أدب السجون حسن حميد - أدب الأسرى أدب الأسرار والمكاشفة

كثيرة هي موضوعات الأدب التي اشتقتها الحياة، والظروف، والمظالم التي انهمرت على الناس كالأمطار بسبب الأنانية، والهجس بالهيمنة، والإيمان بالقوة، والرضا بالظلم، ولعل مفهوم الظلموت كان المفهوم الأشد فتكاً بالناس لأن مضامينه تشتمل على جميع أنواع القوة الظاهرة منها والمخفية، وبسبب من اندياح الأذيات الثقال التي كشف عنها مفهوم الظلموت، وجدت صور المقاومة، وتبدت ترسيماتها عياناً أمام الخلق حتى صارت رؤيا وعقيدة وصيغة عيش! فأينما كان الجور كانت المقاومة من أجل افتكاك الحياة، والكرامة، والأرض، والتاريخ، والسيادة من أنياب الظلموت المتوحش، ولهذا رأينا المصاحبة المحتشدة بالنقائض ما بين الفعل وردة الفعل، ما بين الظالم والمظلوم، وما بين صاحب الشوكة الغازي وصاحب الأرض والتاريخ.. وفي معظم جهات الأراضي التي غمرها العسف بغيومه السود، وآثاره الشائنة.


ولهذه العلة، أي الثنائية البادية ما بين الظلم والمظلوم، رأينا أدبيات، وثقافات، وفنوناً، وسلوكيات، وشواغل كثيرة، وفي بلدان كثيرة، عملت من أجل تبيان صورة المظلومية الواقعة على الناس، والأرض، والتاريخ، والزمن بأبعاده الثلاثية (الماضي، الحاضر، المستقبل) لأن للظلم أذرعاً كثيرة تحاول غمر الزمن والمكان والأفكار بروح الهيمنة والسيطرة على كل شيء، وإماتة كل ما هو نقيض للظلموت كمفهوم وممارسة الحياة!


ولأن الموضوع طويل، وشائك، ومتعدد الجوانب والأيدي فإنني سأقصر الحديث على جانب واحد من أدب المقاومة الفلسطينية، هو أدب السجون، أو لنقل أدب الأسرى، وهو أدب مترف بالإبداع والاشتقاق والأسرار وجماليات اللغة التي تشيل بها تعبيرية فذة، ولكن قبل الدخول إلى هذا الموضوع المدهش في حيثياته لابدّ من وضع عتبة صغيرة استهلالاً كي تكون الخطا متراصفة منتظمة ما بين هذه الأسطر والقراء الكرام.




أولاً: أدب الأسرى، هو أدب الندرة، وأدب الأسرار والمكاشفة، وبيان ما هو مستبطن داخل أمكنة مستبطنة هي (السجون والمعتقلات)، وهو تجليات لأذرع الشيطنة الصهيونية داخل حيز مكاني محدد ومغلق يسيطرون عليه بالقوة المطلقة، مثلما هو تجليات لأشكال المواجهة ما بين حامل السلاح (السجّان) والأعزل (السجين)، وهي أشكال مقاومة، وأشكال مناددة أيضاً، لأن الرهان على الحياة وأمام أسير رأى بعينه رفاقه يستشهدون، هو رهان لصالح الأسير لا لصالح السجّان، لأن مُنية الأسير كانت هي الشهادة، ولأن ما قرّ في واعيته هو أن الأسر ذل، ولذلك كان، وقبل أن يدخل السجن يتفلت من ظروفه كي لا يقع في الأسر، وهو، حين صار داخل السجن، يريد الافتكاك من جملة مهانات ومذلات شخّصها حين صار بين يدي السجّان/ المحقق، والسجان الضارب، والسجّان الذي يكوي بالنار، والسجّان الذي يخوزق بقضبان الحديد والزجاجات ذات الأعناق الطويلة، والسجّان الذي يعمل من أجل أن يصير السجناء عملاء!




ثانياً: أدب الأسرى، أدب يقص حياة الشهداء وأحداث المقاومة وأخبارها، كما يقص الحكايات وهو يتنقل من بيئة إلى أخرى، ومن بيت إلى آخر، ويبدي لنا الظروف التي شالت بهؤلاء الأسرى، قبل أن يصبحوا أسرى، ليكونوا من أهل المقاومة، والقناعات والثقافات والمرجعيات التي آمنوا بها لكي يمشوا في درب المقاومة. وبهذا فإن سمه الإخبار عن الرفاق الشهداء، وقص قصصهم، وتجلية بطولاتهم هو شكل من أشكال تعبيد طريق المقاومة وإنارته بالنبل والمأثرة والقناعات الكبرى، ولذلك فإن الأسير ليس كائناً محكوماً بالإنتظار حين توقفت حياته خارج جدران السجن، وإنما هو الكائن الذي ما زال يمارس دوره من خلال ثقافة الفداء والتضحية والمقاومة؛ وهذا أمر شديد الأهمية، لأنه يشكل في مرآة العدو ترسيمةً لرعبه وقضّ مضاجعه، وتخريب نسيج أمنه وطمأنينته.




ثالثاً: أدب الأسرى، قال وبعنوان عريض: إن السجون والمعتقلات الصهيونية، هي وجه آخر للحياة التي يشكّلها الفلسطينيون والعرب المقاومون في داخلها، وهي حياة غنية وثرية بقصصها ومواقفها وحالاتها، وهي وجه آخر من وجوه الرعب التي يعيشها السجّان داخل السجون والمعتقلات على الرغم من أنهم مدججون بالأسلحة وكل أشكال القوة والسيطرة، وأدب الأسرى يقول بصراحة مطلقة إن السجين في أمكنة العتمة الصهيونية هو السجّان، وليس الأسير الفلسطيني، وأن الخائف والمرعوب هو السجّان الصهيوني وليس الأسير الفلسطيني.


لأن الأسير الفلسطيني خلق شروطاً جديدة، ومسارات سلوكية جديدة داخل المعتقلات والسجون ما كانت بحسبان السجّان الصهيوني، ومنها: متابعة الدراسة، وحيازة الشهادات، وتعلم اللغات، وقراءة الكتب ومعرفة العدو وحلفائه، وبذلك تسلّح الأسير الفلسطيني بقوة جديدة، هي قوة العلم والثقافة، وهذا ما عزز ثقته بنفسه ومشروعه النضالي أكثر فأكثر.


لا بل إن أدب الأسرى يمدنا بمنحنيات بيانية تشير إلى جماليات تنظيم الحياة داخل المعتقلات عن طريق تشكيل اللجان المختصة، وخلق الأساليب والطرق المؤدية للتواصل ما بين الأسرى في مختلف السجون والمعتقلات الصهيونية، وهذا ما تشير إليه حالات التنسيق من أجل الإضرابات المشتركة، وفي وقت واحد، ولأهداف محددة في جميع المعتقلات الصهيونية.




رابعاً: أدب الأسرى يبين أن السجّان الصهيوني أراد من معتقلاته وسجونه أن يجعلها أمكنة (توبة) للأسرى الفلسطينيين كي لا يعود أحد منهم إلى مواصلة النضال والمقاومة، كما أنه أراد أن يجعل من هذه السجون والمعتقلات مقابر للفلسطينيين الأسرى عقاباً لهم على ما قاموا به من أفعال نضالية تناقض عقيدته وأهدافه، وأن يجعل شروط الحياة في تلك المعتقلات والسجون مماثلة لشروط الحياة في المقابر، حين جعل الأمراض تفتك بهم، وأعني بالأمراض هنا، الأمراض الجسدية والنفسية معاً.




خامساً: أدب الأسرى الفلسطنييين، قال بوضوح إن الهدف الأول للمعتقلات والسجون الإسرائيلية هو أن تكون مستعمرات للعقاب، كما قال فرانز كافكا الصهيوني في أحد مؤلفاته! وإن إيمان السجّان الإسرائيلي مطلق بأن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، أياً كان شكل هذه الإماتة، وهذا بالضبط ما خلق وجهاً جديداً أمام الأسير ليتحدى سجّانه بالمحافظة على الحياة من جهة، ومواصلة النضال من جهة أخرى، لأن الحفاظ على الحياة داخل السجون والمعتقلات الصهيونية هو شكل من أشكال المقاومة، وهذا ما كان يعيه السجّان الصهيوني ويخشاه.




سادساً: يبدي أدب الأسرى، ومن دون مواربة، أشكال الخوف والفزع الصهيوني من صحة الأسرى الجسدية، ومن صحتهم النفسية أيضاً، حين راح يطلق أحكامه المؤبدة والمتعددة احتجازاً للأسرى خلف جدرانه السود، وقد نال كثرة منهم مؤبدات عدة، كل مؤبد منها مدته مئة سنة، ظناً من الصهاينة بأن الفلسطينيين الأسرى سيعيشون مئات السنين، أو ظناً منهم بأن هذه الأحكام الطويلة ستبني ثقافة اليأس والإماتة داخل المعتقلات والسجون الصهيونية.




سابعاً: أضاء أدب الأسرى الفلسطينيين جوانية المعتقل الصهيوني، وأبداه على حقيقته وفق صورة فيها طرفان: الطرف الأول هو السجّان الصهيوني، وله كل صفات الغطرسة والهيمنة، ولكن له كل صفات الخوف والرعب من الأسير الفلسطيني أيضاً. والطرف الثاني هو الأسير الفلسطيني المؤيد بأهله، وفصيله المقاوم، وقراءاته، وشهاداته التي حازها، واللغات التي تعملها، وبذلك يبدو الطرفان كأنهما في مغامرة أو رهان مع الحياة، أولهما يبوخ ويبهت وينطفئ بسبب ما يقترفه من ممارسات شيطانية، وثانيهما: يتوهج بسبب ما يشتقه من دروب نحو الحياة.


لقد شخّص أدب الأسرى الصورة على هذا النحو: سجان صهيوني يمعن في خلق شروط الإماتة والضعف والذلة والهوان، وأسير فلسطيني يمعن في طيّ الزمن بالعمل على اختلاف وجوهه وأشكاله، أحدهما: يمضي نحو عوالم الموت، والثاني: يمضي نحو عوالم الحياة.




ثامناً: أدب الأسرى، كان ولا يزال، النور البهّار الذي فضح ما أسماه السياسي الصهيوني بالأسرار، أي أساليب إبادة أبناء الشعب داخل السجون التي ليس فيها أبسط شروط الحياة، وبذلك صارت الموازنات دائرة ومحوّمة ما بين النازية وإرهابها والصهيونية وإرهابها، وهذا ما يخيف الصهاينة مع أن ممارساتهم الشائنة تعدت ليس حدود ما مارسته أجهزة النازية، وإنما تعدت حدود الخيال.


هذه عتبة أولى، أرى أنها ضرورية، لأقول، إن أدب الأسر هو أدب أنتجه أسرى فلسطينيون لم يكونوا في الأصل كتّاباً أو شعراء أو مفكرين أو باحثين، بعض منهم كان كذلك، ولكن معظم المدونات الأدبية التي كتبها الأسرى الفلسطينيون هي كتابات لأسرى لم يكتبوا، قبل الأسر، صفحةً واحدة.


والمدهش أن المعتقلات والسجون الصهيونية، وبدل من أن تخرج أسرى موتى، أو طي الموت، خرّجت أدباء، وشعراء، وفنانين، وأساتذة جامعات، تحصلوا على هذه الألقاب في مدرسة النضال الفلسطيني داخل المعتقلات والسجون الصهيونية، ناهيك عن أن هذه المعتقلات والسجون الصهيونية خرّجت مناضلين وقادة هم اليوم من أصحاب الشأن والمكانة والرتبة الوطنية. ولأن حيز المادة، بأسطرها السالفات، غدا كبيراً فإنني، وعبر حلقات آتية، سأتوقف عند موضوعات أدب الأسرى، وتقنياته الفنية، وغناه الأدبي، ومضايفته الصريحة والجميلة في آن إلى مدونة الأدب الفلسطيني المقاوم، كما سأتوقف عند أجناس هذا الأدب من رواية، وقصة، ومسرحية، وقصائد، ومقالات، ودراسات، وترجمات، ونقد أدبي، ولوحات تشكيلية.. كي نرى أي غنى أوجده هؤلاء الأسرى الأفذاذ داخل أمكنة الظلم والعسف، والإماتة الصهيونية.


حسن حميد

روائي فلسطيني مقيم في سوريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى