أمير صالح جبريل - الجثة

نشر في الصحافة يوم 22 - 05 - 2012

وأنا عائد من الجامعة إلى منزلنا في ذلك الطريق الليلي المعتاد كان يحتم علي أن أدخل إلى شارع ضيق طويل كممر مظلم أعبر في نهايته من فوق (خور) كبير إلى ميدان واسع يطل عليه المنزل .. كنت كعادتي حين أمشي في ظلام وصمت ذلك الشارع أشغل نفسي بسماع الأغاني من الموبايل بوضع السماعة المعلقة في أذني .. أمر من أمام الأبواب المتراصة في سكون عن يميني وشمالي .. ولكن في هذه الليلة حينما عبرت من أمام الباب الثاني عن يميني .. خيل إلي أنني سمعت صوت إمراة تهمس من خلفه تناديني بصوت متقطع
يا شاب .. يا شاب ..
نزعت السماعة من أذني ورجعت خطوتين للخلف أتصنت لأقطع الشك .. وبالفعل إنفتح الباب الذي كان يبدو موارباً وظهر شبح إمرأة في مدخله ..
أرجوك أدخل وساعدني ..
وإقتربت أكثر وتبينت ملامحها التي بدت لي كالظلال .. إمرأة شابة .. لم تمنحني فرصة للسؤال أو الحديث وفأجاتني بأن مدت يدها وأمسكتني من يدي ثم جرتني إلى الداخل بتوتر .. خفت .. وحاولت أن أنفض يدي من مسكتها لكنها قالت ببكاء
أرجوك ساعدني أن زوجي يموت بالداخل ..
ترددت في بادئ الأمر للحظات .. ثم ألغيت التفكير ومضيت خلفها مسرعاً وذلك عندما رأيتها تتقدمني ونظرات توسل تملأ عينيها .. وحين عبرت معها ممراً صغيراً مظلماً إلى داخل صالة طويلة مضيئة تبينتها بوضوح .. كانت إمرأة شابة تفوح منها رائحة كبريت دخان الطلح والشاف .. تلبس في ملابس نوم حمراء شفافة رأيت من خلالها وهي تمشي أمامي أدق نفاصيل جسدها .. ملأت أنفي روائح البخور والصندل وأنا إندفع داخلاً معها إلى غرفة في نهاية الصالة .. كانت غرفة نوم يتوسطها سرير (دبل) كبير .. ورأيت الرجل فوقه .. كان يرقد عارياً تماماً .. يتلوى وهو يشهق يبحث عن هواء للتنفس .. لم إهتم للمنظر كثيراً وإندفعت إليه وفي رأسي شئ من الأسعافات الأولية .. إنتفخ وجهه من الإحتقان والإختناق .. جلست بجواره علي ركبتي وأخذت أضغط بكفتي يدي على جنبيه لأحرك الحجاب الحاجز .. ثم إنتقلت أضغط بقوة على صدره فوق القلب مباشرة ضغطات متتالية .. كانت المرأة تضع رأسها بين كفيها وهي تعوي تارة من خلفي وأخري بجانبي .. وأخيراً نجحت محاولاتي .. وشهق الرجل شهقة طويلة جر بها نفساً كبيراً وطويلاً .. هدأ بعدها وسكنت حركته في تنفس منتظم دون أن يبدي أي حراك .. نهضت من جواره واقفاً وجررت طرف الملاءة المفروشة على السرير ورميت بها من فوقه أستر عريه .. ثم إلتفت إليها وهي ما زالت تعوي ..
يبدو أنه بذل مجهوداً كبيراً ...
تلعثمت ثم تداركت وعدلت جملتي
يبدو أنها نوبة سكتة قلبية .. هل تعاوده كثيراً ..
لم تنطق وهزت رأسها فسقطت دموعها ..
لا تقلقي .. لكن يجب نقله للمستشفي بسرعة حتى يتم إسعافه بصورة أفضل ..
ضمت يديها معكوفتين إلى صدرها تخنق بكفيها حلمتي نهديها النافرين خلف الملابس الشفافة .. وقفت تنظر إلي مرتبكة و لم ترد .. فأخرجت الموبايل من جيبي
سأطلب الإسعاف ..
صرخت ..
لا ..
ثم رفعت يديها في فزع لتمنعني .. أمسكت بيدي .. إستغربت وقبل أن تلتوي علامة الإستفهام في رأسي وتخرج من فمي .. شهق الرجل بقوة وتشنج من جديد .. وراح يتلوي بعنف أكبر مما رأيته في سابقتها .. فاندفعت إليه .. وإنثنيت على ركبتي أعيد نفس ما فعلته في المرة الأولى .. ولكنه ظل يتلوى .. وظللت أدلك وأضغط صدره .. وإزداد إحتقان وجهه بصورة مخيفة .. كان يرفس برجليه كالذبيح .. والمرأة الشابة بجواري تعوي .. ثم فجاة سكنت حركته .. وإنقطع نفسه .. وأسرعت وفتحت شفتيه وإنحنيت أنفخ في فمه بفمي كما ينقذ الغريق بقبلة الحياة .. لكن ذلك لم يجدي .. لقد همدت حركته تماماً .. كان صدري يعلو ويهبط و أنفاسي تتقاطع شهيقاً وزفيراً للمجهود الجبار الذي بذلته لإنقاذ حياة ذلك الرجل .. إنحنيت بأذني على صدره أتسمع دقات قلبه .. لقد توقف .. مسكت يده لإجس نبضات أوردته .. لقد برد جسمه .. لقد مات الرجل .. وإلتفت إليها .. وهي مازالت تعوي تمسك خديها بكفيها .. همست وعرق يتصصب على جبيني
تجلدي .. لقد مات زوجك ..
صاحت بصوت مكتوم وكأنها تخاف أن يسمعها شخص ما وهي تلطم خديها وتهز رأسها
ووب علي .. ووب علي ..
إهدأي قليلاً .. إهدأي ..
صمتت للحظات .. فسألتها
هل لديك أقارب هنا في الحي .. ؟
هزت رأسها بالنفي .. وهي تبكي .. قلت
إذن أعطيني تلفون أقرب الناس إليك .. والدك .. أخوك ..
واستمرت تبكي دون أن تنبس بحرف .. فواصلت كلامي
أو أهل زوجك ....
فقاطعتني باكية ..
إنه ليس زوجي ..
ووجمت للحظات محاولاً أن إستوعب جملتها .. ثم إنفعلت
وماذا يعني هذا .. ؟
قالت من بين بكائها
إن زوجي في مأمورية عمل بمدني وسيحضر في صباح الغد ..
والدهشة تعقد لساني
ولكن ..
صاحت باكية
أرجوك ساعدني ..
فصحت بأعلى صوتي
أنت تافهة ..
وإستدرت منصرفاً .. فجرت خطوات خلفي وتشبثت بقميصي .. فضربت يدها أبعدها عني ومضيت صوب باب الخروج .. سقطت لتلك الحركة خلفي فأمسكت بساقي .. جررت رجلي بقوة .. ومضيت .. سمعتها تتوسلني و تبكي وهي ملقية على الأرض
أرجوك ساعدني ..
ولم إلتفت إليها .. وخرجت مندفعاً من الغرفة عابراً تلك الصالة الطويلة إلى الممر المفضي لباب الشارع .. وسمعت خطواتها وكلماتها تركض خلفي
أرجوك ساعدني ..
وخرجت إلى الشارع ومضيت في طريقي مسرعاً دون أن إلتفت إليها وإتجهت صوب منزلي بعد أن قفزت من فوق ذلك (الخور) الكبير ..
سألتني أمي فور دخولي ..
لقد تأخرت اليوم ..
همست
المواصلات كانت صعبة ..
ودلفت إلى غرفتي .. أخذت أبدل ملابسي دون وعي وما حدث مازال عالقاً برأسي .. وعندما جلست مع أفراد أسرتي حول (صينية) العشاء كنت صامتاً وساهماً حتى أن أختي داعبتني
عامل عملة .. ؟
ولم إهتم لباقي التعليقات .. وعندما إحتواني سريري في ظلام الليل وهدؤه .. فارقني النوم .. وكنت كمن يتقلب على جمر .. وهواجس اللحظات السابقة تأخذني علواً وهبوطاً ..
(هل كان يجدر بي أن أساعدها .. ؟ .. لكن تلك خيانة .. هل كان يجب ان أبلغ الشرطة .. ؟ .. ما هذا .. ليس في الأمر جريمة .. توفى الرجل بسكتة قلبية لبذله مجهوداً فاق طاقته مع تلك المراة .. لكن .. الخيانة جريمة .. لكن لماذا إنصرفت .. ؟ .. كيف كان يمكن أن أساعدتها .. ؟ )
ولا أدري متى وكيف نمت ولكنني أذكر أنني سمعت صوت أذان الفجر يصدح من مكبرات مآذن المساجد .. ثم وجدتني قد إنحشرت في المواصلات ذاهب إلى الجامعة .. دخلت المدرج للمحاضرة الأولى .. علقت زميلتي وصديقتي نجوى
لماذا عيناك محمرتان هكذا وكأنك لم تنم ليلة الأمس .. ؟
نظرت إليها في صمت للحظات ثم همست
لاشئ ..
وعندما جلسنا في كافتريا النشاط في الجامعة بعد الفطور قال صديقي وهو يفرد جريدة على إتساع صفحتيها يقرأ فيها
أنظر هذا الخبر .. لقد وجدوا جثة رجل ملقية في الخور الكبير في حيكم ..
همست ..
خبر قديم ..
ولم أهتم لباقي تعليقاتهم وأنا أنهض منصرفاً .. وإندغمت في زحام (موقف) المواصلات جوار إستاد الخرطوم .. ورحت أتسابق مع الجميع .. فما أن تظهر (حافلة) في مدخل الشارع حتى نركض ونتعلق بأبوابها وشبابيكها .. حتى نجحت أخيراً وحصلت على مقعد جوار الشباك .. جلست أجفف عرق المعاناة عندما سمعت صوت إمرأة مسنة كانت تقف في الأرض تحت الشباك الذي أجلس جواره ..
المروة إنعدمت .. الشباب يركبون والكبار مثلى عاجزون ..
فرفعت صوتي دون أن أشعر ..
تعالي ياحاجة .. أركبي ..
وإستاذنت الجالسين جواري وأمامي ونزلت .. وأخذت المرأة المسنة تصعد وهي تردد
كتر خيرك .. الدنيا بخير ..
وتحركت بهم (الحافلة) .. مرت بجواري .. ومن شباكها في الركن الخلفي سمعت أحدهم يقول
ما يكون نشال .. ؟
لا أدري .. قد أكون إبتسمت .. أحسست ببرودة في جسمي فصار كالثلج .. وبتجمد كل حواسي .. لكنني جلست على الرصيف .. ووضعت رأسي بين كفي أرقب مدخل الشارع البعيد .. أنتظر ظهور (حافلة) أخري ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى