ميساء العامري - أنا أنتظر المفاجأة فقط..

أنتظر قطار ظهيرة الأحد. تنتابني رعشة على أثر نسماتٍ هبـَّت، ثم لا ألبث أن تفاجئني ريح فتحمل نفايات الأرض حولي.

“الحياة تقاطعات من خيبات الأمل الجميلة..” (هكذا بدأت حديثها معي ذات مرة). “قصصها تنتهي عند نقطة ما.” (هكذا أردفت). “الأجزاء الثانية تواجه فشلاً ذريعاً كما في السينما إلا في ما ندر”، (أفاضتْ تتفلسف ممرِّرة أصابعها في خصلات شعرها). “تذهب القصص ويبقى أبطالها، لكنهم يبقون متعبين مثلك تمامًا يا ميساء...” (ثم مررت بإصبعها على شفتها السفلى عند هذه الجملة). “في تعبِهم وخفوتِهم يتذكرون كل ما مضى، كل الوجوه، ويلاحظون أشياءهم المهمَلة المتناثرة في زوايا بيوتهم.” (نفثت الدخان في الفراغ الذي يفصلني عنها).

يعبر طيفها رأسي لدقائق، قبل أن أطرده، فيحل مكانها الحشود دائمو التأفف.

هذا يرضى عني صباحاً ويشتمني آخر مساءً. تلك تحدثني عن أولادها الذين هجروها بمحبةِ التي ترفض الاعتراف بالحقيقة. وذلك يأبى أن يأخذ الدواء، يريد أن يتحسن ما إن يبلع الحبة. بالنسبة له، فترة الإختبار هي يوم واحد لا غير وبعدها يبدأ عصيانه الصحي.

عند كل ظهيرة، كنت أخرج من غرفتي، من البيت. تبلع رئتاي هواءً منعشاً (لم أعد أتذكر كم أكره رائحة الداخل إلا عندما أستنشق هواء الخارج). كنت أُخرِج سيجارة من جيبي. (رغم كوني قد حذرت أحد أصدقائي من خطورة التدخين للتو)، وأنتبه: من أعطاني هذه السيجارة، وكيف صمدت في جيب ردائي من دون أن تتلف؟

تمج مني و أنا أمشي. أتوقف، وأنفث دخاناً، ثم أعاود خطاي. أتجه إلى “الإستاد” القريب الفارغ من اللاعبين، وأجلس على أحد مقاعده البلاستيكية الصفراء.

كانت خلوات “الإستاد” دائماً ما تـُقطَع بأغنية. يطل “نيسان” فيروز فجأة في عز صقيع المدينة، وتعود هي إلى تونس فجأة. ألتفت فأراها هناك تسمع الأغنية من هاتفها. أنا “نيسانها”، واستراحة غدائنا غالباً ما تطول قبل أن نعود، أنا إلى المقهى، وهي إلى محطة الحافلة.

بعدها، أتخيل ما حدث معها عندما أتت لزيارتي: يقرِّعها زميلي للحظات قبل أن يلحظ هدوئي الغريب وابتسامتي. فهو يعلم أنّي لم أعد مغرمة أو حتى مهتمة. وبدورها، تستعيد هي ما حدث معي شخصياً قبل عام أو أكثر مع تلك الغريبة الرائعة التي كانت يوما أثمن ما تملك.

يطلع كل ذلك الآن وأنا أنتظر القطار. من داخلي أطلع. من أماكن ظننت أنني نسيتها، أو أغلقت عليها جيداً. كذب ظني. لم أنجح في محو الأشياء. ها أنا أنتظرها أن تصل. كم مضى على عدم وصولها؟ يوم يومان؟ أسبوع؟ شهر؟ أكثر؟ هل هذه أغنية ؟ هل ينقص هذا الانتظار الشتاء؟ ألا يلائم الخريف، أم ماذا؟

كل أحد، تطيِّر الريح النفايات المهمَلة على أرض المحطة، ويتابع القطار طريقه من دوني. من دونها. أبقى جالسة على المقعد، وترقص النفايات حولي، فأحزن للحظات. للحظات فقط. فأنا أعلم أنّي لا أزال أحتفظ بعينيها العسليتين و”نيسانها الذي لا يخفت أبداً”. هكذا قالت لي مرة، وأنا استغربت لحظةَ أسرَّ لها بهذه الملاحظة، ولم يمنعني استغرابي عن تصديقها.

أصدقها دائماً، حتى لو لم تأتِ. ربما لذلك، لم أعد أستغرب عدم وصولها. أنا أوقن أنها ستطل فجأة كما دائماً، ولذا أعود أنتظر، كل أحد، على المقعد الخشبي ذاته.

أنا أنتظر المفاجأة، فقط...

ميساء العامري
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى