محمد حيدار - الحكي والقصّ أية علاقة..

"هندسة الإغواء"، هو عنوان المجموعة القصصية الثانية للكاتب، و هو عنوان ربما أوحى لغير الراسخين في تفريعات علم اقليدس، أن الأمر يتعلق بحقل مستحدث قد أضيف إلى حقول الهندسة، بل و ربما عجب أنصار العلوم البحتة لإقحام مصطلح الهندسة ضمن عالم الادب الذي هو غير عالم الارقام، فالهندسة في نظرهم – وهم محقون - لا يتسع صدرها لنوازع الإغواء، كما أن هذا الإغواء لا متسع فيه لها .
لكن في عالم الإبداع الأدبي قد يحدث هذا وذاك، فهو ــ لطرافته ــ قد يحمّل المفاهيم من الأوجه ما لم تكن قد عُرفت به في مظانها الأصلية، ولذلك لا ننصح أتباع اقليدس، بالبحث عن أية ملامح لتحكم هندسي في خرائط هذه القصص، فضلا عن شحن هذه الخرائط بحمولات من الأغواء المفترض. لأن كلا الأمرين لا يضطلع عنوان هذه المجموعة القصصية، بادعاء الترميز اليه ضمن المستويات الدلالية المنظورة على الأقل.
إنه من ناحية أخرى ــ وفوق ذلك ــ لابد من تنبيه القارئ الكريم الى انها ليست حكايات ــ حتى ولو كان الحكي جوهر كل عمل سردي ــ(1) فهناك فرق قد يكون اصطلاحيا في نظرنا على الاقل بين الحكاية والقصة، وهذا استنتاج شخصي قد لايلزم أحدا غيرنا، ولو غالى المتعالمون ــ إن استعرنا المصطلح من مولييرــ باسم الضبط الاكاديمي، وسلطة المرجعيات النقديــة، أو قل.اتفاقيات القصة أو تشريعاتها كما أصبحت تسمى الأن لدى الدارسين الأكثر حداثة
فالحكي من القص في مفهومنا، قريب من ثنائية الطبع والصنعة في الشعر ولو بوجه أخر، يجعل الحكي طبعا والقص صنعة، أي أن ما تخضع له الحكاية من جماليات وتقنيات، إن على مستوى اللغة أو على مستوى إعادة تشكيل الحدث والشخصية، أوالتعاطي مع مختلف تمظهرات الزمن، فضلا عن هندسة المعنى، هو ما ينتقل بها، أي بالحكاية من مجرد هيكل ومادة خام الى تحفة فنية، الى قصة
بل إن الحكي من القص هو بمثابة الزهد من التصوف، ــ إذا سمحنا لانفسنا بهذه المقارنة المنهجية ــ إذ بقدر ما يتميز الأول ، أي الزهد بالبساطة والتلقائية الذاتية دونما الأخذ بمرجعيات أي من المنظوما ت العرفانية المقعّدة ــ بالعين المضعفة ــ ، والملزمة يقوم الثاني أي التصوف على مفاهيم مركبة، وزخم معرفي و بعد فلسفي، بل و تعقيد وإيحاء حتى في لغة النص التي تُفتح بدورها ـــ نتيجة لذلك ــ سلسلة من المستويات الدلالية ، قد تكون تراتبية تجعل فهوم النص تتجاوز فهوم منتجه، فتتعدد بتعدد الدارسين والقراء المحترفين، بينما الأمر في الزهد لا يعرف كل هذا الاختلاف، وهذا الانضباط الفكري، وهذه الاضافات الممنهجة ، إلا من باب الاجتهاد الذاتي على مستوى الفعل وليس التنظير.
ومن هنا، وفي حين تكتفي الحكاية بما نعرفه عنها عادة من مغامرات وتشويق ومفاجآت، وإعلاء مبالغ فيه لشأن البطل، تستعيض القصة الحديثة على الخصوص ــ عن ذلك بالشحن الفكري والتكثيف اللغوي والاكتفاء بالترميز والإبراق، وكل تقانات السرد القصصي، فتتفتق الأبعاد وتتقاطع الازمنة،.وتفتتح الأجواء ، و ذلك مع مراعاة رابط ما يوصلها بشكل أو بأخر بمحور القصة لضمان وحدتها.
وعكس ما هو عليه الحال في الحكاية، حيث الأمور أكثر وضوحا، يكتفي هذا الرابط في القصة ــ شأنه شأن عنوانها ــ بتمظهرات ملمحية افتراضية غير قطعية وغير مرئية ، وإلا افتقد نكهة الاغراء..
ومن هنا أيضا، لم يخطئ من تنبهوا الى ذلك الالتحام العفوي الذي حدث بين القصة والقصيدة الحديثتين، سواء من حيث ابتكارات أساليب معالجة الحامل المضموني، أوالإحالة اللفظية ،واعتقد ان هذا الالتحام لاتحققه الحكاية في مفهومها القديم ، سواء مع القصيدة الحديثة أو القديمة عكس القصة التي تحررت من الوظائف الغرائبية ـ في مفهومها التقليدي ــ والمفاجأة والخرافية ، وتصاعد النبض .و و الخ.
وهذا لايمنع طبعا من اشتراك الصنفين، الحكاية والقصة في أساسيات السرد، ومنها بالطبع وظائف الشخوص، وتوفر الأمكنة التي أفلح النقد الحديث في تصنيفها وتحديد طبيعة كل منها، كما انه لاغنى لهما عن أزمنة يحددها السياق غالبا.
وإذن فانت بين أمرين، إما أن تحكي وفق وظائف فلاديمير بروب
الصارمة، وإما أن تقص بحرية يكفلها لك التجريب، ففي الوقت الذي تنغلق فيه الحكاية على سيرورتها، محددة مسبقا معالم رحلتها، تنفتح القصة انفتاحا يجعلها اوسع من هذه الرحلة، وأكثر تقبلا لكل راكب ولكل قول، شريطة أن يضع لهما الكاتب من الوسائط الظاهرة أو الخفية ما يمكنهما من الانتساب الى عالمها، الى روحها، حتى لا تتحول الى نوع من الكشكول .
وتأسيسا على ما سبق، ليس من الضرورة أن ينتظر القارئ الكريم من هذه المجموعة التي بين يديه، حكايات تنتهي باستكمال ما ابتدأت به، ولو أن بعضها ـ بحكم تباين أزمنة كتابتها ـ لا يجافي كثيرا هذه التقنية .



ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذهب النقد الحديث الأن الى الإقتناع بالحكي كروح للقصيدة الشعرية وليس للعمل السردي فقط .

* (هذا مفتتح مجموعتنا القصصية الثانية الموسومة " هندسة الإغواء" التي صدرت بالجزائرعام 2013)

:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى