حفيظة الفارسي - أجرأ الكاتبات العربيات.. مليكة مستظرف، اللغة العارية إلا من الألم

من أين تأتّت لهن هذه الجرأة
في كشف المستور والمحرم والمقدس؟ كيف نزعن عن الرجل الشرقي آخر أوراق التوت التي يتدثر بها بداعي الأخلاق والتقاليد ليديم أمد سيطرته الاجتماعية والدينية والاقتصادية؟
نساء عربيات.. باحثات، كاتبات، شاعرات استطعن بأبحاثهن وكتاباتهن أن يعرين الرجل.. أن يسلبنه موقع القيادة ويستعدن دفة الحكي ليفتحن الحكاية من جديد بمنظورهن ، بأحاسيسهن، بقراءتهن لتاريخ من القهر والحجر.
أثارت كتاباتهن العديد من السجالات، بل قوبلت بالرفض والتكفير أحيانا
في مجتمعات تمسك بسلة الأخلاق والقيم ، فلم يزدهن هذا الاحتكار إلا إصرارا على اختراق
مناطق الظل والعتمة.
في هذه الحلقة، نستعرض أجرأ الكاتبات العربيات وما واجهته كتبهن من اتهامات وهجوم.

لم يكن حبرا ذاك التي كانت تكتب به القاصة والروائية مليكة مستظرف، كان ألما ووجعا يصرخ من كل حرف في روايتها الأولى «جراح الروح والجسد». تلك الرواية التي نكأت جرح البيدوفيليا المغربية. طابو من ضمن عديد يعري ما تبقى من عورة هذا المجتمع المعطوب المتستر بغطاء العيب والفضيحة كلما تعلق الأمر بالجسد. كثيرون اعتبروا روايتها «جراح الروح والجسد» بمثابة جزء ثان لرواية « الخبز الحافي» للأديب الراحل محمد شكري في قساوته وجرأته».
ذاكرة مقموعة تتفجر مثل شلال في هذه الرواية كي تخلخل وتربك هذه الطمأنينة الخادعة التي يستطيبها المغاربة وسط بشاعة واقع يستغل فيه الكبار براءة الصغار، والأدهى أن يكون هذا الاستغلال من الاقارب كما تسرد الرواية :من الأب ، الأخ الاكبر، الخال، الجار، بقال الحي، صديق الوالد.
في هذه الرواية الصادمة حاولت مليكة مستظرف نزع الاقنعة عن الجميع وأن تزعزع الصور النمطية عن الاب ، الاب الذي يغتصب بناته، ويضرب زوجته، ويخونها في نفس دار الدعارة التي تشتغل بها ابنته، الابن الذي يدرس على نفقة أخته التي تشتغل بالدعارة ويغمض عينيه عن الامر الى أن يتخرج ويبدأ بمحاسبتها على أوقات دخولها وخروجها لفرض رجولة مزيفة.
قررت مليكة مستظرف على لسان الساردة في هذه الرواية أن تواجه نفاق مجتمع بأكمله عبر فضح تناقضات أفراده وحراس أخلاقه: «اليوم لملمت ما تبقى من شجاعتي وقررت أن أقول كل شيء بدون خوف او حشومة.. أو عيب..سأحكي بكل جرأة. سموني ما شئتم زنديقة، مجنونة فما عدت أهتم. لقد طفح الكيل»(ص5).
“لن أبتلع لساني وأصمت، بل سأتقيأ على وجوهكم كل ما ظل محبوساً طوال هذه السنين. سأنشر غسيلي الوسخ على الملأ ليراه الجميع. «
الرواية فرصة لمداواة الروح وإعادة ترميم هذا الجسد الذي استباحه الكبار وسط الصمت الذي قابل هذه الجريمة لذا تقول عنها الراحلة مليكة مستظرف» جراح الروح والجسد» نسخة من الألم والغضب، ربما الظروف التي عشتها عبر غسل الكلي بالدياليز، وعملية جراحية فاشلة، كل هذه الأشياء دفعتني للكتابة، حيث كانت علي ضغوطات، وكان يجب علي أن أفجرها بطريقة أو بأخرى عبر الكتابة. الكتابة بالنسبة لي هي نوع من المخدر، يلهيني عن التفكير في الألم، فإذا استمريت أفكر في الألم والمشاكل التي أعانيها صحيا، وبكل صراحة سوف أجن، أو سأنتحر، لذلك الكتابة كانت عندي نوعا من المخدر، و نوعا من المهدئ لهذا العالم الذي أعيشه، لأغرق في عوالم أخرى وشخصيات أخرى».
بنفس اللغة العارية والمصرة على تعرية مكامن الجرح الذاتي، تكتب مجموعتها القصصية وهي تنازع الموت وتراوغ المرض بالمستشفى «ترانت سيسي» في 2004، بلغة شفافة، عارية، محايدة، .كتبت عن شخصيات مهزوزة نفسيا ومشرعة على الجنون والقذارة والقبح، عن الهامش والمهمشين المقصيين من حسابات الدولة ما يعمق من عزلتهم ويسمح ببروز ظواهر اجتماعية كالدعارة، التسول، المخدرات، البطالة، الشعوذة.. واقع يلخص الموت البطيء للمهمشين الذين اختارت تجميعهم في هذه المجموعة لتغوص في عمق الانهزام الانساني الناتج عن القهر والعنف والاقصاء، لهذا شكلت كتاباتها علامة فارقة في المشهد الثقافي المغربي بتكسيرها للزيف والنفاق والصمت المضروب على واقع كريه وقبيح .
في مجموعتها القصصية «ترانت سيس»، الصادرة عن «مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب»، تعود مليكة مستظرف للعزف على نفس الوتر الحساس ، تفضح مجموعة من مظاهر القبح الاجتماعي، وبشكل خاص الاضطراب وعدم التوازن الذي يطبع علاقة الرجل بالمرأة في ظل مجتمع تسيطر الامية والبؤس المادي والفكري ، تصور مجموعة من مظاهر التفسخ الاسري والعنف ضد الابناء والاخوة والزوجات، والطلاق والادمان على الخمور، والمرض الجسدي والنفسي واضطهاد المرأة وظروف البؤس التي تدفعها لدخول عالم الدعارة اضطراب الهوية الجنسية في قصة «اختلاف».
شخوص مليكة مستظرف في هذه المجموعة مغلوبة على أمرها. رجال مهزومون ، نساء تائهات، معنفات، عشقات، في جحيم الدار البيضاء وعدوانيتها وزحامها وضجيجها.فطفلة قصة “ترانت سيس” تعيش مع والدها المهتز نفسياً الذي يستقبل عشيقاته في البيت مساء كل سبت، فيما البنت تجلب «عايشة الطويلة « لابيها من بائعي الخمور، تنزوي في غرفتها وترسم نساء بلا ملامح وتتساءل: «كيف هو شكل أمي؟. «
عن الانتقادات والموجهة لكتاباتها قالت في حوار سابق معها أن «أفظع نقد وجّه لي هو أنّني أكتب نصوصا إيروتيكية .أحد أصدقائي دكتور مثقّف أخبرني أنّه لا يحتمل أن يرى ابنته تقرأ ما أكتب لأنّ روايتي بالخصوص تحتوي على القاذورات. هذا المثقّف كان يكرّر في كثير من الملتقيات أنّ روايتي يجب أن يقرأها كلّ شابّ وشابّة. تأكّدت ساعتها أنّنا مجتمع يعاني شيزوفرينيا لكن توصّلت لأمر واحد: إذا أردت الاستمرار عليّ أن أضع القطن في أذنيّ».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى