا، ويتعمقان في ذلك ما أرادا؛ تلك هي بعض الفروق بين المعاني في الصناعات الثلاث؛ فإذا رأيت في إحدى هذه الصناعات بعض الميزات الغريبة عنها فهي مستعارة من غيرها لا أصلية فيها؛ ولا غرابة في أن ترى الشاعر خطيباً أو كاتباً في قصيدته، ولا أن ترى الكاتب شاعراً أو خطيباً في رسالته، ولا أن ترى الخطيب شاعراً أو كاتباً في خطبته؛ وإنك إذا قرأت شعر ابن الروميّ وجدت فيه كثيراً من تقسيمات الكتاب وتعليلاتهم والاستدلالات المنطقية، والاحتجاجات الملزمة للخصم، كقوله:

لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد

وقوله يخاطب صديقاً:

وقد حلفنا على الوفاء جميعاً ... واجتهدنا وذاك جهد المطيق
فبأي الأحكام توجِب تصدي ... قك حتما ولا ترى تصديقي
وبأي الأحكام قولك برها ... ن وقولي من خُلّبات البروق
ليس في العدل أن تحكم في قو ... لك فارجع إلى سواء الطريق
ما من الدعويين إن ضِقت دعوى ... غير محتاجة إلى تحقيق
ولنا إن رددت ما ندّعيه ... رَدُّ ما تدعيه، ضيقاً بضيق

وقوله يعاتب صديقاً لم يحفظه في مغيبه وعاب شعره: لي صاحب قد كنتُ آمل نفعه ... سبقت صواعقه إليَّ صبيبه

إلى أن قال:

نبئت قوماً عابني سفهاؤهم ... وشهدت مجلسهم وكنت خطيبه
عبوا وعبتَ بغير حق منطقاً ... لو طال رميك لم تكن لتصيبه
وهب القضاء كما قضيت، ألم يكن ... في محض شعري ما يجيز ضريبه
هلا وقد ذُوِّقت دَرَّ قريحتي ... فذممت حازرَه حمدت حليبه
بل هبْه عيباً لا يجوز، ألم يكن ... من حق ِخلك أن تحوط مغيبه

وديوانه مملوء بمثل هذا الشعر الذي هو أقرب إلى رسائل الكتاب منه إلى قصائد الشعراء. أما الكتاب الشعراء في نثرهم فمنهم المرحوم أحمد شوقي بك في كتابه أسواق الذهب، والزمخشري في أطواق الذهب، والقاضي الفاضل عبد الرحيم البيسانيّ في رسائله الكثيرة المملوءة بها كتب الأدب

أحمد الزين


مجلة الرسالة - العدد 120
بتاريخ: 21 - 10 - 1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى