غياث المرزوق - اللُّقَـــــاب - 1 - «عَنْ وَسْوَاسِ التَّلَقُّب»

فَالأَلْقَابُ لَيْسَتْ هِيَ التي تُشَرِّفُ الإِنْسَانَ،
بَلِ الإِنْسَانُ هُوَ الذي يُشَرِّفُ الأَلْقَابَ.

نيكولو دي برناردو دي ماكياڤيلِّي


لقد عمدتُ، في هذا البحث، إلى نحتِ المصطلح الجديد «اللُّقاب» agnomenosis لكي أدلَّ به على مَرَضٍ نفسيٍّ عُضالٍ من نوعٍ محدَّد، مرضٍ يُبْتَلى به الزِّوادُ الذّهنيُّ لدى إنسانِ هذا العصرِ ابتلاءً، فيسود من ثمّ سلوكَه وتفكيرَه على حدٍّ سوىً، وذلك ضَيْرًا بالمطالب الاجتماعية التي يقتضيها دورُه الحقيقيُّ في الحياة. المصطلحُ، ببساطةٍ، مشتقٌّ من كلمة «اللَّقَب» agnomen، من حيث المعنى، تلك الكلمة التي تعني في جملة ما تعنيه «اسمًا غيرَ مُسمًّى به»، كما جاء في لسان العرب. والمصطلحُ، كذلك، مُصَرَّفٌ تبعًا للميزان الصَّرْفيِّ «فُعَال»، من حيث المبنى، ذلك الميزان الذي يوحي إلى شَرْطٍ دائيٍّ أو اعتلاليٍّ أو غير سويٍّ، بوجه العموم، كما هي الحال في «الذُّهان» psychosis و«العُصاب» neurosis، وغيرهما. بيد أن السببَ الجوهريَّ في نحت هذا المصطلح الجديد، في واقع الأمر، إنما مردُّه إلى ظاهرةٍ جِدِّ قابلةٍ للرّصد أمام عين البصيرة، أيًّا كانت، ظاهرةٍ مِحْوالٍ يتنمَّطُ بها مجتمعٌ ذُكوريٌّ سقيمٌ إلى حدِّ القَرَف والغَثَيان، ظاهرةٍ تشير إلى أن هذا اللَّقبَ «غيرَ المُسمَّى به» لَيغدو، في نظر من اتّفق له أن حملهُ، بذريعةٍ «اجتماعية» أو بأخرى، لَيغدو غُدُوًّا قهريًّا حتى أكثرَ أهميةً من اسم عَلَمهِ الفعليِّ، أو معنى هُويّته المُدْرَك، بالحريّ – تمامًا مثلما «حلَّ التأويلُ [القرآنيُّ السّائد]، بوصفه نَصًّا ثانيًا، محلَّ الآيات نفسِها، بوصفها نَصًّا أوّل»، على الرّغم من زَيَغان هذا التأويل القرآني وإفراطه في الشَّطط[1].

فإذا كانت أسماءُ العلم، بوجه الخصوص، لا تميل إلى تبديل معانيها أو تغيير مدلولاتها، في أيّة لحظةٍ من لحظات التّقوُّل – خلافًا لغيرها من أنواع الدّوالِّ قاطبةً، حسبما يسلِّم به التنظيرُ اللاكاني -، فإن اللَّقبَ المعنيَّ، والحال هذه، لا يني يخضع لمتتاليةٍ من أشكال إعادةِ ما يمكن أن يُسمَّى بـ«التّنفُّج الخاوي»، أو من تحوُّلاتٍ نَفَّاخةٍ نفسانيًّا، بالأحرى، بحيث إن كلاًّ من هذه التحوُّلات، فيما يبدو، يحقن بين جنبَي اللَّقب ذاته ظلاًّ آخرَ، أو أكثر، من ظلال المعنى والدّلالة، ظلاًّ مُرْتَهَنًا بمستوى النرجسية الذي ينطوي عليه التكوينُ النفسانيُّ عند «اللُّقابي» agnomenotic (وذلك قياسًا إلى مواضعات نظرائه كـ«الذُّهاني» psychotic و«العُصابي» neurotic، إلخ). وإذا كان مستوى النرجسية، بدوره هو الآخر، يفترض افتراضًا قَبْليًّا كُنونَ دَرَكاتٍ أصلية، أو حتى فرعية، من معاني «الحُبّ الذّاتي» ودلالاته، حسبما يقرُّ به التنظيرُ الفرويدي، فإن البنيةَ النفسانيةَ للُّقاب، عمومًا، تتماهى بالتجسُّد المَرَضي للدَّرَكة الأقلّ صَحاحًا من هذه الدَّرَكات، فتتجسَّد من ثمّ بصفتها تنويعةً من أعراضٍ شَموسٍ مآلُها الأوّلُ والآخِرُ إلى البنية السُّلطوية بذكورتها، أعراضٍ تتميَّز بها بنىً سريريةٌ غيرُ سويّة نفسانيًّا بخطورتها، كبنية الفُصام schizophrenia وبنية البُداد، أو البُدِّية، fetishism. إذ تتجلّى هذه الأعراضُ الشَّموسُ بتجلِّياتٍ تستمدُّ معانيها من مغزى هُواس العِظَم، أو العَظَمة، megalomania الذي يقترن بالبنية السّريرية للفُصام، وتستقي دلالاتِها كذلك من فحوى هُجاس (البُدّ) obsessiveness الذي يرتبط بالبنية السّريرية للبُداد. وتتبدّى هذه التجلِّياتُ، بدورها هي الأخرى، في حَضيضٍ عُدْوانيٍّ بالغٍ من البدائية أيَّما مبلغٍ، حَضيضٍ لا مَعْدىً له من أن يستحيلَ إلى طعنةٍ نجلاءَ، ولا ريب، في صميم الطبيعة الإنسانية والمجتمع الإنساني على حدٍّ سواء، كما سترين من خلال الشرح الآتي.

سيبدأ هذا البحثُ النفسانيُّ الفريدُ من نوعه بالتمييز الذي يضعه فرويد بين النرجسية الأولية، أو البدائية، primary narcissism والنرجسية الثانوية secondary narcissism، فيما له مِساسٌ بمفهوم ما يُدعى بـ«اللَّبْدَنة» libidinization، على وجه التحديد، وبالأخصِّ تينك اللَّبْدَنة السّوية واللَّبْدَنة غير السّوية، أو المَرَضية المنشأ، لمعنى «الحُبّ الذّاتي» ودلالته. فمن طرف، سيشير البحث إلى التعالق التكاملي ما بين البنيتَيْن النفسانيَّتَيْن لكلٍّ من النرجسية والأنانية egoism، بمعنى أن البنيةَ الأولى ليست سوى إكمالٍ مُتَلَبْدِنٍ (أي مشحون شحنًا لَبيديًّا) للبنية الأخيرة. ومن طرف آخر، سينوِّه البحث عن الترابط التعارضي ما بين البنيتَيْن النفسانيَّتَيْن لكلٍّ من الأنانية والغَيْرية altruism، بحيث إن هذه البنيةَ الأخيرةَ يتمّ تفسيرُها على أنها تشوُّفٌ مُفْرَغٌ، أو مُبْطَلٌ، إلى الإشباع الجنسي، بمثابةٍ أو بأخرى. فهي، بذلك، نزعةٌ «إيثاريةٌ» تبتعث بشحناتها العاطفية (المُفْرَغة، أو المُبْطَلة) نحو كائن الرّغبة، وفاقًا لما يُسمَّى بـ«المَرْكَزة اللَّبيدية» libidinal cathexis، التي تجسِّد التوظيف اللَّبيدي، في حالة الحُبِّ الجنساني-المُغاير heterosexual love. بناءً على ذلك، سيؤكِّد البحث على نوعية التعبير عن المُغالاة الجنسية sexual overvaluation، التعبير الذي تتأصّل أصوله في بنية الغَيْرية، في حالة الحُبِّ نفسها، بالإشارة إلى نمطين متباينين من أنماطِ اختيارِ كائن الرّغبة، ألا وهما: النمط «الغَيْري»، أو الوَكْلي، anaclitic والنمط النرجسي narcissistic. فهو، من ثمّ، تعبيرٌ قابلٌ للمقارنة بالعَرَض الدَّالِّ على هُواس العِظَم، أو العَظَمة، الذي يقترن بالبنى السَّريرية للذُّهان الوظيفي، كبنية الفُصام schizophrenia، خصوصًا حين ينحو المسندُ إليه نحو تعديل هذا العَرَض، أو تكييفه، من جرّاء تشبُّثهِ بتمثيل الكلمة بدلاً من تمثيل الكائن، سواءً كان هذا الكائنُ الأخيرُ شخصًا أم شيئًا.

وهكذا، وبإلقاء الضوء على التشابه الوطيد بين ثنائية فرويد «الكلمة-الكائن»، بمحتواها النفسي، وبين ثنائية دو سوسور «الدَّالّ-المدلول»، بمحتذاها البنيوي، سيُعمد إلى إجراء المقايسة الأولى بين البنيتَيْن النفسانيَّتَيْن لكلٍّ من الفُصام واللُّقاب، المقايسة التي تبيّن كيف أن هذين المَرَضَيْن النفسيَّيْن يتقاربان في الطابع التمثيلي للدَّالّ (أي تمثيل الكلمة وتمثيل اللَّقَب، على التوالي)، فيما له رِباطٌ بمغزى هُواس العِظَم، أو العَظَمة، من جهة، وتبيّن كيف أنهما يتباعدان في العامل التوزيعي للبيدو النرجسي، فيما له وِصالٌ بصيرورة الكَبْت repression على اعتباره مناورةً دفاعيةً، من جهة أخرى. علاوةً على ذلك، وفي إطار الوِضْعة المفهومية لسَدانة الأبداد، من زاويتي علم النفس وعلم الإنسان (أو الأنثروپولوجيا) كليهما، فإن شكلَ الانحراف الجنسي الذي تتجذَّر جذورُه في هذه السَّدانة، من الزاوية الأولى، سيتمّ تعيينه بالعَرَض الدَّالِّ على هُجاس (البُدّ) الذي يقترن بها اقترانًا إرغاميًّا. وهكذا أيضًا، سيُصار إلى إجراء المقايسة الثانية بين البنيتَيْن النفسانيَّتَيْن لكلٍّ من البُداد واللُّقاب، المقايسة التي توضّح كيف أن هذين المَرَضَيْن النفسيَّيْن يلتقيان في الاقتران الإرغامي للعَرَض نفسهِ (أي فحوى هُجاس (البُدّ) في حدّ ذاته)، من ناحية، وتوضّح، من ناحية أخرى، كيف أنهما يفترقان في النمط الذي يحدّد اختيارَ كائن الرّغبة، النمط «الغَيْري» أم النمط النرجسي، ويفترقان كذلك في النوع الذي يُعبَّر به عن المُغالاة الجنسية، النوع الفاعلي active أو النوع المنفعلي passive. وفي هتين المقايستَيْن المُجْرَيَتَيْن، إذن، ما يفضي إلى تعريف البنية السّريرية للُّقاب بالعَرَضَيْن اللذين يدلُّ أحدُهما على هُواس العِظَم، أو العَظَمة، ويدلُّ الآخَرُ على هُجاس (البُدّ). وفي هتين المقايستَيْن ما يدعو، أيضًا، إلى رؤية اللَّقَب المكتسَب بطابعه الهَجيني، والحالة هذه، على أنه تجلٍّ من تجلِّيات ما يمكن الاصطلاحُ عليه الآن بـ«الدَّالّ الهُواسي-الهُجاسي» manic-obsessive signifier، الدَّالِّ الذي يتميّز بمدلوله كلَّ التميُّز عمّا يصطلح عليه لاكانُ بـ«الدَّالّ السِّيادي» master signifier. أخيرًا، سيعيّن البحثُ، في هذا الصّدد، ثلاثةَ أصنافٍ معمَّمةٍ من اللُّقاب، كبنيةٍ سريريةٍ، على أقلّ تقدير، ألا وهي: لُقاب التمهُّن(ية) professionalism ولُقاب التحزُّب(ية) factionalism ولُقاب التسلُّط(ية) authoritarianism، وسيورد من ثمّ أمثلةً مُستقاةً من رُصودٍ فعليةٍ لا تزال قائمةً على أرض الواقع، ويا للأسف، من كلِّ جانحةٍ تَقُضُّ المَوتَ في نَوْمٍ، في كلٍّ من المسمَّيَيْن زعمًا، «المجتمع المتقدِّم» و«المجتمع المتخلِّف».

ففي أثناءِ سيرورةِ التكوُّن المحتوم للأنا (الشاهدة)، يسعى المسندُ إليه إلى استنفاجٍ فاعليٍّ active orientation لكمٍّ سخيٍّ ممّا يتسنَّى له من مشحونٍ لَبيديٍّ بإزاءِ كائن الرَّغبة – وَخْيِهِ – آرِبًا إلى بلوغ الإشباع الجنسيِّ أرَبًا في المقام الأوّل، سواءً كان كائنُ الرَّغبةِ شخصًا أم شيئًا، وسواءً كان الإشباعُ الجنسيُّ مأخوذُا بحرفيّته أم بمجازيّته. إذ تحكم هذا الاستنفاجَ الفاعليَّ للمشحونِ اللَّبيديِّ، في الجوهر، مَدْعاةٌ نرجسيةٌ تتجلَّى، في حدِّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، على أنها سِمةٌ حميدةٌ، أو سليمةٌ، في المسار السّويِّ لعملية التطوُّر النفساني. ولكن، في المسار غير السّويِّ لعملية التطوُّر النفسانيِّ هذه، على النقيض، تميل البواعثُ النرجسية إلى الانبثاق بصفتها بواعثَ أشدَّ ضراوةً وأشدَّ خَباثِيَةً حينما يرتدُّ اللبيدو المستنفَجُ استنفاجًا فاعليًّا عن كائن الرّغبة – وَخْيِ المسند إليه – فيخضع بذلك لاستنفاج منفعليٍّ، أو انعكاسيٍّ، passive orientation بإزاء الأنا (الشاهدة) المكنونة في المسند إليه نفسه[2]. وبحسب المفهوم الفرويدي، في هذا السياق، ثَمَّةَ نوعان متميّزان من أنواع النرجسية كبنية نفسانية، بوجه العموم، أحدُهما النرجسية الأولية، أو البدائية، والآخَرُ النرجسية الثانوية، بحيث إن التماثلَ القابلَ للإدراك فيما بين هذين النوعين المعمَّمين، فضلاً عن ذلك، يوحي إلى هالةٍ حَرونٍ من ذلك الارتكاز الذَّاتيّ، أو التمركز الذَّاتيّ، self-centredness تحديدًا، هالةٍ تؤكِّد على اقتران كلٍّ من ذينك النوعين بمعنى «الحُبِّ الذاتيِّ» ودلالته، بهيئة أو بأخرى. غير أن مُفادَ نوع النرجسية الأول، بقدر ما تتكشَّف عنه الهالةُ الحَرونُ عينها، لَهو الذي يقارب هذا المعنى وهذه الدلالة أكثرَ ممّا يقاربهما مُفادُ نوعِها الثاني، وأن الحُبَّ المعنيَّ للذات بمكنونه الجِدِّ ضارٍ والجِدِّ خبيثٍ، ذلك الحُبَّ الذي يتقدَّم على حُبِّ الآخَر، أو الآخَرين، والحالة هذه، لَيَسَعُه كلَّ السَّعَة أن يعملَ بمثابة شرطٍ قَبْليٍّ نفسانيٍّ لصيرورة انحرافٍ جنسيٍّ من شكلٍ واحدٍ على الأقلّ، أو لديمومة اضطرابٍ جنسيٍّ من أكثرَ من شكلٍ واحدٍ حتى، كما ألمع إليه فرويد نفسُهُ نقلاً عن كلام عددٍ غير قليلٍ من علماء المَرَض النفسي، من أمثال إيليس وناخه وساجَر[3]. إذ يظهر أن كلاًّ من حالتي اللاسَواء الجنسيِّ هتين ليس لها سوى أن تُولَدَ من جِبِلَّةٍ نرجسيةٍ تتأبَّط حسامًا ذا حدَّين، إذا جاز المجاز، وأن هذه الجِبِلَّةَ النرجسيةَ، بدورها هي الأخرى، تتبدَّى على أنها البنية النفسانية الشمولية، أو الكونية، بنيةُ البنى في العالَمين الذِّهني والعاطفي كليهما، بنيةٌ تنطوي على شَرْطٍ أصليٍّ، أو بدائيٍّ، لَمِنْ شأنه، قبلَ كلِّ شيءٍ، أن يكونَ باعثًا على حُبِّ الآخَر، أو الآخَرين، في أطوارٍ لاحقةٍ، ولا ريب، دون أن تتلاشى جذورُ الدَّافع النَّرجسيِّ بالضرورة.

وبالرّغم من أن حالتي اللاسَواء الجنسيِّ كلتيهما متشابهتان من حيث المحتوى «المطاوعي» دون سواه، المحتوى الذي يقتضي توجيهَ المشحون اللَّبيدي توجيهًا منفعليا، أو انعكاسيًّا، نحو كائن الرّغبة، إلا أن الفارقَ الجليَّ بينهما يتعلَّق بالطابع التفاعلي لهذه «المطاوعية»، أي فيما إذا كان التفاعلُ ما بين المسند إليه وكائن الرّغبة باطنيًّا «ذاتيًّا» أم ظاهريًّا «آخَريًّا»، على وجه التحديد. ففي حين أن مثالاً نموذجيًّا من أمثلة الانحراف الجنسيِّ يشيرُ إلى ذلك النزوع الذي لا يفتأ المسندُ إليه «النرجسيُّ»، تحت غمرته، يعاملُ جسدَه الخاصَّ كما لو كان جسدَ كائنِ رغبتهِ السَّوي (فهو، من ثمّ، نزوعٌ يتّصف بصفةٍ تهيُّجية-ذاتية auto-erotic، والحال هذه)، يدلُّ مثالٌ طرازيٌّ من أمثلة الاضطراب الجنسيِّ على تلك الميول التي ما ينفكُّ هذا المسندُ إليه «النرجسيُّ»، تحت وطأتها، يعتبرُ جسدَ مسندٍ إليهِ «نرجسيٍّ» آخَرَ من جنسهِ وكأنّه جسدُ كائنِ رغبتهِ السَّوي (فهي، بذلك، ميولٌ تتّسم بسمةٍ جنسانية-مماثلة homosexual، والحال هذه). وفي كلٍّ من حالتي اللاسَواء الجنسيِّ هتين، إذن، ثَمَّةَ كمٌّ بعينه ممَّا يمكن أن نسمِّيه بـ«التَّذَاوُتِيّةٍ اللَّبيديةٍ» libidinal intersubjectivity، كمٌّ يتجلّى في الوَصيد النفساني للأنانية egoism، أو حتى الأنانوية solipsism. وينجلي هذا الوَصيدُ النفسانيُّ، بدوره، أكثرَ ما ينجلي، في حالة النوم المُعتادة، الحالةِ التي تحدو بالنائم إلى استحضار محاكاةٍ خَلاصيةٍ لذلك الوجود الضِّمْنَ-رَحِميِّ intrauterine استحضارًا إرغاميًّا وتكراريًّا، كما سترين في نهاية هذه الدراسة. ولكن، لَطالما أن كائنَ الرّغبةِ نفسَهُ مُظْطَهَرٌ اظطهارًا لَبيديًّا libidinally externalized من لدن المسند إليه «النرجسيِّ»، تمامًا مثلما هو عليه في حالة اللاسَواءِ الجنسيِّ الأخيرة، فمن الأرجح أن يُنْظَرَ إلى هذه «النرجسية»، إذن، بوصفها بنيةً نفسانيةً آنَ لها أن تدخلَ، أو قد دخلت بالفعلِ، في طورٍ أقلَّ بدائيةً من أطوارِ تطوُّرها، وإن كانت لا تَوْنَى تتأبَّطُ الحسامَ ذا الحدَّين ذاتَه.

أما مفادُ نوعِ النرجسيةِ الثاني (أي النرجسية الثانوية)، فاستشفافُه أكثرُ يسرًا من استشفاف ما أفاده نوعُها الأول: لم تعد الأنا (الشاهدةُ) والأنا الغائبةُ ماهيتَيْن نفسانيتَيْن لامتميِّزَتَيْن، أو لامتخلِّقَتَيْن، كما كانتا عليه في أثناء تكوُّن النرجسية الأولية، أو البدائية، وإنما أصبح «الحُبُّ الذاتيُّ»، هاهنا، يستمدّ معناه ودلالَته ممّا يتمخَّضُ عنه تماهي المسندِ إليه المُنْحَفِزِيُّ بكائن الرغبة الحافزيِّ، تماهٍ منحفزيٌّ لا يعدو، في باطن الأمر، أن يكونَ مخاتلةً دفاعيةً تستميلُ الأولَ إلى نكرانِ، أو التنصُّلِ من، ما خسره من مشحونٍ لَبيديٍّ كان قد استُنفِجَ استنفاجًا فاعليًّا بإزاء الأخير. من وجهة النظر هذه، إذن، فإن تكوُّنَ هذه النرجسية الثانوية كبنيةٍ نفسانيةٍ لَمتعاصرٌ، لا بل متزامنٌ، مع تشكُّل الأنا (الشاهدة) كماهية نفسانية، في كنف التماهي المنحفزيِّ ذاك، وإن صفةَ «الثانويةِ» التي أضفيت على معنى الحُبِّ الذاتيِّ ودلالته لَقابلةٌ للاستكناه، أيضًا، من الكيفية التي تمّت بها استعادةُ المشحون اللَّبيدي نفسهِ، المشحونِ الكَنينِ في الأنا (الشاهدة) أصلاً، من كائن الرّغبة الحافزيِّ الذي تماهى به المسندُ إليه تماهيًا منحفزيًّا، كما رأيت. وكما سبق ذكره في مقال آخر، إن أيَّ كمٍّ من مشحونٍ لَبيديٍّ يقترنُ بشخصٍ أو بشيءٍ لكيما يجسِّدَ كمًّا من اللبيدو الكائني (أو «اللبيدو الشيئي»، هناك)، سيُصارُ إلى اقترانه، في نهاية المطاف، بالأنا (الشاهدة) لكيما يجسِّمَ، بدوره، كمًّا من اللبيدو الأنوي. إذ تنجمُ عن هذا الاقتران اللَّبيديِّ المزدوج نزعةٌ نفسانيةٌ مضاعفةٌ كذلك، نزعةٌ إلى تحرير الوعي الذاتيِّ لدى المولود، وهو الوعي الذي قد يتأوَّج في الحُبِّ الذاتيِّ في حدِّ ذاته، من طرفٍ، ونزعةٌ إلى تقييد ارتباطه العاطفي، أو صلته اللَّبيدية، بالوالد، من طرفٍ آخَر[4].

واستنادًا إلى ذلك، وبإجراء مقايسةٍ مستقاةٍ من العالَم العضوي كذلك، فإن التعالقَ «اللامتأصِّل» ما بين اللبيدو الأنوي واللبيدو الكائني ذينك مَثَلُه، في المِحَال، كَمَثَلِ الترابط المتأصِّل ما بين أبسط متعضٍّ في هذا العالَم، أي المتموِّرة (أو الأميبا)، وتلك النتوءات الزّائفة التي تكوِّنها على الدوام، أي الشَّوَيَات الكاذبة pseudopodia (جمعًا لـ«الشَّوَّةِ»، لا «الشَّوَاة»، وتفرُّدًا صرفيًّا لها عن «الشَّوَى»). فكما أن الجِبْلَةَ الأولى (أو الپروتوپلازما) تنسابُ متغلغلةً في هذه الشَّوَيَات الكاذبة، بينما كُنْهُها الجوهريُّ - كُنْهُ الجِبْلَة الأولى - يبقى بقاءً في جُسَيْم المتموِّرة نفسه، فإن المشحونَ اللَّبيديَّ ينبثُّ متوغِّلاً في الأنا (الشاهدة) المكنونة في كائن الرّغبة، أو كوائن الرّغبة (تفرُّدًا صرفيًّا لها عن «الكائنات» – انظري الحاشية: 2)، في حين أن هَيُولاهُ الأساسيَّ – هَيُولى المشحونِ اللَّبيديِّ - يمكُث مُكوثًا في الأنا (الشاهدة) المكنونة في المسند إليه ذاتها. وهكذا، ففي المسار السويّ لسيرورة التطوُّر النفساني، ليس ثمّةَ عائقةٌ تعوق عن انبثاث كمٍّ من اللبيدو الأنوي وإمكانية تحوُّلهِ إلى كمٍّ من اللبيدو الكائني، ولا ثمّةَ حيلولةٌ تحول دون إعادة المشحون اللَّبيديِّ الذي استُنْفِج استنفاجًا فاعليًّا بإزاء الكمِّ الأخير إلى الكمِّ الأول[5].

وفي هذه المقايسة الحيوية (أو البيولوجية)، إذن، ما يحثُّ على الاقتراح بأن الأنا (الشاهدةَ)، في إبّان تكوُّن النرجسية الثانوية، إنما هي مُلْزَمَةٌ إلزامًا، طوعيًّا كان أم كَرْهيًّا، بالجُثوم في بَوْنٍ interspace جِدِّ متقلقلٍ بين الاحتفاظ السّوي باحترام الذّات المؤاتي، من طرفٍ، وبين الاستعداد غير السّوي، أو المَرَضي المنشأ، للغُلُوِّ في تقدير الذّات، أو تمجيدها، غير المؤاتي، من طرفٍ آخَر. إذ ليس لهذا الاستعداد غير السّوي، والحال هذه، سوى أن يَتَحَسْحَسَ be sensitized، بلاسَوائيَّته، حَسْحَسَةً نفسية، وأن يَتَأتْمَتَ be automatized، من ثمّ، أتْمَتَةً اجتماعية، وذلك عن طريق اندماجٍ هَدْميٍّ، أو تَمَلْغُمٍ تدميريٍّ، بين معنى هُويةٍ متوهِّنٍ لم يزل مارقًا في مكنون المسند إليه، من جهة، وبين طابَعٍ «قَعْقَعِيٍّ-هُرائيٍّ»، إن جاز القول، تنطبع عليه البنيةُ السُّلطوية بهرميّتها أساسًا (كسلطة العائلة وسلطة المدرسة وسلطة الدولة)، من جهة أخرى. فإذا كان الاندماجُ الهَدْميُّ، أو التَّمَلْغُمُ التدميريُّ، يسيرَ الإدراكِ، من هذه الحيثية، على أنه علاقةٌ قَسْريةٌ قَسْرًا استباقيًّا بين السلطة الحاكمة، بوصفها كُلاّنيةً أبوية، وبين الفَرْد المحكوم، بوصفه جُزْآنيةً بَنَوية، فليس عسيرًا، إذن، اقتفاءُ جذورهِ اقتفاءً تزمُّنيًّا، أو عبر-زمنيًّا، في التكوُّن الطَّفَاليِّ للفريق الأوّل من هذه العلاقة. وبتعبير آخر، فإن هذا الاندماجَ الهَدْميَّ، أو هذا التَّمَلْغُمَ التدميريَّ، لَسَهْلٌ فهمُه كذلك، من الحيثية ذاتها، على اعتباره علاقةً جَوْريةً جَوْرًا ارتجاعيًّا، بالفعل، بين ما يُسمّى زعمًا بـ«المجتمع المتخلِّف» وبين ما يُدعى ادّعاءً بـ«المجتمع المتقدِّم»، خصوصًا في أعقاب أيِّ شكلٍ من أشكال الاستعمار، أو الاحتلال، ذي «القِحْفِ المُفَلْطَحِ والذَّنَبِ الطَّويل». وهنا تكمن طَمَّةُ إحدى الطَّوامِّ الكبرى، ولا ريب، حينما تستحيل أعقابٌ كهذه مَسْخًا وإغارةً إلى جروحاتٍ «وطنية»، أو «قومية»، لا ترقأ - فكلَّما اشتدًّت يمينُ الاستحالةِ مَسْخًا وإغارةً، كلَّما افتقر المعنى إلى الصدق والأمانة: فلا العلاقةُ القَسْريةُ قَسْرًا استباقيًّا تتغاضى عن تنشُّبها في وهم «جميل»، ولا العلاقةُ الجَوْريةُ جَوْرًا ارتجاعيًّا تتوانى في تشبُّثها بوهمٍ «أجمل»، فتنوء الطَّامّةُ الرَّعناءُ بكَلْكَلِها الأشدِّ قباحةً، آنئذٍ، على الفرد المُجَهَّل خالي الوطاب.

فبالنظر اليقين إلى استرداد المشحون اللَّبيديِّ من كائن الرّغبة الحافزيِّ ذاك، الكائن الذي تماهى به المسندُ إليه تماهيًا منحفزيًّا، يتّضح أن إعادةَ مَرْكَزَةِ هذا المشحون، أو إعادةَ توظيفه، في الأنا (الشاهدة) تحيطان النرجسيةَ بفَيْضٍ أنانيٍّ لا مناصَ منه، فَيْضٍ لا يَنِي المسندُ إليه يستوهم تحت نِيره بأن العالَمَ الظَّاهريَّ، إن تواجد في العَراءِ حقيقةً، إنما يوجد لغايةٍ وحيدةٍ، ووحيدةٍ فقط، ألا وهي: إرتاعُ مصالحه ومنافعه، أو حتى تحقيقُ رغباته وأمانيه، كما هي الحال في الأنانوية الأكثر تطرُّفًا، فيما له مِساسٌ بمبدأ اللَّذَّة. وتبعًا لذلك، ينشأ صراعٌ دفينٌ بين البنيتَيْن النفسانيتَيْن اللتين تقبلان التعاضُدَ باتّزانه، صراعٌ يخوِّل جَوْزًا لكلٍّ من البنيتَيْن جوازَ التوغُّل في حُبِّ الذّات، فيجوز لبنية النرجسية، حينئذٍ، أن تنعزلَ انعزالاً «سُلوكيًّا» عن بنية الأنانية، في الإطار المفهوميِّ لنظرية اللبيدو، بمعنى أن البنيةَ الأولى، في معرِض الحديث عن ميزتها المميِّزة، لَبنيةٌ إن هي إلا إتمامٌ لَبيديٌّ، أو إتمامٌ مُتَلَبْدِنٌ، بالحري، للبنية الأخيرة، دَعيك، بالطَّبع، من إمكانية التَّشَادِّ في العَزْل «السُّلوكيِّ» ما بين البنيتين. فمن الممكن للمسند إليه أن يكونَ أنانيًّا على نحوٍ قاطعٍ، ولكنه، مع ذلك، لا يفتأ يُضْمِرُ وُلُوعًا لانرجسيًّا nonnarcissistic حيالَ مَرْكَزَةِ المشحون اللَّبيديِّ، أو توظيفهِ، في كائن الرّغبة الحافزيِّ، الكائن الذي تماهى به الأوّلُ تماهيًا منحفزيًّا أصلاً. في هذه الحالة، قد يتعزَّزُ الوُلُوعُ اللانرجسيُّ تعزُّزًا أكثرَ شِدَّةً حتى، ما دام الإشباعُ الأساسيُّ لحاجةِ كائنِ الرّغبة عينها يشكّل جزءًا لا يتجزّأ من الإمتاع الجوهريِّ لحاجة المسند إليه ذاتها، ولَطالَما أن الإرغامَ الوُلوعيَّ-اللانرجسيَّ على صون هذا الإشباع وهذا الإمتاع لا يقتضي أيَّ إيذاءٍ عاطفيٍّ لباطنيّة الأنا (الشاهدة)، أو حتى لظاهريّتها، في أيَّةِ حالٍ من الأحوال. ومن الجائز للمسند إليه أن يكونَ أنانيًّا على نحوٍ جازمٍ كذلك، ولكنه، في الوقت نفسه، لا ينفكُّ يُكِنُّ لُهُوجًا نرجسيًّا مُغْرِقًا hypernarcissistic إزاءَ لامَرْكَزَةِ المشحون اللَّبيديِّ، أو لاتوظيفهِ، من كائن الرّغبة الحافزيِّ ذاك، الكائن الذي تماهى به الأوّلُ تماهيًا منحفزيًّا أصلاً (لاحظي التكرار المتعمَّد، هنا). في هذه الحالة، إذن، قد يتسنَّد اللُّهُوجُ النرجسيُّ المُغْرِقُ تسنُّدًا أشدَّ فأشدَّ، حينما يختفي أوْدُ المسندِ إليه اللَّهيفُ إلى كائن الرّغبة مقهورًا أكثرَ فأكثرَ، سواءً تولَّد هذا الأوْدُ اللَّهيفُ أرَبًا في بلوغِ إشباعٍ وإمتاعٍ جنسيين صرفًا، أم تمخَّض، على النقيض، إكرامًا لوِصالٍ يبلغ مطمحُهُ اللاشَهْوانيُّ أوجَهُ، بحيث إن هذا التمخُّضَ النقيضَ يستمدُّ فحواءَه، في الأساس، من تَوْقِ المسندِ إليه الغَرَزيِّ إلى كائنِ رغبةٍ قابلٍ للتَّمَثْلُن، أو للتَّأَلْهُن، تَوْقٍ يُحاجُ إليه، أقلَّ ما يُحاج، تحت راية الحُبِّ الجنسانيِّ-المُغاير.

من هنا، من هذا العَزْل «السُّلوكيِّ» الجليِّ ما بين البنيتَيْن النفسانيتَيْن المعنيَّتَيْن، وإن لم يكن عَزْلاً يسيرَ المِراس حقيقةً، يتبيَّن بجلاءٍ شَفيفٍ أن هتين البنيتَيْن ليستا، في الجوهر، سوى نساختين ناجمتين عن بنيةٍ نفسانيةٍ أصليةٍ، أو بدائية، واحدة، بنيةٍ تتخلَّقُ منها الأنانيةُ بوصفها بنيةً نفسانيةً ثابتةً، من طرفٍ، وتتكوَّنُ منها النرجسيةُ بوصفها بنيةً نفسانيةً متحوِّلةً، من طرفٍ آخر[6]. وبالتسليم جدلاً بالتمايز المقايس بين الأنا الغائبة والأنا (الشاهدة)، ذلك التمايز الذي يؤكِّد على ثباتية الماهية النفسانية الأولى وعلى حُؤولية الماهية النفسانية الأخيرة أيضًا، يتبيَّن بجلاءٍ أكثرَ شُفوفًا أن بنيةَ الأنانية، والحال هذه، تقيمُ بينها وبين ماهية الأنا الغائبة علاقةً أوطدَ بكثيرٍ ممّا تنشئها مع ماهية الأنا (الشاهدة)، في حين أن العكسَ هو الصحيحُ فيما له رباطٌ ببنية النرجسية[7]. يعني ذلك أن الأنانيةَ، لا النرجسية، لَهي البنيةُ النفسانيةُ التي تلتزمُ بمبدأ اللَّذَّة التزامًا أكثرَ خُضوعًا ومُذاعنةً بكثيرٍ من تقيُّدها بمبدأ الواقع، وأن هذا السُّلوكَ المُفْرطَ في خُنوعيَّته وذُلاليَّته لَهو السُّلوكُ النَّموذجيُّ الذي يَتَنَمْذَجُ به الإنسانُ «العصريُّ»، أو «المتحضِّر»، وعلى الأخصِّ منه الإنسان الجامعيّ (أو الأكاديميّ) المُؤَسْأَس institutionalized، أو مَنْ تَأسْأسَ، أو في الطريق إلى التَّأسْؤسِ، عن طريق انتهازيّةٍ أو وُصوليّةٍ أو مُحاباةٍ أو واسِطة. إذ تتناسل من هذا السُّلوك المُفْرط في خُنوعيَّته وذُلاليَّته تناسُلاً إرغاميًّا وتكراريًّا، سُلوكاتٌ بصفتها عناوينَ في التملُّق والتزلُّف والمُداهَنة، سُلوكاتٌ تتجسَّد بأسمى معانيها ودلالاتها على أنها تجسُّداتُ الطَّورِ الفمِّيِّ الأكثرُ بدائيةً وجَهالةً، ذلك الطَّورِ الذي يتبدّى بعينه كأبكر طورٍ من أطوار التطوُّر اللَّبيديِّ والتطوُّر الأنويِّ، إبانَ مرحلة الطفولة. فإذا صحَّ القولُ بأن الطَّورَ الفمِّيَّ، ببدائيّته وجَهالته، يُهَيْمِنُ على البنية النفسانية لِرُتَيْبَة، أو قُبَيِّلَة، أشباهِ الإنسان Anthropoidea ابتغاءً لصيرورة الأنا (الشاهدة)، فإن الأنانيةَ المُنَسَّغَةَ لدى شبه الإنسان اللاعصري واللامتحضِّر، بطبيعتهِ، إنما هي أنانيةٌ أقلُّ ضَراوةً وخَبَاثِيَةً بكثيرٍ من الأنانية المُغَذَّاةِ عند الإنسان «العصريِّ»، أو «المتحضِّر»، بتطبُّعهِ – مثلما أن الارتكازَ الهُجاسيَّ على التملُّك المادِّيِّ و/أو العاطفيِّ لدى الطفل الاتِّكاليِّ، أو اللااستقلاليِّ heteronomous، بسجيَّتهِ، إنما هو ارتكازٌ أشدُّ غَرَزيّةً وخِلْقِيّةً بشديدٍ، ومن ثَمَّ ارتكازٌ أكثرُ بَراءةً وحَمَادِيَة بكثيرٍ، منه عند البالغ «اللااتِّكاليِّ»، أو «الاستقلاليِّ» autonomous، بتَسَجِّيهِ (قياسًا إلى «التطبُّع»).

كما سبق ذكره في بداية هذا القسم، ثمة واحدٌ من تجلِّيات اللاسَواء الجنسي التي تتجلَّى في النرجسية الأوّلية، أو البدائية، يشير إلى ذلك النزوع الغامر نحو استرواحية ما يُدعى بـ«التهيُّج الذاتي» auto-erotism. ويتكشَّفُ هذا التهيُّجُ الذاتيُّ، بدوره، عن بنيةٍ دَفْعيةٍ-غَرَزيةٍ تنطبع على طبيعة جدِّ فطريةٍ، كما هي الحال في الأنا الغائبة، وتنطوي هذه الطبيعة، بدورها، على قوّةٍ دَأَبيةٍ قائمةٍ بذاتها، قوّةٍ تكمِّنُ كُمُونيّةَ ما يُسمَّى بـ«الحَفْزِ المَسْعَويِّ» conatus، بحسب مفهوم سپينوزا (1632-1677)، ناهيك عن الطبيعة الفطرية-المكتسَبة التي تنطبع عليها الأنا (الشاهدة). فمن حيثية الكيف الذي تسيرُ به الآليّاتُ النفسانيةُ في مكنون بنية النرجسية بكلِّيّتها، كبنيةٍ عَقْداء، يظهر أن هناك شيئًا آخَرَ لا بدَّ له من أن يقترنَ اقترانًا ببنية التهيُّج الذاتي ذاته بعد الولادة، شيئًا ليس من السّهل التعبيرُ عنه، في هذه القرينة، ولكنه شيءٌ مكتسَبٌ بطبيعته لا مَحال، مكتسَبٌ بمثابة «حَفْزٍ مَسْعَويٍّ» آخَرَ مُنْضَوٍ (تحت لواءِ ذلك «الحَفْزِ» الأول) لكيما يحفِّزَ تلك الآليّاتِ النفسانيةَ تحفيزًا لا تَوْنى فَوْرَتُهُ، ولكيما يسيِّرَها من ثمَّ في مكنون بنية النرجسية ذاتها[8]. وهكذا، إذن، فيما يتعلَّق بتطوُّر الأنا (الشاهدة)، على أيِّما نحوٍ، فإن أيَّ مَسْعىً «يستفلح» في إمتاع ذلك النزوع الغامر نحو استرواحية التهيُّج الذاتي ذاته، إنما تحفِّزُهُ فَوْرَةُ الحَفْزِ المَسْعَويِّ الآخَرِ، بانضوائه، إبانَ حتى أبكر طورٍ من أطوار هذا التطوُّر الأنويِّ، وعن سبيل مكوِّنٍ دَفْعيٍّ-غَرَزيٍّ يُقالُ عنه «الكَلَف بالنظر المنفعلي» passive scopophilia (أي رغبةُ الذكرِ/الأنثى الجَموحُ في رؤيةِ نفسِهِ/نفسِها في عُرْيٍ تامٍّ). وفي طورٍ لاحقٍ من أطوار التطوُّر الأنويِّ عينه، يسعى هذا المكوِّنُ الدفعيُّ-الغَرَزيُّ إلى حَتْفِهِ بظِلْفِهِ، حينما يأفُلُ المشحونُ اللَّبيديُّ في بنية النرجسية رويدًا رويدًا إلى أن يتلاشى بظَلِيفِهِ، فيفسح المجالَ بالتالي أمامَ ابتزاغِ مكوِّنٍ دَفْعيٍّ-غَرَزيٍّ نقيضٍ تمامًا يُطلَقُ عليه «الكَلَف بالنظر الفاعلي» active scopophilia (أي رغبةُ الذكرِ الجَموحُ في رؤيةِ الأنثى في عُرْيٍ تامٍّ، والعكس بالعكس). من هنا، فإن التصيُّرَ الانكفائيَّ من الكَلَف بالنظر الفاعلي إلى الكَلَف بالنظر المنفعلي، وهو انقلابٌ مَرَضيٌّ-نفسيٌّ يشابه التجعُّلَ الارتداديَّ من فاعلية السُّلوكِ السَّاديِّ إلى منفعلية السُّلوكِ المازوخيِّ، من حيث المبدأ، إنما يستلزم ارتهازَ recrudescence كائنِ الرّغبة النرجسيِّ ارتهازًا لا مفرَّ منه، من طرفٍ، ويستوجب إحلالَ أنا (شاهدةٍ) دَخيلةٍ محلَّ المسندِ إليه النرجسيِّ إحلالاً لا محيصَ عنه، من طرفٍ آخَر، بحيث إن هذه الأنا (الشاهدة) الدّخيلةَ، لدى اكتسابها اكتسابًا محتومًا، تَشْرَئبُّ إلى مَماهاةٍ حافزيةٍ لكي يُتماهى بها تماهيًا منحفزيًّا كذلك[9].

يعني ذلك أن الكالِفَ بالنظر المنفعليَّ الذي تصيَّر تصيُّرًا انكفائيًّا، أو المازوخيَّ الذي تجعَّل تجعُّلاً ارتداديًّا، بقدر ما يخصُّه الأمرُ كذلك، إنما هو كائنٌ غيرُ سويٍّ تتغلغلُ في جهازه الذِّهنيِّ نرجسيةٌ «مفرطةُ التَّلَبْدُن» overlibidinized، إذا صحَّ الاصطلاح، نرجسيةٌ تتشكَّلُ بنيتُها النفسانيةُ من تراكب نوعها الثانويِّ فوق نوعها الأوّليِّ، أو البدائيِّ، ولا ريب، إلا أن إرساليّتها التحطيمية، من هذا الخصوص، تتجلَّى في إتمامِ الأنانيةِ، أو بالحري في تلويثها، بهذا التَّلَبْدُن المفرط، فتتأوَّجُ من ثمَّ، كما تتأوَّجُ بالتَّعدِّي، في تلويثِ بنيةٍ نفسانيةٍ تنمُّ، في حدّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، عن أنانيةٍ «مفرطةِ التَّعَدْوُن» overaggressified، إن صحَّ الاصطلاح كذلك. ثم إن قسيمَ الأنانيةِ الطِّباقيَّ، والحال هذه، لَهو «الغَيْريةُ»، بطبيعة الحال: إذ تتميَّزُ البنيةُ النفسانيةُ لهذا القسيمِ الطباقيِّ عن سائر أنواع النرجسية، وسواءً كانت بنى هذه الأنواعِ معمَّمةً أم مخصَّصة، بواحدةٍ من ميزتَيْن لاتحطيميَّتَيْن، على أقلّ تقدير، ميزتَيْن تنضويان إلى بعضهما البعض، في نهاية المطاف، تحتَ رايةِ موقفٍ عاطفيٍّ واحد. أوّلاً، ما يُدْرَكُ فعلاً من غياب المشحون اللَّبيديِّ الذي ينبغي عليه أن يتمركزَ، أو أن يتوظَّفَ، في كائن الرّغبةِ عينه أرَبًا في بلوغِ إشباعٍ وإمتاعٍ جنسيين محضًا، في المقام الأوّل. وثانيًا، ما يقبلُ الإدراكَ من حضورِ نزعةٍ محتومةٍ حتمًا نفسيًّا و/أو اجتماعيًّا نحوَ تقويض المشحونِ ذاته تقويضًا جنسيًّا، أو تطبيعهِ تطبيعًا لَبيديًّا، عن طريق ما يُسمَّى بـ«المُساماة» sublimation، بوصفها سيرورةً تطوُّرية، قبل كلّ شيءٍ (انظري، أيضًا، الحاشية: 2).

ولكن، فيما له مِساسٌ بحالة الحُبِّ الجنسانيِّ-المُغاير، يظهر أن البنيةَ النفسانيةَ التي تنبني عليها «إيثاريةُ» الغَيْريةِ تسيرُ سَيْرًا متوازيًا مع تسيار البنيةِ النفسانيةِ التي تنبثقُ عن مَرْكَزَة المشحونِ اللَّبيديِّ (السّوية)، أو عن توظيفهِ (السّوي)، فتنصهر البنيتان النفسانيَّتان كلتاهما من جرَّاء هذا السَّيْر المتوازي، وتلتحمان من ثمّ في بنيةٍ نفسانيةٍ وحيدة، بنيةٍ لا تقبلُ التميُّزَ، أو التخلُّقَ، حتى لو بلغ التشوُّفُ الغراميُّ إلى الإشباع والإمتاع الجنسيين منتهاه. ففي حالةٍ كهذهِ، ينحو كائنُ الرّغبةِ نحوَ اجتذابِ جزءٍ معيَّنٍ من «ناصية» النرجسيةِ المكنونةِ في المسند إليه، جزءٍ يعملُ مُكافِئُهُ الأنانيُّ، فيما يبدو، بمثابة شرطٍ قَبْليٍّ نفسانيٍّ لا بدَّ منه للتعبير عن ما يُدعى بـ«المُغالاة الجنسية» sexual overvaluation، وسواءً كان هذا التعبيرُ ضمنيًّا أم صريحًا. يدلُّ ذلك، إذن، على أن التحوُّلَ الغَيْريَّ الذي يطرأ على «ناصية» الأنانية، إنما هو تحوُّلٌ يولِّدُ في سريرةِ كائن الرّغبة شعورًا تضليليًا بالجَلال العارم، كما يتبيَّن ذلك جليًّا من قصيدةِ حُبٍّ نظمها غوته (1749-1832) في الديوان الغربي الشرقي Westöstlicher Diwan – تلك القصيدةِ التي يتأمَّلُ العاشقُ حاتمٌ من تباريحها في حبيبته زُلَيْخة تأمُّلاً يكشف النقابَ عن تحاورٍ هياميٍّ ما بين الاثنين (لاحظي، هنا، أنه لولا وقوعُ الياء الأخيرة بعد النون المشدّدة، لجاء التقفِّي برمّته جُزافيًّا):

حِينَمَا تَجُودُ بِنَفْسِهَا عَلَيَّ
تَعْظُمُ نَفْسِي أَيَّمَا عَظَمُوتٍ فِيَّ
وَحِينَمَا تُشِيحُ بِوَجْهِهَا عَنِّي
أَهِيمُ عَلَى وَجْهِي خَلِيًّا كُلَّ الخُلُوِّ مِنِّي[10]

[انتهى القسم الأول من هذا البحث ويليه القسم الثاني]



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع

- Adonis (A. A. Said) (1989): كلام البدايات [The Beginnings of Arabic Poetics]. Beirut: Daar al-Aadaab.

- Darwish, M. (2004): طباق [Counterpoint]. al-Karmel, 81:68-79.

- Dennett, D. C. (1991): Consciousness Explained. Penguin Books (1993).

- Freud, S. (1900): The Interpretation of Dreams. Penguin Freud Library, vol. 4.

- Freud, S. (1905a): Three Essays on the Theory of Sexuality. Penguin Freud Library, vol. 7.

- Freud, S. (1905b): Fragment of an Analysis of a Case of Hysteria. Penguin Freud Library, vol. 8.

- Freud, S. (1908): Character and anal erotism. Penguin Freud Library, vol. 7.

- Freud, S. (1914): On narcissism: An introduction. Penguin Freud Library, vol. 11.

- Freud, S. (1915a): Instincts and their vicissitudes. Penguin Freud Library, vol. 11.

- Freud, S. (1915b): Repression. Penguin Freud Library, vol. 11.

- Freud, S. (1915c): The unconscious. Penguin Freud Library, vol. 11.

- Freud, S. (1915d): Thoughts for the times on war and death. Penguin Freud Library, vol. 12.

- Freud, S. (1916-7): Introductory Lectures on Psychoanalysis. Penguin Freud Library, vol. 1.

- Freud, S. (1917): A metapsychological supplement to the theory of dreams. Penguin Freud Library, vol. 11.

- Freud, S. (1923): The Ego and the Id. Penguin Freud Library, vol. 11.

- Freud, S. (1930): Civilization and its Discontents. Penguin Freud Library, vol. 12.

- Freud, S. (1932): The acquisition and control of fire. Penguin Freud Library, vol. 13.

- Fromm, E. (1950): Psychoanalysis and Religion. New Haven & London: Yale University Press.

- Fromm, E. (1976): To Have or To Be. Continuum (1997).

- al-Hakeem, T. (1938): تحت شمس الفكر [Under the Sun of Thought]. Cairo: Daar Mişr.

- al-Hakeem, T. (1974): عودة الوعي [The Return of Consciousness]. Cairo: Daar al-Shuruuq.

- Lacan, J. (1953): Some reflections on the ego. International Journal of Psychoanalysis, 34:11-17.

- Lacan, J. (1966a): Écrits: A Selection. Trans. A. Sheridan. London: Routledge (1997).

- Lacan, J. (1966b): Écrits. Trans. B. Fink. New York: Norton (2006).

- Lacan, J. (1972-3): The Seminar. Book XX. Encore: On Feminine Sexuality, The Limits of Love and Knowledge. Trans. B. Fink. New York: Norton (1998).

- el-Marzouk, Gh. (2007a): الدمج[Identification]. Damascus: Maaber.

- el-Marzouk, Gh. (2007b): Identification. Damascus: Maaber.

- el-Marzouk, Gh. (2008a): الأنا [The ego]. Damascus: Maaber.

- el-Marzouk, Gh. (2008b): The ego. Damascus: Maaber.

- el-Marzouk, Gh. (2009a): المسند إليه[The subject]. Damascus: Maaber.

- el-Marzouk, Gh. (2009b): The subject. Damascus: Maaber.

- el-Marzouk, Gh. (2009c): الدال[The signifier]. Damascus: Maaber.

- el-Marzouk, Gh. (2009d): The signifier. Damascus: Maaber.

- Orwell, G. (1958): The Collected Essays, Journalism and Letters: My Country Right or Left 1940-1943. Penguin Books (1982), vol. 2.

- Said, E. W. (1992): The Question of Palestine. London: Vintage.

- Said, E. W. (1994a): The Politics of Dispossession: The Struggle for Palestinian Self-Determination 1969-1994. London: Chatto & Windus.
- Said, E. W. (1994b): Representations of the Intellectual. London: Vintage.
- Žižek, S. (2006): Lacan. London: Granta Books.


[1] قا: أدونيس، 1989، ص 187.
[2] من الجدير بالذكر، هنا، أن الجدلَ المريرَ الذي أثيرَ حول ما يتضمّنه مصطلحُ «اللبيدو» libido من مضامينَ محدّدةٍ (أي الجدل فيما إذا كان المصطلحُ مقتصرًا على الطاقة النفسية التي تتأصّل أصولُها في الدّوافع الغَرَزية الجنسية أم لم يكن)، إنما هو خلافٌ في مسألةٍ اصطلاحيةٍ محضٍ، من حيث المبدأ، وليس نزاعًا في قضيةٍ مفهوميةٍ، فيما يبدو في ظاهر الأمر. فعلى أولئك المحلِّلين النفسيين الذين استيقنوا استيقانًا أعمىً بإلحاح كارل غوستاف يونغ في الموضوعة القائلة بالاتحاد الأصلي، أو البدائي، للدّوافع الغَرَزية برمّتها، عليهم ألا يجحفوا بالتنقُّب عن الحقيقة متحلِّين بمبدأ خُلْقٍ منطوٍ على ذاته، وألا يَمُجُّوها كمن يستشعر بالنُّفور من تفكيك هذا الاتحاد بين ظهرانيهم. ذلك لأن الحديثَ الصريحَ عن طباقيةٍ antithesis ملموسةٍ بين «اللبيدو الجنسي» sexual libido و«اللبيدو اللاجنسي» asexual libido لن يكونَ خليقًا بالثناء أو حتى بالقبول، والحال هذه، ناهيك عن اشتقاق المصطلح ذاته في أواخر القرن التاسع عشر من أصل يرجع تأثيله التزمُّني، أو العبر-زمني، إلى اللغة اللاتينية، ذلك الأصل الذي يعني «الرغبة» أو «الشهوة» بحرفيّته تمامًا. فلنكن على يقينٍ مستبصرٍ، إذن، من أن الاتحادَ المتحدَّثَ عنه، بهذا الصّدد، ليس له أن يُصانَ إلا صَوْنًا عابرًا في حالاتٍ سويّةٍ نفسانيًّا كحالة النّوم وحالة السُّقْم وحالة الحُبّ تحديدًا، وبالأخصّ حين تُدْرَس حالاتٌ كهذه بما هي عليه في حدِّ ذاتها، وبمعزلٍ عن أيٍّ من الحالات غير السويّةِ نفسانيًّا. إذ إن ما ينشأ عن كلٍّ من الحالات الأولى، في واقع الأمر، إنما هو شرطٌ نفسيٌّ منتظمٌ وزائلٌ لا محالَ، شرطٌ يجري من جرّائه انفصالُ المشحونِ اللَّبيديِّ عن كائن الرّغبة (أو كوائن الرّغبة – تفرُّدًا صرفيًّا لها عن «الكائنات»)، فيجري من ثمّ تراكمُ هذا المشحونِ في الأنا (الشاهدة) المكنونة في المسند إليه، بشكلٍ أو بآخرَ. وفي هذه القرينة، يضع فرويد نفسُه تمييزًا بين «الدوافع الغَرَزية الجنسية» و«الدوافع الغَرَزية الحافظة للذات» لكي يدلَّ ضمنًا على قُطابيةٍ polarity قمينةٍ بالتّقدير، فيما يظهر، بين «اللبيدو الجنسي» sexual libido و«الاهتمام اللاجنسي» asexual interest، على الترتيب، ولكي يعلِّلَ بذلك أسبابَ تلك الصراعات الباطنية التي تتمخَّضُ عنها حالاتٌ غيرُ سويّةٍ نفسانيًّا، كحالات العُصاب النّقلي-العاطفي transference neurosis وحالات العُصاب النرجسي narcissistic neurosis على الأخصّ. حتى الطاقة النفسية التي تتجذَّر جذورُها في الدوافع الغَرَزية الجنسية، والتي ينحصر عليها ما يتضمّنه مصطلحُ «اللبيدو» في أيّة حالة كانت، حتى الطاقة النفسيةُ هذه يمكن لها، مع ذلك، أن تتعالى بتقويضها الجنسي، أو تطبيعها اللَّبيدي، من خلال السّيرورة التطوُّرية لما يُعرف بـ«المُساماة» sublimation. ولكن، إذا تمّ النظرُ الجليُّ إلى الطاقة النفسية التي تترسَّخ أيَّما ترسُّخٍ في الدوافع الغَرَزية الحافظة للذات على أنها طاقةٌ تستمدُّ تكوينَها من قوّةٍ لَبيديةٍ، في الجوهر، فإن التضادَّ الحيويَّ (أو البيولوجيَّ) الناجمَ، عندئذٍ، يتبوَّأ مكانَه ببساطةٍ: كلُّ ما له مِساسٌ باللبيدو، من قريب أو بعيد، إنما يندرج تحت الصنف المعمّم «الدافع الغَرَزي للحياة» (أو إيروس Eros)، على النقيض من الصنف المعمّم الآخر «الدافع الغَرَزي للموت» (أو ثاناتوس Thanatos)، كما سبق التنويه عنه في مكان آخر (قا: فرويد، 7-1916، ص 462 وما يتبعها؛ را: أيضًا، المرزوق، 2008 آ، الحاشية: 8؛ المرزوق، 2008 ب، الحاشية: 2). وفضلاً عن ذلك، وبالنظر المحيص في الفحواء النفسي لثنائية «الذكورة» و«الأنوثة»، لا بالنظر في فحوائيها الاجتماعي والحيوي (أو البيولوجي)، فإن اللبيدو الجنسيَّ بعينه، حسبما يراه فرويد، إنما يتّصف «بطبيعةٍ ذكوريةٍ لا تتغيَّرُ، بالضّرورة، سواءً تواجد [هذا اللبيدو] في الرجال أم في النساء، وبغضِّ الطَّرْف عمّا إذا كان كائنُ رغبته رجُلاً أو امرأةً» (قا: فرويد، 1905 آ، ص 141).

[3] قا: مثلاً، فرويد، 1914، ص 65؛ فرويد، 7-1916، ص 465.

[4] را: المرزوق، 2008 آ؛ المرزوق، 2008 ب.

[5] قا: فرويد، 1914، ص 68؛ فرويد، 7-1916، ص 465 وما يتبعها.

[6] قا: فرويد، 7-1916، ص 467.

[7] را: المرزوق، 2008 آ؛ المرزوق، 2008 ب.

[8] قا: فرويد، 1914، ص 69.

[9] را: أيضًا، فرويد، 1915 آ، ص 129.

[10] مقتبسٌ في: فرويد، 7-1916، ص 468.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى