مهدى يوسف ابراهيم عيسى - أيوب أب غرة

ذاك اليوم تلعثم إمام المسجد و هو يرى ذاك المشهد الغريب و قد عهدناه خطيبا مفوها . الأطفال طفقوا يركضون " وراء الكارو" و عيونهم الصغيرة قد اتسعت فى دهشة عظيمة ، بينما خرج " عثمان البخيل" من دكانه و هو يراهم يرددون " عم أب غرة جن " ، مما منح بعضهم فرصة لسرقة حلويات و بضعة جنيهات من داخل الدكان . بل إن الأخوين " صديق " و " أحمد " الذين ظلا متخاصمين لسنوات طويلة بسبب استيلاء الأول على ميراث الثانى ، شهدتهما الحارة يتحدثان عن ذاك المشهد اللا مألوف و كأن خلافاتهما قطعة ثلج أشرقت عليها الشمس .
لا نعلم متى ولد العم " أيوب أب غرة " على وجه التحديد . وحتى الذين يكبرونه سنا لا يعلمون له تاريخ ميلاد محدد . بدا لنا دائما و كأن الرجل قد سقط من السماء مع أمطار خريف ما ،أو خرج و حارتنا من باطن الأرض في لحظة ميلاد واحدة . لكن الثابت أن الرجل الأسمر البشرة ، النحيل الجسد ، الذي ظل يحترف الضحك و توصيل الناس ، ظل طوال حياته معلما بارزا من معالم الحارة مثله مثل المسجد العتيق الذى بدأت اللجنة الشعبية للحى تدخل عليه بعض الإصلاحات ، و مثل السينما التى هدمت و بيعت متاجر لبعض الأثرياء فى مزاد شهير . و كما تاريخ ميلاده ، لم نعلم له إسما كاملا يوما . يقول أبى إن الرجل عمل طوال حياته سائقا لعربة الكارو" تلك ، و عاشر فى حياته الخيول أكثر مما عاشر البشر. و قد كناه الناس بلفظ "أب غرة " لأن أول حصان اشتراه كانت به غرة بيضاء فى جبينه الأسود . " كان أول حصان اشتريهو . عاش معاى سنوات طويلة . و بى سببه بنيت بيتى ده و عرست و أنجبت أولادي التلاتة الأوائل ، و مات لمن كانت مرتى حامل بى بنتى الوحيدة " . حكى لنا كبار السن أن يوم زواجه كان يوما مشهودا . قدم له الناس من كل حدب و صوب . " الأعمى جا شايل المكسر" هكذا قالت جدتى . " الرجال بقو إرقصو مع النساوين التقول الله نزع الشهوة من قلبوهم . الغريب بقى برقص مع ود الحارة ، و الفقران و الغنى أكلو فى نفس القدح . و المتعلمين و الجهلة شربوا الشاى سوا من بعد الغداء " . عرف عم " أيوب " بكرمه رغم ضيق ذات يده . فلم يحدث طوال عمره أن أوصل واحدا من جيرانه لقاء مال .
صباح كل يوم يستيقظ " أب غرة" مبكرا قبل شروق الشمس . يرتاد المسجد ليصلى الفجر ثم يعود إلى البيت و مسبحته الطويلة تتدافع حبيباتها للتزحلق على خيطها الأسود المتين فى حب. يقوم بملء " الزير " خارج حوشه بالماء لعابري السبيل ثم يحتسى الشاي بسرعة و يخرج إلى الحارة طلبا للرزق. " زمان كانت فى بركة " . هكذا يقول دائما كلما التقيته . "الجنيه تشترى بيهو السوق كلو . و الرغيفة الواحدة تكفى العشرة تنفار . هسه الرغيفة كان مليتها سم ما تكتل الزول " . بيت " أب غرة " طينى متواضع ، تشمخ داخل حوشه الصغير شجرة نيم عملاقة. يضم الحوش غرفتين و ديوان فى أطرافه . يجفف " أب غرة" دمعة تنحدر على خده فى حرقة و هو يحكى لى عن ابنه البكر . " فرحت لمن أتولد زى التقول أتولدت أنا من جديد . قلت باكر بكبر و ببقى سندى . لكنو لمن كبر تعب من الملطشة فى البلد . جانى يوم و قال لى ماشى العراق . و سافر بعد ما بعت ليهو الوراى و القدامى . كان فى الأول برسل مصاريف شوية شوية واخبارو معانا . من يوم الأمريكان خشو بغداد أخبارو انقطعت . ما عارفنو هسه حى و لا ميت " . أعرف عنه أن ابنه الثاني يعمل " كمسارى" فى الخرطوم و يعودهم مرة كل ثلاثة أشهر . و هو متزوج من أرملة تبيع الشاي فى سوق الناقة . و لعله أفضل الأبناء له . الثالث التحق بالجيش . قضى في الجنوب عامين و نصف . ذهب إليه بساقين لكنه عاد إليهم و قد ذهبت إحداهما كما ذهب الجنوب نفسه . تلقى تعويضا زهيدا من الحكومة إبتنى به دكانا صغيرا يعول به أسرته الصغيرة. أما البنت فقد تزوجها إبن عم لها في اقاصى دارفور و لم يرها أبواها سوى مرة واحدة حين حضرت إلى الحارة معزية في وفاة قريبة لهم.
يقضى " أب غرة " سحابة نهاره جائبا طرقات الحارة . فهى عالمه الذي لا يخرج منه أبدا . بل إنه لا يصدق أنه توجد عوالم أخرى خارجها سوى مكة و المدينة اللتين تهفو إليهما نفسه ، و كلما عضه الوجد عض على شفته السفلى في قوة حتى يوشك أن يدميها . يظل يلتف مع أزقة الحارة الممتدة لا كالثعابين و لكن كخطوط راحة اليد ، يمازح هذا و يشاغب هذه و يجامل أولئك و صوت قهقهته الوسيمة يجلد الهم المردوم فى قلبه . يوما ذهبت إلى المسجد لأداء الفجر فلم أجده . ساورنى قلق فذهبت إلى بيته . وجدته ممددا على " عنقريب" صغير تحت تلك النيمة العملاقة . دعاني إلى كوب شاى فوافقت . سألته عن أحواله فقال و صوته يتهدج فى انكسار " داير أمشى أجدد ترخيص الكارو . و كمان الحكومة قالت لازم كل "كارو" تكون فيها نمرة زيها زى العربية . دا شنو دا يا ولدى ؟ " . هدأت من روعه و دسست فى جيبه مبلغا من المال رفضه لكنى حلفت عليه بالطلاق فأخذه و عيناه تفيضان نيلا دفوقا . بعدها بيومين إلتقيته مبتسما و النمرة الجديدة تتلألأ على مؤخرة الكارو . سأله جار لى عن سبب سعادته . قال ضاحكا إن أحد زملائه كتب على مؤخرة الكارو التى تخصه " إفراج مؤقت " فاعتقله السلطات لساعات متهمة إياه بالاستهتار بالقانون ، إذ المعروف أن المصطلح كان يكتب على لوحات سيارات المغتربين الذى أجبرتهم الحرب على الهرب من الكويت فى التسعينات . " البلد دى كان إنت فقير فيها بتحصل ليك حاجتين : تنداس و يطبق عليك القانون " . هكذا يقول "أب غرة " .
مرت به الأيام صاعدة و هابطة . ثم فجأة ألم به خطب جلل . إستيقظ فى منتصف الليل على أنين يشق الحوش . عرف فيه صوت حصانه الأثير . هرع إليه فوجده يتلوى في ألم عظيم . أحضر اللمبة الزيتية الصغيرة و على ضوئها الخافت رأى عينى صديقه فى الشقاء تتحدر دموعهما كبنى البشر. تحسس الشعيرات التى تتدلى على عنقه و كأنه يحثه على البوح بما يؤلمه فلم يتلق سوى مزيدا من الأنين و الرفس بالقدمين الخلفيتين و الذيل يكنس التراب فى حيرة . طفق " أب غرة " يستغيث فى هستيريا . تجمعنا حوله و لم نفقه ما حدث . أحد زملائه فى المهنة و الجراح نصحه أن يسقي الحصان المكلوم عجينا مخلوطا بملح فلم يجد الأمر فتيلا . و ظلت صحة الحصان تتناقص كالعمر كل يوم جديد حتى مات .
ذاك اليوم إستيقظنا على ذاك المشهد المؤثر . كان العم " أيوب أب غرة " يضع أطراف جلابيته بين أسنانه فى رهق و هو يجر العربة "الكارو" بنفسه . و رغم برودة الجو فقد كان العرق يتصبب على صدغيه فى غزارة و هو يسحب بضعة جوالات من الإسمنت . إرتفع الغبار و الصبية يركضون وراءه يتصايحون مرددين " عم أب غرة جن " . طفق " عثمان البخيل " يدفعهم عن الرجل فى قوة بينما تجمعت بعض النسوة خارج بيوتهن يتابعن المشهد فى فضول عظيم . هرعت إليه و أنا أصيح بالصبية أن يتفرقوا عنه . أسندته على كتفى ، و شققنا جموع الفضولين و دموعه تبلل كتفى ، بينما غاص قلبى بين ضلوعي فى لوعة عظيمة.


مهدى يوسف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى