محمد سليمان الفكي الشاذلي - نجوم العشيات

\"موتوا قبل أن تموتوا \" هكذا ارتفعت الصيحة التي يطلقها من حين إلى حين عبد الغفار ساكن المقابر . صيحته كانت تعلو وتصبح أكثر حدّة في الليالي التي لا يمكنك أن ترى فيها شيئا سوى النجوم البعيدة .محمود عبد الكريم جارنا من ناحية الشرق ظل يحكي على الدوام أن بركات عبد الغفار الذي يقول أهل الحي إنه سكير عتيد هي بركات لا تنتهي ، وأن سره باتع ، والدليل أن وحيدته مريم تمشي الآن على قدميها بل وتهرول وتجري إن شاءت بعد أن كانت مقعدة .
يقول محمود عبد الكريم لكل من يلقاه :\" بعد أن عجز الأطباء والفقراء والشيوخ عن علاج تمرة فؤادي مريم التي أقعدها الكساح شرد مني الذهن وتغيرت حالي وأدمنت الخمر . وذات سحر وأنا أتقيأ وأترنح من فرط السكر في أزقة الحي الضيقة سمعت هاتفا يهتف بي! كانت في يدي قنينة فجرعت منها جرعتين وضحكت لما قال لي الشيطان : إذهب لعبد الغفار في راكوبته التي في وسط المقابر، اسقه لعله ظامئ لقلة المال ، نادمه حتى تأتيا على القنينة وما بقي فيها فالدنيا عذاب لك وعذاب له. ضحكت على عبد الغفار الغريب الأطوار لأن سمعته كسكير قد بلغت كل الشياطين . سلكت الدرب صوب المقابر . وأصدقكم القول بحق الله أني رأيت الرجل يصلي بتلاوة كأنها تأتي من الجنة ووجههه يضئ عقب كل ركعة وعقب كل سجدة . انتظرته لكن صلاته طالت فطفقت أشرب من قنينتي وأتأمله حتى أتيت عليها . قبيل الفجر قال: السلام عليكم ، نظر إليّ وسألني :\" خير؟ فأجبته بأني أتيت لمنادمته لكنه أعاد السؤال ثم أردف : ولماذا أنت على هذه الحال؟ فحكيت له حكاية بنتي مريم فقال تعال يا محمود ، تعال اجلس جنبي ولنرفع أكفنا للمولى عز وجل شريطة النية والإخلاص ونسأله العافية لها . ضحكت شديد ضحك ّ لكني على كل حال فعلت ما قال .
بعد انتهائه من الدعاء والتضرع طلب مني أن أعود إلى داري وأستريح ، فمضيت عنه وعدت إلى بيتي فغفوت ساعة لأصحى على صوت مريم تضحك كما لم تضحك أبدا . فتحت عيني فلم أصدق عيني! كانت مريم تجري تطارد فراشات ثلاث ملونات وزاهيات هن فراشات الصباح . صرخت : يا إلهي... وعدوت صوب المقابر وأنا أصرخ : يا شيخ عبد الغفار .. يا شيخ عبد الغفار .. البنت صارت تمشي .. البنت صارت تمشي ...
ولما وصلته أجلسني بقربه وقال : يا محمود ما الغريب ؟ في الإنسان قوة لا حد لها ، ثم إن بنتك منه وأنت منه وأنا منه ومن منا لا يجيب ذاته ؟ فقط الصدق والإخلاص . الإخلاص يا محمود ثم عليك أن تعلم بأنني لست شيخا ، وكل ما هناك هو أنك وفي لحظة مقدسة ترحب بالإستشهاد ، ترفع كفيك بالدعاء وتغرس بذرته في نفسك لينمو شجرة خضراء. لقد دخلنا الحضرة يا محمود ، أنا وأنت دخلنا الحضرة وهي تكون دائمة لأنها دائمة الوجود ، وهى تتجلى في الدعاء ، تتجلى في الصمت كما تتجلى في الكلام ، إنها تذكرة دائمة تارة تكون حادة محرقة كالشلل الذي أصاب بنتك ، وتارة أخرى تكون لينة لطيفة مثل نعمة المشي التي عادت لبنتك ، فالاختلاف هو في الدرجات لا في الحقائق ، ونحن ندرك أننا لسنا سوى خيال وأن الله عز وجل هو النور الذي نستمد منه وجودنا ولا فرق بين أن يكون المرء مقعدا أو أن يكون ماشيا . هل فهمت يا محمود ؟ \" صحت فيه : \" أنت شيخ الشيوخ لقد ارتقيت... لقد تجردت ...\" قال :\" لا يمكنني أن أقول بأنني قد ارتقيت أو تجردت لكني غيرت ذبذبات الموجة على الأصح .\" قال محمود وقبل أن أغادره قلت في نفسي فرصة وأعرف منه :\" يقولون إنك تنادم وتشرب الخمر و...\" فقاطعني :\" أي خمرة قالوا بأني أشرب؟\" صمت وأخذت طريقي مبتعدا.
\"موتوا قبل أن تموتوا \" تناهت الصيحة ، صيحة عبد الغفار . إنها تعلو في أي وقت ، أحيانا في الفجر ، أحيانا في النهار أحيانا في الأصائل لكنها تكون أكثر حدة في العشيات التي تضيؤها النجوم ، وأحيانا تشق حلكة الليل أو تمزق السحر . \"موتوا قبل أن تموتوا \" ! عبد الغفار كان على الدوام وحيدا ، وكان يعيش في راكوبته التي نصبها من القنا والخيش وسط المقابر. منذ أن فتحنا أعيننا على الدنيا وجدناه على ذات سمته كأن تغيرات الكون لا تمسه . البعض يقول إنه في الستين والبعض يقول : لا في السبعين هو . لكنه كان في أعيننا هو هو ، قدماه حافيتان في الصيف وفي الشتاء. جلبابه من الدبلان الأبيض، رأسه حليقة ، شاربه بني خفيف وكذلك لحيته بنية خفيفة . عيناه كانتا واسعتين صافيتين لكنه نادرا ما كان يرفعهما عن الأرض ، كأنه كان يعرف ما فيهما من سحر هائل وجاذبية لا تقاوم .النسوة كن يقلن :\"مسكين عبد الغفار عين وأصابته فقد كان نابغة الحي ودخل كلية العلوم في جامعة النصارى في البندر الكبير لكن أصابته العين ، والعين تدخل الرجل القبر والجمل القدر!\" عبد الغفار دخل المقابر لكنه بقى على ظهرها حيا .
يدخل الحي أياما معدودة في العام يحفر حفرة لشجرة هنا أو يردم حوشا من الحيشان وهو يردد:\" أتعامل مع الدنيا بقلبي ولا أدعها تدخل أبدا إلى قلبي لأن الأيدي تغسل أما القلب فلا.\" أيام الخريف يقوم بتذبيل البيوت والجدران بروث البهائم كل ذلك نظير قروش معدودة يعيش بها كما كان يقول حينا من الدهر في غير حاجة لصدقة مخلوق . حينما يكتمل عنده ثمن الذرة والدخن والزيت والملح وحطب الشوك وحجارة البطارية التي يستخمدها في تشغيل صندوقه العجيب كنا قليلا ما نراه بعدها. كانوا يقولون لنا في \" راكوبة عبد الغفار لا توجد غير الفروة والأباريق والكتب والصندوق العجيب والأسطوانات السوداء!\" البعض يهمس :\"وبرمة الشراب .\" وكنت أسأل :\"ولماذا الكتب ؟ \" فيجيبونني :\" لا تنس أنه كان نابغة جيله وأنه دخل كلية العلوم في جامعة النصارى ، وخل بالك هو إن أراد رطن بلغة الخواجات بل وكتب بها ، وبها أيضا إن أراد قرأ.\" في طفولتي لم أكن أستوعب ذلك فسمت الرجل وهيئنه تشبه شد ما تشبه حيران الخلوة ودراويش الجامع . وهو كان على الدوام إن نطق ينطق بعبارات غامضة نحو صيحته \" موتوا قبل أن تموتوا\" ونحو \"ما في الكون إلا الله \" أو نحو سؤاله الخالد الذي يطلقه في كل حين :\" من هو الإنسان ؟ \" ثم إجابته الغامضة :\" ما يكوننا موجود في الجدار ، في الأرض ، في الهواء ، في الحديد ، في النهر ، في الجير وفي الشجر.\"
قالوا اعترته نوبات غامضة أوان الصبا فهجر الدراسة وعاد لللحي متخذا من مقابره مسكنا . ثم أنه أدمن الخمر فكان لا يفيق منها ليلا ولا نهارا . قالوا وكان يكثر الصلاة على فروته حتى وهو سكران . البعض قال إنه توقف عن تعاطي الحرام والبعض قال لا لكنه قلل والله أعلم .قالوا كل ما عاد به من جامعة النصارى زينة البندر والتي هي من طوب أحمر وحجر أبيض وتطل على النيل كتب بلغة النصارى وأخرى بلسان العرب وصندوقا مستديرا يضع عليه اسطواناته السوداء فتنبعث منها أصداء لموسيقى غريبة لم يألفها أهل الحي . قالوا لما يبلغ منه السكر مبلغه كان يصيح :\" هذه هي السمفونية التاسعة التي خلق الله الكون من أجل أن تكتب\" ومرة يصيح اسمعوا كيف تسيل الشاعرية من موسيقى غوستاف مالرْ\" أو يصيح :\" هل اسمعكم فرانز ليست في قصيده السمفوني ؟ أم أسمعكم بيلابارتوك ؟ أم تراكم تحبون دفايا وديفورجاك؟ \" ويضحك :\" تالله أنتم قوم لا تعلمون ... أنتم قوم لا تعلمون\" . أهل الحي قالوا علم الخواجات أفسده . كان رجلا غامضا على كل حال.
ذات نهار بعيد كان يثابر في نقل كوم من التراب لردم حوش \"أمينة\" قوادة الحي المرهوبة الجانب. كنت في حوالى السابعة وكنت ألعب قريبا من باب الحوش بقرش أعطانيه أبي في الصباح . أقذفه وأتلقاه ، أنط ّ به من هنا إلى هناك ناظرا للشمس راجيا لها أن تسرع في مسيرها حتى يهل البرقاوي بائع الترمس والكبكبي ، فقد كنت أعشق الترمس وكنت أعشق الكبكبي ، لكن القرش على حين غرة ضاع من ناظري ، حفرت الأرض ، فتشت التراب ولما لم أعثر له من أثر جلست و بكيت . حينها أحسست بكف خفيفة تمسح على رأسي وبكلمات غامضة لم أفهمها آنئذ . سألني :\" لم تبك ؟\" فقلت له ضاع قرش الأسبوع .\" ابتسم ونظر إلى حتى شعرت أن شعاعا وقد جهر عيني .قال لي:\"هذا لا يدعو للبكاء .\" صحت فيه :\" قرشي ... قد ضاع قرشي.\" ضاعت البسمة من شفتيه وقال بنبرة ثقيلة :\" لا بد من إدراك المظهر الزائل لكل شيء سواء كان مفرحا أو مؤلما .\" صحت فيه :\"أريد قرشي... أريد قرشي ...\" فقال لي بذات النبرة الثيقلة :\" لم التألم عند فقدان شيء لا يدوم إلا لحظة في حين أن الأبدية تنعشنا!\" في تلك اللحظة كانت \"أمينة \" تذبح للعاهرات كبشا . نظر إلىّ وإلى السكين في يد \"أمينة \" يقطر منها الدم حارا ويسيل ، ثم نظر إلى الكبش وهمس على نحوه الغامض:\" وددت والله لوأني كبش فذبحتني \"أمينة\" ثم أكلت العاهرات لحمي أكلا حتى لا تبقى مني مزعة ...\" ما كان مني في تلك اللحظة إلا أن ركضت مبتعدا والدمع يسيل من وجهي ويقطر على الترب . صرخت \" ضاع قرش الأسبوع ... ضاع قرشي\".
وذات أصيل ونحن نلعب الكرة الشراب عاصرنا الخريف بجوه المنعش وشمائله العذبة وألوانه البيضاء واقواسه الساحرات ونفثات دعاشه الموحية . والخريف ربيع حينا بلا شريك ، الغمامات البيضاوات الخفيفات تثقل ويصير لونها إلى أحمر داكن ، ريح السموم تبرد ثم تتحول إلى هبات من الندى والطراوة المنعشة ، الضفادع تخرج من لا مكان وتضرع بالنقيق ، الأوراق في أشجار الحقول القريبة من النيل تتحفنا بحفيف ووشوشات تظل نادرة في غير هذا الفصل من العام ، وخريفنا خلافا لبلاد الدنيا يأتينا حين أوان يحر الصيف ويزنق في يولو وأغسطس . المسنون يقولون :\"هذه من رحمة الله وفضله علينا \" ، ويعلمونا :\" يا أولاد اسم السحابات الخفيفات البيضاوات هو الطخا ، واسم الحمراوات الداكنات هو المزن والأخيرات فقط يمطرن \" . آن الجو جميل ومفعم بسخاء الطبيعة جاءنا عبد الغفار من عزلته المجيدة في المقابر القريبة . هتف فينا :\"أو لا توقفون اللعب وتصغون للغة الريح والألوان!\" ضحكنا ولعبتنا لا تقف فدخل علينا الميدان الصغير وصرخ :\" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.\" قلنا له :\"يا عبد الغفار إخلي الميدان فنحن نريد أن نلعب.\" فصاح فينا :\" لا تربوا عضلاتكم فهي من دم ولحم ولكن ابدأوا بتربية الإرادة.\" ثم أخذ يغرب في كلامه إذ قال:\" التطور الحقيقي لا يأتي إلا من الداخل والوهم لا ينقشع إلا بتربية الإرادة ,إسهروا الليل وأرقبوا نجمة الصباح وأعلموا أن عليكم أن تموتوا في هذه الحياة.\" أوقفنا كرة الشراب وسألناه : \"وما هي الإرادة؟\" أجاب :\"هي الإرادة!\" سألناه ونحن نغرق في الضحك :\" وكيف نربيها هل نعطيها ماء وبرسيما؟\" قال في أناة \" تربية الإرادة تتم بالإرادة يا أولاد.\"
بعد ذلك بأعوام وفي بواكير المراهقة سكننا الخوف من الموت . قلنا نسأل عبد الغفار الذي يكثر من ذكر الموت عندما ينزل علينا في الحي . وبعد أحد عشر يوما هلّ علينا عبد الغفار فركضنا صوبه نصرخ :\" نحن نخاف الموت.\" ابتسم بسمة قديس وقال :\" الموت لا يعني الفناء ، ربما نندثر جسدا لكن من المؤكد أن روحنا لن تندثر ، الموت لا يعني الفناء ، المخلص يتخلص من الخوف من الموت في حين أنه يظل هاجسا لمن يعيش مع عقليته ولايريد أن يفكر في الموت لأنه يظن أنه سيندثر جسدا وروحا . يا أولاد الموت منقذ ، إنه مرحلة في تطور الحياة مثلما خرجنا من محدودية الرحم نخرج من محدودية الدنيا ، الموت يعني استمرارية السير الروحي صوب الكيان ، لذا يكون الموت هو الهدف المنشود ، وعليكم أن تموتوا قبل أن تموتوا.\" سألناه :\" ماذا تعني بأن نموت قبل أن نموت؟\" أجاب :\" أعني أن تميتوا هواجس النفس ليزول هذا التفكير الذي يسجنكم بصورة نهائية ، من خلال موتكم . قبل أن تموتوا تستطيعون أن تتحرروا من الخوف ، تستطيعون أن تحيوا ميلادا ثانيا يفتحكم على ما هو كوني وأبدي ويسمح لكم بالوصول إلى تلك الطاقة التي نتوفر عليها جميعا ألا وهي القدرة على الخروج من العالم المحدود والمغلق بعقليتنا وفكرنا لأجل الوصول إلى الروح المتجلية في كل شيء . بموتكم قبل أن تموتوا تغيرون القيمة والمعيار والوزن ، تدركون شيئا فشيئا جوهر الحياة .\" وغمغم:\" إنّ الحاضر الأبدي هو الحي الباقي.\" سألناه وقد عادتنا شقاوة الصبا الساخرة :\" وهل تعلمت ذلك عندما كنت في كلية العلوم؟ أم بعد أن شربت الخمر؟\" فابتسم ولم يجب.
بعد ذلك بقرابة العام وفي عشية ثقل هواؤها وزاد غياب القمر من حلكة ظلامها ألم بي قلق رهيب ، كانت ثمة سكاكين وسواطير تمزق ذهني تمزيقا ، تلك الأيام كنا نقرأ ونفرط في القراءة ، مئات الصفحات نلتهمها يوميا ، صفحات من المادية الجدلية والتاريخية لماركس، صفحات من الوجود والعدم لسارتر، صفحات لفلاسفة الإغريق الأقدمين . كنت أرقد في عنقريبي في الحوش الكبير حينما دنت مني أمي وفي يدها طاسة ملئ باللبن الدافئ . سألتني \" لم تتقلب في رقدتك؟\" قلت لها \" لا شيئ ...، لا شيء على الإطلاق \" . قالت :\" من يوم ما نويت دخول جامعة النصارى وأنت في حال غير الحال ، هل تريد أن تكون مثل عبد الغفار؟ \" نطقها باسم عبد الغفار جعلني أفكر في الرجل مليا . قالت أمي :\"اشرب اللبن لترتد اليك روحك \" . قلت لها \" لا أستطيع \" . قالت :\" من يرفض البيضاء يسؤ حاله ويسؤ\" . ولما اصرت شربت الطاسة رغما عن إحساس الغثيان الذي تملكني . عادت أمي إلى داخل البيت وانطلقت أنا في نوبة استفراغ مؤلمة ، كأن كياني كان يخرج من معدتي ومن حلقي. ووسط كل ذلك لم أنس عبد الغفار بعدما ذكرته أمي .
انطفأت الفوانيس وانتصف الليل ، نام بيتنا ونام الحي ، بقيت مؤرقا أرعى نجم السماء وحالي على سؤه يزداد سوءا . أشعلت الفانوس المطفأ بجانبي وجعلت أقرأ في أصل الأنواع لدارون . بغتة تذكرت للمرة الألف عبد الغفار. وضعت الكتاب الكبير ، أطفأت الفانوس ، وقلت ماذا لو ذهبت الآن إلى عبد الغفار؟ تسللت في هدوء وسلكت أزقة الحي أشق الليل . شعرت ببعض الرهبة وأنا أدنو من المقابر فقد كنا نخافها جدا ! ففي الحي كانوا يتحدثون عن ملائكة وشياطين وجن تسكنها لكنني شددت نفسي إلى نفسي ومشيت . تخطيت شواهد القبور وعلقت هنا وهناك على شجيرات الشوك المتناثرة . من هنا ومن هناك تناهى إلى أذنيّ عواء ذئاب جائعة ونبيح كلاب ضالة . حشود الفئران والجرذان والوذق والسحالى والجنادب والهوام كنت تسرح في نشاط على سطح القبور . في سبيلي مشيت وعزمي يزداد عزما . لما بلغت الراكوبة المنصوبة تماما في وسط المقابر رأيت عبد الغفار يصلي أمام بابها ، رأسه حليقة ، شاربه بني خفيف ، وكذلك لحيته بنية خفيفة . عيناه كانتا واسعتين صافيتين ، سلطهما نحوي برهة كأنه يعرف ما فيهما من سحر هائل وجاذبية لا تقاوم .
قربه وعلى الأرض جلست . كان يقرأ في صلاته \" لقد خلقنا الإنسان في كبد\" انتهى من صلاته وقال \" السلام عليكم ورحمة الله . سألني: \"خير\" . قلت \" خير\" سألني :\"ما الذي أتى بك في جوف الليل؟ منذ عهد محمود عبد الكريم لم يأتني احد!\" . قلت له :\" لا أدري ، فقط شعرت بأنني أريد أن أتحدث اليك \" . قال مبتسما :\" ألف أهلا\" . شكوت له : \" ذهني يؤلمني .\" قال بتأكيد : عرض ويزول ... عليك أن لا تتألم لما هو عرض \". قلت له :\"عندما كنت طفلا قلت لي لما ضاع من القرش لم التألم عند فقدان شيء لا يدوم إلا لحظة في حين أن الأبدية تنعشنا، ماذا كنت تعني بالتحديد؟\" صمت ثم قال :\" عنيت أننا عندما نكف عن التشبث بما هو عارض فإننا نستطيع أن نرى ذواتنا في عالم أكثر اتساعا وكونية ، ولن نعد نشعر بذاتنا كصدفة ولن نعد نشعر بالأشياء من حولنا كواجب أو ضرورة، لن نخضع للأشياء ولن تعد هناك أية ضغوطات تستوجب الألم لأننا ببساطة نكون قد سلكنا شعاب الأبدية المنعشة . ثم إن كل ما هو عارض فهو في جوهره مادي\" . سألته :\" هل صحيح أنك درست كلية العلوم ؟ \" أجاب :\" ما أكملتها\" . قلت :\" يقولون إنك قد ضيعت مستقبلك بل وحياتك.\" قال لي :\" في هذه اللحظة التي أتحدث فيها معك في هذه العشية ، أشعر بأنني محظوظ ، فما أخترته يمثل لي ثروة طائلة ويشعرني بأنني محظوظ ، من قبل كنت أعيش وسط الناس الذين ينقصهم هذا البعد .أقول لك بصدق إنني راض تماما عن حياتي ، راض عن كل الخطوات التي مشيتها لأنني أعلم أنها أوصلتني لهذا الكنز الذي أمتلكه اليوم والذي هو كنز لا نظير له .\" وأطرق وقال بعد أن ذرفت عيناه دمعتين :\" كل ما يتعين علي اليوم هو المحافظة على هذا الكنز لأنه يعطي معنى للحياة بعيدا عن السلطة والمال والجاه التي هي عبارة عن زخارف لسعادة عزيزة جدا على سكان الحي ، بل على الجنس البشري بأسره . قلت له :\" هل أنت متدين أم ماذا بالضبط؟\" ابتسم تحت ضوء النجوم التي بدت دانية وكبيرة في تلك اللحظة وقال :\" أنا فقط اسير محاولا قدر المستطاع اتباع التعاليم \" قلت له : \" لكنك ذلك اليوم كنت تعمل في بيت \"أمينة \" القوادة ولابد أنك أخذت منها نقودا نظير عملك و... \" . فقاطعني : \" لقد ردمت لها حوشها حتى لايدخل السيل ويهدم حجراتها التي تعبت وشقيت في بنائها\" . قلت له :\" ولكن تلك الحجرات تكتظ بالعاهرات !\" قال:\" علينا أن نكون على صورة البحر الذي تصب فيه الجداول والأنهار والوديان عند المستوى الأكثر انخفاضا ، تأتيه جميع المخلوقات لأنه موجود بها ويرى نفسه في كل واحدة منها ، إنه ملاذ الجميع سواء كانوا صالحين أم كانوا طالحين، الأمر هو اختلاف مقدار وليس اختلاف في الطبيعة ، ثم ان الطبيعة هيأت بعض الكائنات ليتلقوا أكثر من الآخرين. الطريق مرسوم من قبل ونحن لا نعمل إلا على اتباعه.\" سالته: \" وحرية الاختيار أليست هي موجودة؟\" أجاب:\" نعم موجودة لكنها تتحقق عندما تتبع .\" قلت له: \"لأ أفهم!\" قال:بعد أن تنتهي من اختيار ما يضرك سينشأ لك انفتاح على عالم جديد هو عالم الاتباع الذي يوجد جذره هاهنا .\" وأشار إلى قلبه.\" وتأوّه :\" النفس تختار دوما ما يضرها لأنها تؤثر العمل بمعزل عن الروح ، وكلما قلّ خضوع النفس للروح ازداد المها إلى أن تستسلم فتجد الطمأنينة ، وهذا الأمر شبيه بالمطرقة التي تسوي المعادن ، فإذا كانت الخيارات شديدة الصلابة فإنها تسلك في نار الروح حتى تصبح أكثر مرونة. الجسد يسود بدءا ثم تتأمر فيه النفس وأخيرا يأتي سلطان الروح. وفي هذه المرتبة الأخيرة يكون الأمر عجبا ! فحفيف الريح يكون كلاما وتفهمه ، وصوت حبات المطر تغادر سحابها وتهطل يكون كلاما وتفهمه ، وزقزقة الطير تكون كلاما وتفهمه ، وعوي الريح يكون كلاما وتفهمه ، والظلام يكون كلاما وتفهمه وصراخ الصمت يكون كلاما وتفهمه ، والنور يصير لغة تتحدثها.\" دمعت عيناى وأنا أهمس له :\" إن ذهنك يبدو صافيا للغاية بينما أشعر أن ذهني مشوش مضطرب! أنا أقرأ كثيرا هل صحيح أنك قرأت كثيرا؟\" حدّق في طويلا وقال بصوت عميق وضوء النجوم يزرق كما لم يزرق أبدا :\" القراءة ليست هي المشكلة ولكنا وحسب العادة فإن ذهننا يكون مشوشا تماما بمخاوف متوهمة وبمشاغل مادية أو باحساسات مختلفة كالحب والكراهية والفرح والألم والرغبة والمستقبل والخوف نفسه والشك والغضب.\" وصمت حينا ثم استأنف في بطء كأنما يعلك علكة مرّة :\" إنّ ذلك يشكل مجموعة من العوائق التي تعيقنا في مجال تصرفنا ما يحتم علينا احتمال العديد من الاختبارات لكي نغير عقليتنا ولكي لا نسمح لها بعدُ بالتشبث بالأشياء بهذا المقدار من القوة والمعاناة ، وإذا استطعنا اجتثاث كل تلك المعوقات الصنمية فإننا نستطيع شيئا فشيئا فتح دهاليز الروح المغلقة ، وبولوجنا فيها نكون قد تجاوزنا العقل والنفس فنصبح أكثر هدوءا واتزانا وتجلب لنا بقعة النور الجديدة مسالمة دمثة ومصالحة مع الذات وراحة لا تحد. من أجل أن نعيش ذاتنا الإنسانية فإنه يتعين علينا أن ندرك حجم المجهودات العديدة التي يتعين علينا بذلها ، علينا القيام ببعض الأشياء وهجر أخرى . أنت تعلم أن الإنسان لا يحب التكاليف ولا المسؤوليات بل يرغب في الحصول على كل شيء بلا تعب أو ضنى ، لكن رسالة الإنسان في جوهرها ما هي إلا الكدح والضنى .\" قلت له :\" لقد جربت كثيرا ، تعبت وأشعر بالإرهاق ومزيد من التشوش . لقد جربت كثيرا...\" وندت عني دمعة لكني سمعته يضحك :\" أنت بعد صغير ! صغير للغاية يا بني، ثم إن التجربة الإنسانية هي تجربة فريدة وإن صدق العزم اتضح السبيل.\" قلت له كأني أعترف:\" جسدي ارتكب آثاما لكن آثامي الكبرى تتوالد هنا .\" وأشرت إلى رأسي مكملا :\" في ذهني تولد ملايين الآثام في كل ثانية . إنني أغرق في ظلام مؤلم ، ظلام مدمر.\" ربت على شعري بأطراف أنامله وقال بهينمة غامضة :\" ما وجد من قبل إلا الملائكة وهي كائنات من نور لا يمكنها الفتور عن التسبيح لله عز وجل ولا الوقوع في المعاصي ، وكان في المقابل الشيطان الذي تحركه دوما روح سلبية وهو عبد للشهوة ويعيش في الظلام ، فالملك كائن من نور والشيطان كائن من ظلمة وكلا الإثنين يعيش في انسجام تام في عالمه ، في حين أن الإنسان توجد فيه جميع المتضادات المتناقضة فيما الكائنات الأخرى التي تعيش على هذا الكوكب لا تنطوي على هذه التناقضات ولا على هذه الثنائية ولا تستطيع أن تعرف مثل الإنسان في آن واحد الحب والكراهية ، السرور والألم ، اليقين والشك ، وهي لا تعبأ بالمستقبل . المخلوقات جميعها تعيش في تناغم تام مع عالمها وإن تغذى النبات على المعدن ، وتغذى الحيوان على النبات ! في النهاية التوازن تام ، والإستثناء الوحيد هو الإنسان.\" قلت له :\" إنني أتخبط بين السالب والموجب ، إنني أقاسي.\" قال:\" هوّن عليك، وأعلم أن السالب والموجب ليسا خيرا ولا شرا لكنهما أمر واقع ببساطة.\" سألته بلهفة صادقة :\" ما العمل إذن؟\" قال:\" علينا بالبحث عن الجزء الأبدي الموجود في ذواتنا وذلك لا يكون دون التعرف على العنصر الدنيوي المعيق والمحدود الذي يعرقل تفتح طبيعتنا الحقيقية فالغاية هي إيجاد الطريق الوسط ولا وجود لهذا الطريق إلا من منظور الولادة الثانية حيث يفنى فينا الإنسان المتخبط. ولكي تكون هذه التجربة كاملة فيجب أن تتم هنا في هذا العالم وبقالب جسدي بكل تناقضاته ولذاته ومسؤلياته وشهواته وكل ما يميزنا ويجعل منا كائنات استثنائية. الأمر برمته منوط بصدق النية وسلامة القلب ، وإذا توفر ذلك فإننا سنرى بعمق أكثر ونسمع بعمق أكثر. بدون ظلمات لا يمكن لأحد أن يعرف النور.\" قلت له : والقراءة هل أوقفها ؟ بماذا تنصحني ؟\" ضحك :\" لماذا تخاف القراءة ؟ إنها أداة فاعلة!\" سألته :\" حتى تلك التي تقول بالعدم؟\" قال: \" في العلوم نعرف أن المصل الواقي هو من ذات المكروبات وذات الجراثيم وهو يعطى لنا لكي يقينا من ذات المرض الذي حينما يهاجمنا ويجد بعضا منه فإنه لا يفتك بنا بل يضع ذيله بين رجليه مثل كلب مسكين ويمضي .\" قلت له \" أقرأ ماركس وهيجل وسارتر وهيراقليطس و..\" فقاطعني : \" هناك بيرغسون ومارتن هايدجر وسورين كيركيجارد والغزالي ومنقذه\" . وفي تلك اللحظة هوى نجم كبير فأحمر الكون من أثره وكأنه في حريق مستطير. قال لي :\" أنت تعلم أن هذه النجوم التي نراها الآن قد ماتت منذ أكثر من ألف ألف عام ولكنها مع ذلك ها هي ذي هنا لتقول لنا إن الموت لايعني النهاية ، إنه فقط انتقال من مكان ما إلى مكان ما .\" وصمت ثم همس بعد حين :\" ثم إن الإنسان هو في حقيقته أضخم من كل هذه النجوم والشهب والنيازك ، بالمناسبة هل تعرف لماذا تركت كلية العلوم؟\" سألته في شوق لا يخفى :\"بربك لماذا؟\" قال : \"لأني عسر عليّ أن أرى العالم في خلية فأر ! لقد صعقت جدا لما نظرت عبر عدسة المجهر القوي ، كان الأمر حادا ، صعبا وقاسيا جدا سواء على المستوى النفسي أو المستوى الجسدي، ففي الليل كنت أتصبب عرقا ويصيبني السهاد ، وفي النهار كنت أتقيأ باستمرار وأحس كأن صدري يلتهب بنار سعير ، ولم أكن أستطيع أن أصيب من الطعام شيئا وإن قلّ.
ارتجف الكون وسرت منه إلى جسدي ارتعادات ورعشات غامضة. دنت النجوم التي اتخذت شكل العناقيد من الأرض على نحو لا يصدق . ضاءت المقابر قبرا فقبرا وشاهدا فشاهدا ، وعن ّ لي أنني لو رفعت يدي فبامكاني قطف ثلة من تلك العناقيد الباهرة الزرقة . جاءني صوت عبد الغفار خافتا : \" الكون يتنفس الآن لأن الفجر على الأبواب\" .
وعند الفجر توضأت من أبريقه وصليت معه على الفروة القديمة . بعد الصلاة غرق في تسبيح طويل حتى ارتفعت الشمس بأشعتها الحمراء ثم البرتقالية ثم الذهبية ثم الصفراء فالبيضاء. قال لي\" طلع الصباح فلندخل إلى الراكوبة \" ، ومعه دخلت . قلت له : \"أرى عندك القليل جدا من الطعام!\" قال:\"إنه أكثر من كاف. ثم إننا أعطينا هذا الجسد ليخدمنا لكن الأغلبية منا تقضي حياتها في خدمته ! نحن نعتني به ونكسوه ونعزه فينتهي به الأمر إلى استعبادنا ونصبح أسارى لهذا الغطاء اللحمي ! في حين أنه لم يعط لنا في الحقيقة إلا لخدمة الروح ، لكنا وللأسف نقوم بعكس الأمر ! إننا نفرض على الروح العبودية الجسدية ! وإذا امتلكنا العزم والصدق والمثابرة فلن نقايض الأبدي بكسب مؤقت. علينا بتطوير اليقظة والوعي ، ويوما بعد يوم سيكبر المجهود وسنكون أول من يجني الثمار لأن كل شجرة محتواة في بذرتها ، فعلى الإنسان إذن أن يتعهد ويسقي هذه الحديقة الباطنية \" .
على حين غرة سألته :\" وأين الكتب التي قالوا عنها؟\" أجاب ببساطة :\" لقد دفنتها . ألا ترى ذلك القبر الكبير ذا الشاهد الصغير ؟ \" التفت ونظرت فإذا بقبر قريب. قلت : \" بلى\" قال : \"إنها مدفونة هناك يمكنك أن تأخذها إذا أردت ، أما أنا فلم أعد أحتاجها. كلما مضينا قدما نتخفف من أحمالنا تماما مثل سفن الفضاء التي تنعتق من جاذبية الأرض\". عدوت ودون أن أدري انحينت على القبر وجعلت أنبشه بأظافري وأصابعي وكفيّ. بعد حين لمعت تحت وهج الشمس الصاعدة عناوين كتبت بالإنجليزية: أساسيات علم التشريح ، خلايا النبات ، خلايا الدماغ، دارون ، هربرت سبنسر، جان باتست لامارك ، الصفات الوراثية والصفات المكتسبة ، بافلوف ، واطسون ، فرويد، يونغ ، أدلر ، هوايتهد ، فلسفة العلوم، أصول الرياضيات ، العالم من كوبرنيكوس إلى نيوتن ، أينشتاين والنسبية، الدين والعلم ، فتغنيشتاين وفلسفة اللغة ، هوسرل والظاهراتية ، برتراند رسل، بيرغسون ، نيتشه ، شوبنهاور ، من عصر الجليد إلى عصر الذرة، ديكارت ، هيغل ، كانط ، الكيمياء الحيوية ، المولارية، كوكب المريخ ، نبتون ، الشمس تلك الكرة الملتهبة ، حفريات شرق أفريقيا وأواسطها ، حفريات آسيا الوسطى والصغرى ، ثاني أوكسيد الكربون واحتمالات الأزمة، الجهاز التناسلي لدى الرجل، الجهاز التنسلي لدى المرأة ، التحنيط عند الفراعنة ، المومياء حلم الجيل الجديد ، الملح والثلج وحفظ اللحوم . مسحت العرق الذي تحول إلى طين في جبيني وانا أصيح فيه :\" ألا توجد كتب بالعربية؟\" جاءني صوته من بعيد :\" تحت ..تحت.\" ومضيت أحفر حتى عثرت على حي بن يقظان، المعتزلة في فكر إبراهيم النظام،أهل الشيعة وأهل السنة، الموطأ ، أقرب المسالك لمذهل الإمام مالك ، أبوحنيفة النعمان، جابر بن حيان ، ابن الهيثم ، القانون لابن سينا، مقدمة ابن خلدون ، الفتوحات المكية ، ترجمان الأشواق، شرب الكأس ، الشيخ الطيب رجل أم مرحي، الملامتية ومراتب التصوف ، المنقذ من الضلال، ابن رشد والعقلانية، تهافت التهافت، السعدي: حديقة الورد، تاريخ الطبري، مذكرة القديسين لفريد الدين العطار، ندوة العصافير لفريد الدين العطار ، كتاب الاختيار لفريد الدين العطار ، كتاب الأسرار لفريد الدين العطار ، الحسين بن منصور الحلاج ، كتاب المحبة لابن عربي، جلال الدين الرومي، الجنيد . أخذ مني الجهد وهدني الإعياء حتى أوشكت على الإغماء ، وشعرت بيدين تحملاني صوب الركوبة .
صحوت على وجه عبد الغفار . قلت له \" أريد هذه الكتب \". قال \" إن شئت فلا بأس ، لكنها في النهاية ليست سوى اشارات يا بني، مجرد اشارات\". قدح حجرين على كومة صغيرة من الشوك الجاف وضع عليها آنية قديمة ، وفي الآنية وضع بعض الدقيق والملح والزيت . قال لي \" ستأكل معي عصيدة طيبة \" لما أنزل الآنية صب عليها بعض ماء ودعاني أن أصب . سالته :\" أو على هذا تعيش ؟ \"أجاب : \" وهو أكثر من كاف \" . قلت له : \"أهل الحي يقولون لو أنك صبرت حتى نلت الشهادة وعملت بها لكنت اليوم من سادة البلد لأن المتعلمين في زمنكم كانوا بضاعة نادرة\" . قال:\" نستطيع بسلوكنا طريقا معينا أن نربح مالا أكثر وننال قوة وسطوة وشهرة ، ولكن ذلك قد يبعدنا عن ذاتنا الحقة ، في حين أنه باختيارنا طريقا آخر قد نكون أقل ثروة وحظوة وشهرة لكننا سنكون مطمئنين، وعلى الخصوص سنكون أكثر قربا من الله. البعض يعمل طيلة أربعين أو خمسين سنة من حياته ! قل لي لأجل ماذا ؟ لأجل من نعطي كل هذه الطاقة ؟ لأجل المركز؟ لأجل المال ؟ لأجل الشهرة؟ قل لي ! طاقاتنا يجب أن توجه صوب المحبة فبدونها لا تستطيع المركبة أن تتحرك ، ومن يبحث عن السكينة والطمأنينة دون أن يمتلك المحبة فإنه لن يصل أبدا... أبدا، فالمحبة هي طاقة الوصول . الإنسان بفهمه لطاقاته، لطبيعته وحريته ولمعوقات سعادته الحقيقة يمكنه أن يتحسن ويتابع عموديته ويسترجع تناسقه ومكانته في الخليقة. لابد من مجاهدة النفس المعوجة التي توجه طاقاتنا على الدوام للاتيان بأفكار وأفعال وردود أفكار وأفعال مادية ومؤسفة ، الأمر لا يتعلق بقتل النفس وإنما بملاطفتها ومسالمتها وهذا جد مختلف لأن الكائن الذي يفقد نفسه هو كائن مستضعف وناقص ومعاق ، فالذي وصل إلى تسليط نور روحه على نفسه يستطيع أن يشهد بجلاء وجلال وعظمة على الحقيقة المطلقة ، وهو وحده من يمكن أن يتأكد من أنه كائن في منتهى الكمال. ثم اني لا أريد أن أكون حاكما أو وزيرا أو ثريا . أقول لك لقد اخترت حريتي \" . سألته ما الذي تعنيه بحريتي؟\" أجاب :\" الحرية وحي أبدي الجوهر خال من الأفكار المسبقة ، وهي تحث الإنسان على اكتشاف إمكانياته وكل كنوز الثروة التي تحركه ، لكن الإنسان بتعنته غالبا ما ينحصر في العالم الخارجي ، أعني محيطه الخارجي ولا يدرك أنه لا يعيش إلا من أجل الشهادة والإستعلاء على هذه المعجزة الخالدة للحياة . الحرية إشارة نورانية تطمئن الإنسان وتجعله أحسن حالا مع نفسه ومع الآخرين وتدفعه للسعي في طريق السلام والصلاح والمحبة. ثم قل لي أنت الآن معي هنا هل تستفيد شيئا إذا كان الناس الذين لا تراهم ولايرونك يهتفون باسمك لأنك مشهور؟أو ثري ؟ أو صاحب جاه أو منصب ؟ قطعا لن تستفيد ، بل لن تعرف حتى ...! إن الأمر كله لا يعدو عن أن يكون وهما ومرضا.\" قلت له :\" صدقني أنت رجل عظيم وتبدوا لي شاسعا وغير محدود\" . قال بنبرة طبعها الحزن :\" كل فرد هو محدود وغير محدود في آن واحد\" . بشوق سألته \" أنّى لي الصعود ؟\" أجاب :\" في الفعل وفي اللا فعل التجربة وحدها يمكن ان تبين لك ما هو حسن \" . قلت : \" لكن ذهني مظلم وقلبي مظلم\" . قال بنبرة قاطعة :\" الروح هي الأس الأعلى . نعم الروح \" . سألته :\" وماتراني فاعل في الظلمة؟\" قال\"يجب علينا ان نحقق سعيا مذدوجا في صعودنا الروحي على صورة الأرض التي تدور أولا على نفسها وتكمل أيضا دورانها حول الشمس بمعية الكواكب الأخرى ، علينا أن نقوم مثلها بدورة على أنفسنا تسمح لنا بالتقدم ونحن نكتشف قوانا وضعفنا ونراعي الصواب ونراعي الخطأ وفي ذات الوقت نشارك في تعليم كوني مطبوع. والأرض يكون جزء منها في الظلمة بينما يكون جزء آخر مضاء بالشمس ، ونحن على شاكلتها يوجد فينا وفي كل لحظة جزء مضاء وجزء آخر في الظلمات . فمثلا يكون كل شيء على ما يرام على المستوى المادي الذي يوجد في النور ، ولكن ليست كذلك على المستوى العاطفي الذي يوجد في سواد الليل، وفي لحظات أخرى يحصل العكس . سيكون هناك دائما نقص في الإنسان\" . ولوهلة عنّ لي أني أرى في ركن الراكوبة الشيء الذي ظل أهل الحي يتحدثون عنه كثيرا فسألته :\" ما تلك؟\" أجاب دونما اكتراث :\" إنها البرمة التي جفت عليها الخمر\". وصمت ثم أستأنف:\" قلت لك سيكون هناك دائما نقص في الإنسان\" . وابتسم وعيناه الصافيتنا تتسعان مع وهج النهار ، وقال لي في حنو صادق : \" خذ الكتب وارجع الآن إلى أهلك حتى لا يصيبهم القلق فأنت تعرف حال الناس العاديين ، ولكن يمكنك أن تعود إليّ عندما تلمع النجوم عشاءً\". نهض وأعطاني ظهره منهمكا في فتح صندوقه العجيب ووضع اسطوانة كبيرة سوداء تحت ابرته. برهة وانطلقت موسيقى مذهلة . قال لي دون أن ينظر ناحيتي :\" إنها رقصة النار لديفايا، أو َ لا ترى شمس النهار وقد أصبحت حارقة ؟\" أجبت :\"بلى\". قال : \" عد الآن إلى أهك، ولكن يمكنك أن تعود إليّ عندما تلمع النجوم في آخر العشي\".

* نشر في الراكوبة يوم 22 - 10 - 2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى