حوار مع القاصّة التونسية فوزية علوي.. حاورها : كمال الرياحي

فوزية العلوي مبدعة تونسية متميزة استطاعت أن تلفت إليها أقلام النقاد و انتباه القراء منذ سنوات بقصّصها المختلفة و قصائدها الجميلة التي نحتتها من غصن مورق خفي ,وأكّد لي أكثر من ناقد مهم في تونس أنها تجيد الرقص على الحبلين الاجناسيين بنفس الرشاقة ,وهذا ما لا نجد عند كثير من المبدعين الذين يحاولون العزف على وترين فيسقط كثير منهم في النشاز ,صدرت لفوزية العلوي من مخزونها المخطوط نصوص شعرية و قصصية منها : علي و مهرة الريح و برزخ طائر و الخضاب و حريق في المدينة الفاضلة ,و حصدت عديد الجوائز المحلية و العربية و العالمية في القصة القصيرة و في الشعر منها : جائزة ملتقى نساء المتوسّط في القصة القصيرة بمرسيليا سنة 1995 و جائزة زبيدة بشير عن مجموعتها الخضاب سنة 1999 و الجائزة الأولى في القصة القصيرة عن مجموعتها “حريق في المدينة الفاضلة ” من أندية فتيات الشارقة للمرأة العربية المبدعة سنة 2001 .

في هذا الحوار حاولنا إن نغوص بأسئلتنا في أعماق التجربة الإبداعية التي خطّتها المبدعة فوزية العلوي و حاولنا استفزازها قدر الإمكان لتقول حكاية شهرزاد الجديدة ,فجاءت أجوبتها موشّاة بالقصص و المتع والاحتجاج . دارت الأسئلة حول كتابة المرأة و رهاناتها و حول سؤال الكتابة و الموت و الكتابة القصصية و الريف و المدينة و الكتابة النسوية و السلطة الذكورية …لنكتفي بهذه العتبة القصيرة مدخلا لبيت شهرزاد التونسية و لنحمل سؤالنا إلى عمق اللقاء : كيف تحكي ؟ و لمن تحكي شهرزاد الخضراء؟!
– تعيش المرأة العادية أمومة واحدة وتعيش المرأة المبدعة أمومة مضاعفة لنحطّ الرّحال في هذه النقطة ونرفع أوتاد خيمة هذا الحوار. هل ولادة العمل الإبداعي أشبه بالولادة فعلا وهل إجهاضه بطعم فقدان الجنين أو الرضيع؟

*- أعيش في هذا المجال جذبا يمارسه قطبان واني لأشعر أحيانا بتمزق أوصالي، أجري لاهثة فرقة بين ردهتين واسعتين أحاول أن أؤثث كل واحدة منهما بعرق الجسد ونصب الروح حتى لا يحدث تماسّ صدامي وحتى لا أجدني صريعة بين حبي لنصي وحبي لأولادي.
سألتني عن الأمومة بمعنييها العميقين والموجعين الممتعين في آن.
أقول ولا أظنني قادرة على إيفاء الوصف حقه، إن ولادة طفل آه كم تستدعي ألما وسهرا وحمّى حتى تظفر منه ببسمة أو ضحكة أو كلمة وان تنشئته لأشد عنتا ووطأة ذلك أن الأم تسعى بين حبها وقسوتها أن تجعل من طفلها الأجمل والأنظف والأقوم وقد لا توفق دائما ولكنها أبدا تحاول ولا تكلّ لأن قدرها أن تعشق هذا الطفل وتتفانى في إنشائه وإنها حادبة عليه جسدا وروحا حتى لا يصيبه أذى. لكن ولادة النص ليست أقل شأنا إنها وجع وضنى على ما في ذلك من عشق ومتعة بل لعلّ هذه الولادة تكون أحيانا أكثر خطرا من الأمومة الطبيعية لأنها الأمومة الغريبة أي تلك التي لا أبوّة فيها وبالتالي لا شرعية لها. فقدر المرأة أن تعيش مغامرتها وجعا وألما ولذة وخوفا هكذا بمفردها ولها أن تعيش عواقبها وحدها..
إنها الأمومة غير الاجتماعية تلك التي لا ينتظر فيها أهل أمام المصحّة ولا يدخل فيها أب بعينين متلهفتين يريد أن يرى ظله في الأرض ولا تزغرد فيها أمّ أو جارة ولا يسجّل فيها طفل باسم أبيه. انه الطفل الحامل لقب أمه وبالتالي فان تربيته وتنشئته وتعقبه لهو من وظيفته المرأة وحدها وإنها لمتحملة من أجله كلّ المصاعب وكل الضغوط والمضايقات. وهي تسعى أن تمنحه الحب والرعاية في غفلة من أعين المحاسبين والمتلصصين همّها أن تراه يسامق أعلى القامات.

* ظهر منذ شهور كتاب في مصر أظنّ عنوانه “تحيا العربية ويسقط سيبويه “دار موضوعه حول تطوير اللغة العربية بإسقاط بعض القواعد التي أثقلتها كنون النسوة , بعيدا عن النحو هل تشعرين بشيء تجاه هذه النون ؟ البعض يراها كالقرط في أذن الأمة ؟ هل هي نون العنصرية والسلطة الذكورية ؟

*- أجدني غير واثقة مما سأقول في هذا المضمار لأنني لم أطلع على الكتاب الذي ذكرت ولكن مسألة تطوير اللغة العربية في رأيي وإسقاط نون النسوة إنما هو أمر موكول إلى طبيعة اللغة وقانون التطور الذي يحكمها فاللغة ليست في حاجة إلى وصاية من أحد وتطوّرها يكون طبيعيا وليس عبر العمليات القيصرية المؤدلجة التي قد تلحق أذى بجسم المولود يصل حدّ البتر والتشويه.
إن سمة الذكورة غالبة في لغتنا، بكل تأكيد لذلك يتغلب المذكر ولو كان واحدا في الضمير على جمع النسوة ولو كن ألفا. ولكن لنون النسوة وقعها الخاص إنها إيقاع الاختلاف ونبض التميز الذي يسري في عروق الأنثى. بهذه “النون” يكون عشقهن وخوفهن وطمثهن وحملهن وولادتهن وإرضاعهن ولك أن تقول إن كيدهن عظيم ” هن ” مجال ليس للرجل أن يقتحمه ويعرف أسراره وخوابيه. أما “هم “فمجال تستطيع المرأة أن تحلّ فيه وأن ترتاد أغواره ونجاده وقد دخلت فعلا هذه المجاهل. لذلك تعامل المرأة بضمير هو إذا كانت بين الذكور ولكن الرجل محروم أبدا من أن يحظى بضمير الأنوثة لذلك إذا كان معهن. قلنا خرجوا ولا نقول خرجن في حين أنها إذا كانت معهم قلنا خرجوا وهكذا تنعم هي بالذكورة في حين يحرم هو من هذه الأنوثة.

-يعرف الياس خوري الكتابة قائلا ” الكتابة ذاكرة”هل تتفقين مع هذا التعريف المكثّف للكتابة ؟ شعرت بذلك وأنا أرتحل بين نصوصك السردية ؟

*- الذاكرة ثدي الكتابة منها تتغذى و بها تنمو وتتطور وكل كتابة تنطلق من حاضر يتيم لا أواصر له ولا أمشاج مع الماضي هي عندي باهتة ومبتورة ومفتقرة إلى الوهج والحياة. إن الذاكرة الفردية – طريقنا الخاصة في استعادة الأشياء – مهمة جدا في ارتياد أقاليم الكتابة لأنها تمثل المنهل الثرّ الذي ليس يغيض أبدا وهي التي تدفع تيار الكتابة إلى الأمام بل أكاد احزم أن أعظم النصوص التي كتبت إنما تلك التي امتطى أصحابها أجنحة ذاكرتهم ليهوّموا في فضاءات ليست تلك التي يكونون فيها لحظة الكتابة همّهم من ذلك أن يلمسوا الأشياء والوجوه التي لم يبق إلا ظلها وصداها . و ليس ضرورة أن تكون مادة التذكر ذات شأن أو من الحوادث الجسام أو الأفعال النبيلة بل إن أي شيء، أي صوت أي رائحة أي لون صار في مجال التذكر يكتسب قيمة عظيمة ويصبح قابلا لان يتشكل وفق معطيات الفن فيخرج بذلك من إطار العادي والمتشابه والمتهافت ليصير مثلا أو رمزا أو قيمة.

فماذا كانت تعني تلك المدرسة القديمة التي درست فيها الابتدائية بمدينة القصرين إنها لم تكن أكثر من ساحة مفروشة بالحصى وشجيرات لا ورد فيها ولا ريحان وأقسام خلفتها “فرنسا” نوافذها لا تقفل جيدا وتئز منها الريح الباردة فتؤذينا . فما لها اليوم تتسع في خيالي فأراها برزخا وأرى أشجارها حوريات رافلات في السندس والخزّ. وما لقاعات الدرس تبتسم كلماّ أغمضت عيني أو رأيت المعلمّ يكتب بأصابعه الدقيقة على اللوح الخضر “حب الوطن من الإيمان” .
وماذا كانت تعني خدّوج بائعة الكوانين والطواجين عندما كانت تمر من حين إلى حين بزقاقنا. كانت مثال القروية البسيطة التي تبيع الطين كي لا تبيع ماء الوجه و لعلي وقتها لم أكن أصبّح عليها أو أمسي ولا كنت أعيرها اهتماما لكن الآن وقد رحلت وغابت في غابة الحياة هذه وأخذت معها ضفائري وفساتيني المورّدة . وتراب حينا الذي كانت تطؤه بقدميها المتعبتين , ومعها أخذت رائحة الإكليل والمطر والطّين وأخذت دهشة عيوننا أيام كانت صافية كالزيت. اليوم فقط صارت خد وج تحظى بهذا الحضور البهي في نفسي و يخيّل إلي كلما نزل المطر أنني أشم عبق أثوابها وكوانينها وأرى بريق عينيها الدامعتين وقد نفخهما برد القصرين وأراني أركض أمامها طفلة طروبا لا ينغص حياتي شيئا إن الذاكرة تأخذ الكاتب لحظة الكتابة مما هو فيه لتحلّق بعيدا إلى حيث تخوم الصفاء والشفافية ولا بد لي أنا مثلا إذا رمت الكتابة أن أسدل بين مكاني وبيني وبين زماني وبيني أكلّة أو ستائر حتى أتحول نفسا وذهنا لأحل في إقليم التذكر وحتى أتمكن إذاك من تحويل ماعشته آنذاك من مجال الواقع إلى مجال الفن. إن للذاكرة قدرة عجيبة على إقحام الكاتب روحا وجسدا في فلك الكتابة فأن تكتب بعمق معناه عندي أن تتذكر بعمق والتذكر يعني أن تنفصل عن الإطار الذي تكون فيه وأن تفقد القدرة على السمع والنظر والتعاطي مع ما يحيط بك بعني أن تصبح في حالة من الصّفاء الذهني يجعلك قادرا على أن تسافر عبر الزمان والمكان دون أن تغادر مكانك وزمانك والكاتب في تلك اللحظة يكون محتاجا جدا إلى نوع من التركيز الداخلي يبيح له أن يلتقط الجزئيات والتفاصيل واللحظات والمواقف المنثورة في ذلك الماضي البعيد حتى يتمكن من إعادة تركيبها وفق ما يمليه منطق الكتابة وقتها .
إن التذكر يمنح النفس دفقات من القوة لتفعيل الكتابة وتخصيبها . لكن دعني أوضح أمرا في هذا المجال إن التذكار عندي موصول أساسا بالطفولة والصبا الأول فانا مثلا لا استحضر مختلف مراحل حياتي السابقة بنفس العمق والشفافية والشعرية التي استحضر بها مرحلة الطفولة . على انه يمكن الحديث في الكتابة زيادة عن الذاكرة الفردية والتي تعني طريقتنا الخاصة في استعادة ما عشناه عن ذاكرة جماعية نكتب من خلالها وهذه الذاكرة تضم التراث الذي نمونا في كنفه وتشبعنا بنفحاته المختلفة وأعني هنا النصوص التي قرانا ها و التي تروي سيرة أشخاص أو تلك التي تخبرنا عن أحداث وقعت في حضارتنا العربية و الإسلامية زيادة عن النصوص الإنسانية الكبرى. فنحن عندما نكتب لا نستحضر ما له علاقة مباشرة بحياتنا نحن فقط وإنما نستحضر نصوصا كثيرة خزّنتها ذاكرتنا شعرا وأيام عرب وسيرا وأخبارا كما نستحضر الأغاني والحكم والأمثال والحكايا الشعبية … إن فعل الكتابة يشبه سبيلا عظيما إذا تدفق جرف معه كل شيء ومال يخطر على بالك إذا كنت متوقفا عن الكتابة

– يحضرني تمييز طريف للقص القصير من الرواية وقعه الروائي والقاص التونسي حسن بن عثمان يقول فيه “الرواية جريمة في حين القصص والحكايات جنح وجنايات ” وهذا التعريف نفسه تقريبا نقرأه في “ذاكرة الجسد ” للكاتبة الجزائرية لأحلام مستغانمي .” علمت أنك تخفين أكثر من مخطوط روائي .متى نقرأ جرائمك ؟
متى سيحقق معك في أولى جرائم فوزية علوي ؟

*-أظن أن المعنى الذي قصدته أحلام مستغانمي غير المعنى الذي قصده حسن بن عثمان لأن كلا من الكاتبين ينظر من زاوية مختلفة حسب رأيي بمقتضاها يقيم فعل الكتابة من حيث آليات ومضمونه وهدفه.
أظن أن حسن بن عثمان وليعذرني إن أنا لم أتبين جليا مقصده- إنما يطلق تسمياته انطلاقا من اعتقاده في خطورة العمل الروائي بما هو عمل “ضخم” يتطلب ذاكرة ورؤية استشرافية واضحة كما يتطلب إحاطة شاملة بالحدث الذي يكتب عنه أو المكان الذي يحرك فيه الكاتب شخوص روايته أو الزمان الذي يستظلون تحت فيله كما يتطلب الأخذ من كل شيء بطرف على حد عبارة الجاحظ, فالروائي من هذا المنطلق وجب أن يكون سياسيا وعالم اقتصاد وموسيقيا وعالم نفس ولصّا وسوقيا وعون أمن ومنتميا حزبيا وخارجا عن سلطة القانون وقادرا على تقمّص أي شخصية وبقدر ما يكون كذلك يكون قادرا على تقديم نصّ نابض وأصيل ومحكم ومثير. كما يتطلب العمل الروائي رغم كل التجريب الذي سيطر على الرواية العربية مهارة فنية تجعل الكاتب قادرا على صهر ما ليس من عالم الأدب في عالم الأدب.
وإني أخشى أن يكون تعريفه للقصة القصيرة على أنها ضرب من الجنحة أو الجناية فيه الكثير من الاستسهال لهذا الفن الذي أرى أنه لا يقل خطورة ومغامرة عن النص الروائي لأن الكاتب فيه وجب أن يقول الكثير بالقليل من اللغة وأن يصهر العالم كله في بوتقة صغيرة لهذا فان اليسر المزعوم للقصة هو كاليسر المزعوم لقصيدة النثر .
أما ما قصدته أحلام مستغانمي فمسألة حسب رأيي لا تتعلق بجنس الرواية بقدر ما تتعلق بما تكتبه المرأة فما تطرحه أحلام مستغانمي يدخل في إطار تجريم المرأة من خلال كتابتها فبقدر ما يباح للرجل أو يبيح لنفسه أن يشتغل في مجال حر وفسيح يكون فيه عساكر الرقابة في غفلة بقدر ما تشعر المرأة بنفسها محاصرة ومراقبة ومضطرة إلى شتى الخدع والحيل حتى لا تتورط في “فضح نفسها” وحتى تتمكن من إقناع القراء بأن ما تكتبه لا يتعلق بها بل يتعلق ببطلتها وأن ما تأتيه في نصّها لهو من قبيل التخييل أو الإيهام بالواقع ولا يمتّ إلى واقعها بصلة. لكن عين الرقيب ناقدا مختصا أو قارئا عاديا بل وحتى عين القارئة المشبعة بالثقافة البطريركية تظل أبدا تحاصر هذه الكتابة وتتفنّن في غربلتها قصد تعريتها وقصد الحصول على les indices الجريمة التي يقع من خلالها إسقاط الحد بين الواقع والنص أو بين المعيش والمكتوب ولا بد في هذا المجال من تذكر محاكمة بعض الكاتبات قضائيا ولا جرائم اقترفتها إلا أنهن كتبن وتجرأن على اقتحام مناطق – ملغّمة – أو محظورة. كما أن أحلام مستغانمي سعت عبر نمط من التلاعب الفني والمهارة الأسلوبية إلى جعل الحد بين الواقع والخيال واهيا وهو ما يترك القارئ حائرا بين البعد التخييلي والمنحى السير ذاتي في كتابتها فالجرائم التي تقترفها أحلام مستغانمي على لسان بطلتها إنما تتمثل في تصوير المغامرات العاطفية التي تعيشها البطلة والتي ليس في حقها اجتماعيا وأخلاقيا أن تعيشها ولكنها رغم ذلك تقدم عليها وتحرص على عيشها لأنها تتنزل ضمن حقها الوجودي في تعاطي إنسانياتها.

– يبدو أنّك حلّلت الشاهدين و نسيت السؤال الرئيسي وهو متى ستكتب فوزية العلوي الرواية و ربّما كان في دفاعك عن القصة القصيرة إجابة مبطّنة …
تقول يمنى العيد ,مثلا, “أرى نفسي اليوم امرأة قادمة من صمت كان يغمرها ” هل استطاعت المرأة
العربية الكاتبة أن تقول نفسها أم أنها كتبت بأصابع زوجها وشقيقها ووالدها فما قالت غيرهم ؟
ينتابني إحساس بأن رشيد بوجدرة قال المرأة في ” يوميات امرأة آرق ” ما لم تقله مؤلفات النساء مجتمعة؟ هذا يدفعنا إلى الالتفات إلى قضية أخرى تتعلق بموضوع الكتابة وهي الكتابة الأنثوية في مؤلفات الرجال والكتابة الذكورية في أعمال المرأة.
*- ليست يمنى العيد فقط هي التي تحدثت عن الصمت بل أن معظم من كتبن تحدثن في قصصهن ورواياتهن أو شهاداتهن عن الصمت والتغييب والطمس والإقصاء وكل أشكال “العنصرية” التي مورست دهورا على المرأة ومنعت صوتها من الوصول ونصوصها من الانتشار والتداول لأن طقس شفويا كان أو مكتوبا كان شأنا ذكور يا وجودة القصائد قيست وفق مقاييس جنسية لذلك حدثنا تاريخ أدبنا عن شاعر فحل ونص فحل ولم يحدثنا عن نص مؤنث أو أنثى بل إن ما قالته المرأة لم يقع الاحتفاء به وان سجلت كتب الأدب بعضه فإذ ذلك لم يذكر إلا على سبيل الطرافة أو الشذوذ أو لكأنّه إنتاج الأقليات الذي يطمس في غمار الاحتفاء بالإنتاج الثقافي المسيطر. فالمرأة العربية في العصور الأولى إما أنها لم تقل أدبا وإما أنها قالت ولكن لا بالدرجة التي قال بها الرجل ولا بالكيفية التي عبر بواسطتها وفي الحالتين فالمرأة أجبرت على أن تعيش الصمت والغياب اللغوي المعبر عن الغياب العاطفي والفكري وهو صمت مريب لأن يأتي متناقضا مع خصوصية حضارة احتفت بالكلمة (اللغة) وثمنتها ورفعتها راية وعلقتها على أستار الكعبة وأقامت لها الأسواق إنشادا وسماعا. بل إن القصيدة سميت “كلمة” فكأنما قدرهم أن يكونوا حرفيين كلام. (Artisants ) وصناع عبارة رغم ذلك فتاريخنا لم يصنع شواعر بقامات الفحول من الشعراء ولا سجل لنا خطبا مصقعة قالتها نساء ولا متونا ولا أسفارا ولا مناظرات بأسمائهن , ألوعيهن الباكر بخطورة الكلمة وقدرتها على “تدنيس” عقول النساء وتعليمهن التمرّد والعصيان وارتياد أغوار الحيل والدهاء اللفظي وبالتالي تكدير صفو عيش الرجال. وإذا ما كانت دواوين الشعراء لا يكاد يحصيها العد فان ما قالته المرأة ظل نثارا في المتون والكتب وجب أن يجتهد الباحثون في جمعه وتقصّيه ولعل أهم شعر نسائي متكامل وصل إلينا من العصور الأولى هو شعر الخنساء والسر في ذلك عله عائد إلى أن هذه المرأة قد برعت في البكاء والتفجّع ولو كان من قبيل الغزل المشبوب والجذل الحياتي لكن ربما طمس فكأنه للمرأة أن تنوح وليس من حقها الغناء والنشيد بل لعل شعر الخنساء ما كان لينتشر ويذيع لو لم يكن تفجعا على أخ هو صنو لأب سابق وزوج لاحق وهو شعر في كلّ الأحوال يمثل احتفاء بمنظومة قيمية ذكورية دأبت المرأة على تقديسها وتبنيها
-تهرع المرأة الكاتبة إلى الرجل ليقدّم أعمالها. بماذا تفسرين هذا السلوك ؟ هل فيه رغبة في انتزاع اعتراف من الرجل أم هو الرضوخ للقانون الشهرياري الذي نصب الرجل مكان النابغة يسقط ويجيز ومكان إلا له يحيي ويميت؟

*- ربما بالغت في استعمال فعل هرع فليس الأمر على هذا النحو من الأهمية و القداسة .و لا يمكن أن تتحدث عن كل تقديم بنفس الكيفية فلكل كتاب ظروف كتابته و ظروف نشره و تقديمه و تختلف طبيعة العلاقة بين المقدّم و المقدّم لها من كتاب إلى آخر . ولكن يمكن الإشارة في بعض الحالات إلى أن الدافع قد يكون مردّه إلى السبق الذي حصل للرجل في ميدان الكتابة هذا السبق الذي مكنه في أحيان كثيرة من إنضاج تجربته و تعميقها و فتح أفاق رحبة مازالت المرأة بعيدة عن متناولها لذلك فهي تسعى إلى الاستفادة من تجربته و من أبوّته في الكتابة و لكن ليس إلى درجة اعتباره نابغة لا يشق له غبار أو إله يحي و يميت فكثيرات هن الكتابات اللاتي فرضن أنفسهن في ميدان الكتابة و تجلين عن طاقات إبداعية نادرة و مهارات فنية متميزة و لا أريد هنا أن ادخل في مقارنات أو مهاترات و يكفي أن أقول ولأتهم بالنسوية لا بأس هذه المرّة , إن المرأة رغم دخولها الحديث إلى حلبة الكتابة و رغم كل أشكال الحظر و القهر و التبعية المسلطة على الكاتبة و رغم توزعّها بين وظائفها ” التقليدية ” و الحديثة و رغم أن الفسحة المخصصة للكتابة تكون في اغلب الأحيان مسروقة و مفتكة افتكاكا فان المرأة وفقّت في إنتاج عديد النصوص الجيدة التي تفوق أحيانا نصوص الرجل جودة .أما تنويهك بشهريار فهو مردود عليك لأن شهرزاد هي سيدة الحكاية وهي التي أسرت بها شهريار وتركته سجينا في حبائلها واستطاعت بذلك أن تكون منقذة لبنات جنسها من جبروت الرجل .ثم أليس في حكاية شهرزاد إقرار بقدرة المرأة اللا ّمسبوقة في نسج الحكي وما فيه من متعة تصل إلى حدّ خلب اللبّ وصرف الإنسان عن هواجسه الحياتية كما حصل لشهريار؟
– و هذا الرأي أيضا يناقش لأنّ النقد المعاصر بدأ يراجع فكرة انتصار شهرزاد و سيادتها للحكي لأنّها في الحقيقة لم تفعل شيئا غير تكريس الخطاب الذكوري /الشهرياري ,اسمعي ما قاله الروائي الجزائري واسيني الأعرج مثلا:”….حتّى ما توارثناه عن ألف ليلة و ليلة ,عن شهرزاد على أساس أنّها “نموذج الاستثناء” للتحرر,لم تكن إلاّ الوجه الآخر المنعكس في المرآة ,لوجه شهريار.شهرزاد كانت شهريار في المؤنّث.قالت ما كان يريد سماعه و إلاّ كيف نفسّر امتلاء نصّ ألف ليلة و ليلة بالخيانات الزوجية في وقت أن وجود شهرزاد كان لغرض مناقض,هي لا يمكن أن تناقض السلطان,السلطة الرسمية ,فأعادت إنتاج خطابه و أعطته امتدادا رمزيا بإنجابها لذكور ثلاثة….”
سأقرأ عليك أيضا ما قاله إبراهيم محمود في كتابه ” المتعة المحظورة” : عالم ألف ليلة و ليلة , هو عالم ذكوري بامتياز, و ” شهرزاد” التي لا تهدأ و لا يشبع نهمها و هي تستثير ” شهريار ” بسماعه حكاية تلو أخرى ,عن مكر المرأة و خياناتها و مكيدتها تاريخيا ,إنما تكون في العمق لسان حال رغباته , إنها (هو) ذاته ,سوى اسمها الذي يفصح عن أنوثيته, و ذلك لإضفاء صدقية قيمية تحط من قيمة المرأة ,و ليس رضاه عنها في النهاية سوى رضاه عن نفسه,من خلال الحكايات التي أراد لها أن تكون شاهدا حيا على المرأة ككائن خيانتي…”
هذه بعض الآراء المضادة لرأيك و رأي كثير من المغرمين بانجازات شهرزاد , و الاختلاف لن يفسد لها الحوار مناخا,لنعد نعبر إلى نقطة حوارية أخرى .
تقول سلوى بكر “المرأة تستطيع الحصول على قدر لا بأس به من الاهتمام والشهرة لأسباب لا علاقة لها بالأدب .فقليل من الأدب وكثير من الجمال أو النفوذ السياسي والاجتماعي والمالي يكفي لأن تضع المرأة أقدامها في دائرة الأدب وتعتمد كشاعرة أو روائية وتلعب العلاقات العامة أو طبيعة الارتباط برجل أو زوج مهمّ دورا لا بأس به في تعميد المرأة المبدعة .” مار أيك في هذا الكلام؟ ألهذه الأسباب بقيت الكتابة النسائية التونسية خارج الخريطة الأدبية العربية ؟

*- ما قالته سلوى بكر فيه من الصحة حيزا لا بأس به و لكن لست أدري لماذا ركزت على تونس واعتبرت أن السبب في انحسار الكتابة النسائية التونسية إنما يعود إلى ما ذكرت من أسباب ولكني لا اربط الأمر بقطر معين لأني لا أعرف وضع جميع الكاتبات الاجتماعي و السياسي حتى احكم حكما منصفا و لكن عموما ثمة كثير من الظروف التي يمكن أن تسهم في شهرة كاتبة ولا علاقة لها بنصّها .-فان تكون الكاتبة في العاصمة أو مدينة كبيرة غير أن تكون في منطقة نائية بعيدة عن الأضواء و زخم الحياة الثقافية . و أن تكون ذات وضع مادي جيد يخول لها الكثير من الامتيازات – الطباعة / الانصراف عن شغل البيت / السفر/ القراءة / غير أن تكون ذات دخل محدود يحتم على الكاتبة .أن تجتهد لتحصل على رزقها قبل التفكير في كتابة نصّ لا يسمن و لا يغني من جوع و أن تكون ذات علاقات جيدة مع السلطة السياسية و سلطة الإشراف الثقافية و مع مسؤولي الإعلام غير أن تكون مستقلة معولة على الله و على الصدفة . كل هذه الظروف تساهم خاصة في مجتمعاتنا العربية في منح الكاتبة امتيازات لا تحظى بها غيرها ممن تفتقر إلى مثل هذه الظروف كأن تدعى إلى ندوات هامة أو تحظي بأوسمة أو تحصل على جوائز لا تستحّقها أو يباح لها أن تسافر إلى بلدان مختلفة على حساب جهات مسؤولة عن النشاط الثقافي و لكن كل هذا لا يمكن أن يسهم في تزكية نصّها إذا كان رثّا و إن كان لا يتوفر على ما به يكون الأدب أدبا وحده النص إذا كان جيدا وقويا و نافذا و قادرا على كسر الصمت و إحداث الدويّ الذي تحدّث عنه المتنبي هو الذي يرشّح دخول الكاتبة إلى ميدان الأدب عن جدارة . قد أكون واهمة هنا أو طوباوية لأن النصّ يحتاج إلى من يعرّف به و من يشهره و من يطلع عليه ليعبر من لغة إلى لغة أو من قطر إلى قطر و يصل إلى أيدي من يثمنه و يقدره قدره و إذا افتقرت الكاتبة أو الكاتب إلى هذا يظل النص الجيد و الفريد و النادر مطمورا كلؤلؤة في قاع البحر .ألا من ملاّح ماهر ألا من غوّاص يفرق بين اللآلئ و الحصى ؟

– جيد ما سمعت و أن كنت أختف معك في حكاية الإقامة بالمدن الكبرى فكم كاتبا يقيم في شارع الحبيب بورقيبة مثلا و لا يشرب قهوته إلا في مقهى لينيفار أو باريس و مع ذلك ظلّ قصيرا و في المقابل يسكن إبراهيم درغوثي قفصة و يصل نصّه إلى كلّ العالم العربي و هاهو صوتك أيضا يصل …
على ذكر القرى و المدن , لاحظنا حضورا كبيرا لمناخات القرية في نصوصك القصصية. كيف طوّعت هذا الجنس الأدبي الذي ولد في أحضان المدينة وعلى أعمدة الصحف ليقول التربة وتسامق السنبلة وخوار البقر وصياح الديكة ؟

*- أنا لا أومن بالتنميط و لست رهينة نظرية أو منهج في الكتابة و لا يهمّني كثيرا تاريخ الجنس الذي أكتب ضمنه كما لا تهمني كثير من التصنيفات و التعريفات إلاّ بالقدر الذي يمكّنني من الاطلاع على تجارب الآخرين . إنما أومن بكتابة حارة نابضة بالحياة و بحكاية تستطيع أن تقوليني أولا ثم تقول العالم كما يلذّ لي أن أراه و كما أتمناه أو كما أتخيله و اللغة لغتي و أنا سيدتها و خيالي قدّ هكذا لأنني نشأت هكذا في مكان بعينه و أسرة بعينها و بين أشخاص معينين اثروا في على شاكلة مخصوصة و إحساسي بالمكان رهيب و ليست كل الأماكن تفرض علي سلطتها و مهابتها بل ثمة أماكن تأسرني على نحو أنا لا استطيع تفسيره و لكنني أعيشه بعمق و بحنين شفيف و أحاول أن أطوع اللغة لتترجم عن تعلّقي ذاك بتلك الأمكنة و أنا تأسرني الطبيعة و البساطة على نحو صوفي عميق لذلك تجدني ميالة كثيرا إلى الحديث عن مظاهر القرية أكثر من المدينة وميالة إلى الحديث عن الحجر والرمل والقصب والقش أكثر من الحديث عن الاسمنت و الزجاج و الحديد لأنني أحب الأماكن التي لم تتعامل معها يد الإنسان بعنف و تدمير بل داعبتها بكثير من الرفق و الشفافية و خلّفت فيها بصمات التعامل الفطري الأول مع العالم كما إن المدينة التي أعيش فيها ” القصرين ” الواقعة في الوسط الغربي التونسي مازالت تحمل الكثير من ملامح القرية والريف بل إن معظم مدننا العربية لم تستطع رغم كل مظاهر ” تمددنا ” أن تتخلص من طابعها الريفي أو القروي فالناس الذين عمروها و نزحوا إليها حملوا في سلوكهم و تفكيرهم و لغتهم و مظاهر عيشهم مسكنا و طعاما و لباسا و عادات سلوك أهل الأرياف و القرى و لهم حتى و إن عاشوا في المدن الكبرى و العواصم حنين جارف إلى أهلهم القدامى و إلى ذكريات طفولتهم و صباهم في أحضان هذه الأماكن الأولى المطبوعة بعفويتها و تلقائية أهلها . فمدننا ماهي في نهاية الأمر و إلا خليط طريف من قرى و أرياف نزحت كلها لأسباب مختلفة ( الدراسة / العمل/ المغامرة ) لتشكل المدينة الهجينة أو المدينة الفسيفساء.
– و هذا رأي عبد الرحمان منيف الذي يرى في مدننا قرى كبرى و كذلك رآها جبرا إبراهيم جبرا …
مثّل الموروث الشعبي (أغنية ,أهزوجة , عادات وتقاليد , خرافات وأساطير)مشكّلا من مشكّلات النص السردي لفوزية العلوي.. هل يحتاج الكاتب دائما للتّجذّر في أرضه حتّى يقول المختلف ؟
*- ” الموروث الشعبي ” له حضور كبير من نصوص بأشكال مختلفة لأنه حاضر في نفسي بكثافة بل انه مازال في كثير من مظاهره ماثلا لعيني فانا عندما أمر و أرى جمعا من الشيوخ ببرانيسهم أو قشاشيبهم يلعبون ” الخربقة” فأنا في الواقع لا احلم و لا أتخيل و لا أبتكر شيئا و إنما أرى لعبة عمرها قرون و تجري أمامي و عندما احضر عرسا أو مأتما فاني أري و اسمع و أعيش كثيرا مما يتصوره القارئ البعيد موروثا و هو في الواقع متواصل متجدد .ثمّ إني إلى ذلك متعلقة بكثير من الموروثات الشفوية و التي تحضر فيها الحكاية مثل الخرافات و الأمثال و الأغاني لأني أراها متوفرة على جمال نادر أخاذ وذكاء فائق وأنا مفتونة بكل قديم لا لأنني من هواة التجميع Les collectionneurs بل لأن المصنوعات القديمة فيها روح وعفوية وجمال يندر أن نجده في غيرها.
إنها تترجم عن صلة الإنسان بمادة الصنعة ( الطين / الصوف / الخشب / الجلد …. ) تلك الصلة التي لا يحتاج فيها الى علم أو نظرية مسبقة بل أقصى ما يحتاج إليه هو ذكاؤه الفطري ومهارته ورغبته في أن يطوع المادة إلى ما يريد انه الجمال في أنقى مظاهره وأكثرها توهجا وإبهارا والحكاية صنعة هي الأخرى ولكن صناعة مادتها الكلام ولكنه يرصّف وينقش وينمنم بنفس الكيفية التي يحاك بها الثوب أو يشكّل الخزف أو ينقش الخشب. ثم لست أدري لماذا اعتبرت هذه الظاهرة مشكلا أنا على عكسك أراها خصوصية وميزة فريدة ناهيك أني لا أتكلّفها وإنما تأتي تلقائية ولا أظنها مثّلت عائقا دون استغلال مواد أو مصادر إبداعية أخرى في كتاباتي ثمّ ألا توافقني الرأي بأن الكاتب بقدر ما يتجذر في محليته بقدر ما يكون مثيرا للاهتمام ؟
_ أوافقك جدّا ,بل إن سرّ عالمية أدب أمريكا اللاّتينية و أدب الشرق الأدنى يكمن في ذلك التجذّر.

*- إن هذا التّجذّر هو الذي يمنح الكاتب ريحه المميّز وميسمه المختلف ثم ّألا تشاطرني الرأي بأن المحلية هي الطريق إلى العالمية , إن تعلّقنا بكثير من النصوص العلمية يعود إلى أنها قالت أصحابها وعبّرت عن همومهم ومشاغلهم ومداراتهم الثقافية وليس لأنها قالتنا نحن .
– رغم المكتسبات القانونية التي حصلت عليها المرأة التونسية في بلد أصبح علامة فارقة في موضوع حرية المرأة ظلت نصوص المرأة الكاتبة في تونس نصوصا مهادنة لم ترق إلى مستوى نصوص حنان الشيخ في لبنان أو نصوص سلوى بكر في مصر في جرأتها ومعالجتها للمحرّمات الشهيرة ( الدين , الجنس ,السياسة) هل تعتقدين أن الإلحاح عليها في النصوص غير التونسية ناتج عن تعطّش وحرمان ؟ هذه الإجابة قد ترضيك ولكني لا أتبناها؟

* – إن المكتسبات القانونية التي حصلت عليها المرأة التونسية أفادتها في مجالات كثيرة ولا شك كنيل حظها الوافر من التعليم وكفتح مختلف مجالات العمل أمامها وكتمكينها من المشاركة الفعالة في الميدان القضائي والسياسي ومنحها أمانا أكثر في حياتها الأسرية.
لكنها ليست محدّدة في أن تهبها رؤية متطورة في الكتابة أو تجرئها على اقتحام آفاق “المحظور” أو الشائك من الموضوعات لان هذه المكتسبات تظل متعلقة بالتشريعات أما الواقع فمختلف لذلك فإن المرأة التونسية مازالت تعيش تحت وطأة العادات والتقاليد التي تلجم وتكبح وتحظر الكثير من الطاقات والمجتمع التونسي رغم كل تطوّره مازال مجتمعا أبويا في أغلب مظاهر حياته متلفعا بالدين في كلّ صغيرة وكبيرة لذلك فان المرأة الكاتبة تظل محتكمة في كل ما تكتبه إلى سلطة الأنا الأعلى الاجتماعي والأخلاقي والديني متخوفة من أن تقع في صدام مع الأخلاق والحياء ولذلك فإنها مازالت تهادن حتى وان كنا نجد هنا وهناك بعض الكاتبات اللاتي سعين الى التسلل تحت الحاجز الشائك للوصول الى مجال من التعبير أكثر حرية .
أما عن المقارنة التي أجريتها مع بعض الكاتبات المشرقيات أو الشرقيات فأنا أقول إن هؤلاء قد استفدن من الزخم الثقافي الموجود في بلدانهن والذي هو وليد أوضاع حضارية و سياسية و تاريخية مختلفة .
فما عاشته اللبنانية أو تعيشه من أحداث كالاحتلال الصهيوني و التناحر الطائفي و التباين الديني والاثني من شأنه أن يفتح نصها على تخوم و مشارف ليست مباحة لنص الكاتبة في تونس هذه التي تعيش في حال من الهدوء الذي و إن كان هو مطلب كل حي فانه يلقي بظلال التشابه و الرتابة على النص إذ لا وجود لأحداث جسام أو هزّات كبرى من شأنها أن تحدث خلخلة في مفاهيم أو تنتج مفاهيم أخرى , فيمنى العيد على ما أذكر لها كتاب اسمه ” الكتابة تحول في التحول ” أشارت فيه إلى التغيرات التي أحدثتها حرب لبنان في الواقع و التي انعكست بدورها على عقول الناس و نمط التفكير و بالتالي على طرائق الكتابة و التعبير .كما أن نصيب نص الكاتبة في المشرق له من الانتشار ما لم يكن يوما لنص كاتبة في تونس أو في المغرب بصفة عامة فتقاليدهم في النشر أعرق من تقاليدنا و إمكانياتهم أوسع من إمكانياتنا أعني إن كثيرا من دور النشر في لبنان أو مصر أو الأردن لها من الفاعلية و التحرك و التوزيع أكثر مما هو متوفر لدينا لذلك ينتقل النص هنا و هناك و يخرج من حدوده الضيقة و يكتشف قراء جددا كل مرة و هذا يسهم في كتابة حوله و في دعوة صاحبته الى حضور أكثر من ندوة و أكثر من لقاء إعلامي و هذا كله ينعكس ايجابيا على النص و يمنح الكاتبة فرصة الاستفادة و التلاقح مع غيرها من الكتاب لتطوير رؤيتها الفنية .كما نلمس احتفاء من النقاد المشارقة بنصوص كاتباتهم أكثر من احتفاء نقادنا بنصوص كتباتنا .كما نجد أن كثيرا من نقادنا ينكبون على قراءة هذه النصوص و تثمينها و الدعوة لها و جعلها مرجعا حتى ولو لم تكن دائما في المستوى المطلوب ويسارع عاقدو الندوات في بلداننا إلى استيفاد كثير من الأسماء النسائية “النكرة” في كثير من الأحيان والتي تفتقر إلى إتقان أصول الكتابة للمشاركة في فعاليات هذه الندوات في حين يقع إغفال النص الجيد عندنا أو التعامل معه بحذر وإحاطته بكثير من نقاط الاستفهام – وأنا عانيت الكثير من هذا الجانب – ثم إني لم أر إقبالا من اتحادات الكتاب العربية في المشرق أو من منظمات ثقافية على دعوة كاتبات من تونس إلا نادرا وذلك مرتبط بانحسار الكتاب في تونس وافتقاره الى قنوات توزيع ناجحة. ثمّ إن جودة النصوص لا تحدّدها بالضرورة هذه الموضوعات التي ذكرت والتي باتت في الكثير من الأحيان طريقة دعائية إشهارية لإثارة زوابع النقد وإنما الكتابة هي حسن تناول للموضوع الذي تكتب عنه حتى لو كنت تتحدث عن ذباب أو نمل أو تراب.

– إذن ,ما هو الهاجس الذي يحرك قلم فوزية العلوي / لماذا تكتب وماذا تنتظر ؟

* أنا أكتب أولا لأنني أعشق الكتابة. ولعل حظي قضى بأن أكون كاتبة فأنا ولدت في بيئة على بساطتها رغبتني في الكتابة فأبي رحمه الله كان مؤدبا لذلك فأنا فتحت عيني على الألواح المخطوطة في ركن دارنا وشممت رائحة القصب والصمغ باكرا. وباكرا حفظت القرآن وعشقته وسمعت الأدعية والأوراد , والصومعة كانت على مقربة من رأسي لذلك استمتعت بالتهليل والتكبير وتعلمت باكرا موسيقى الكلمات. والقرآن خصّب خيالي وحببني في القراءة والشعر وحظي كان وافرا لأن المدرسة كانت على مقربة البيت وكذلك كانت المكتبة العمومية وحينا كان حيّا شعبيا صاخبا وفرحان وكان خليطا عجيبا من اللهجات المحلية وكان يتنفس روائح عبقة من صباحه إلى مسائه ومن ربيعه إلى خريفه فالعابر تحتضنه روائح الخبز والفطائر والتمر والفلفل والحبق والماء والقطران والزيت والفحم…. والناس في حدّ ذاتهم كانوا حكايات متنقلة, الإمام القادم من نفطة والمؤدب القادم من الجزائر والإسكافي الحكواتي الذي يسافر بنا مساء في كتاب ألف ليلة وليلة الى العراق والشام والمخمور المعتوه الذي يأتينا من القمر وهو يضحك , والمومس التي تابت وصارت صاحبة عقارات , كل هذا العالم الصاخب والمكتظ بألوانه وأصواته وروائحه بآماله الصغيرة وهزائمه الكبيرة حبب الكتابة إلى نفسي ورغبني في إعادة تصويره بطريقتي الخاصة .
أنا اكتب لأنني أستمع بفعل الكتابة فعلاقتي باللغة علاقة عشق دائم , استشعر جمالها بعمق و كثيرا ما يصيبني البهت أمام جملة أو فقرة أو عبارة أجدها هناك أو هناك و كثيرا ما انصرف عن عمل كنت أنجزه أو شغل بالبيت أكون بصدده لأنني فجأة عثرت على كتاب أو فتحت مجلة على كلام أسرني و لم يعد بإمكاني أن انصرف عنه فأهمل ما كنت بصدده و اغرق في ذلك الكتاب أو تلك المجلة و لا أرى مطلقا أنني أهملت عملا بل بالعكس أراني أ صبت لأنني أنفقت وقتا في شيء أحبه.
و .كما انك لا تستطيع أن تفسر لماذا يكون شخص مغرما بالرسم أو الرقص فانك لا تستطيع أن تفسر لماذا يكون شخص ما مسكونا باللغة إلى درجة يرغب فيها أن يحّول العالم إلى نص يكون أجمل و أقدر على إقناعه من العالم نفسه .
أما ماذا اطلب ؟ فانك لا يمكن مطلقا أن تسال وردة لماذا احمرّت بتلاتها و اخضرّ عودها و أرسلت عبقها و لا يمكن أن تسال سحابا لماذا تراكم و سح ّماؤه ؟ إنني اكتب أولا لأنني كما ذكرت استمتع بحرفة الكلمات كما يستمتع أي حرفي يتعامل مع أي مادة – قد تتهمني بالصنعة التي تفتقر إلى المشاعر و الصدق , ولكني أجيبك إن الحرفية لا تعني مطلقا كد ّالعقل و انعدام الشعور بل إنها تعني الحب قبل كل شيء فالحرفي إنما يشكل مادة صنعته بكثير من التركيز والانتباه والشغف وهو ينقل إليها كل ّ أحلامه ورغباته وشهواته ومخاوفه ومطامعه .انه تطويع للمادة أن تقول الإنسان بكل أبعاده الخفية و المعلنة .
-تحتفلين بالأشياء في مجموعاتك القصصية وخاصة في كتابك الصّادر أخيرا “حريق في المدينة الفاضلة” فالشخصيات القصصية فيه خزانة وجدار وقطار وزهور… وتضعين قصّة قصيرة تفضح ذلك الولع بالأشياء سميتها “الأشياء” وكانت بالفعل قصّة الأشياء .
هل يرجع هذا الاهتمام إلى تأثرك بفتوحات السرد الغربي أم لأهمية الذاكرة التي تجمع الأحداث والذكريات عبر استحضار الأشياء المفقودة؟ ذكرتني قصصك برواية الكاتبة الأردنية سميحة خريس “دفاتر الطوفان ” والتي كانت ترويها الأشياء .

*-الأشياء هي نحن ، فلا وجود للأشياء دون حضورنا فنحن لا نستعملها فقط إنما نضفي عليها أحاسيسنا و مشاعرنا لذلك يختلف شعورنا بالمكان .بين مكان نحبه لأننا ألفنا أشياءه و بين مكان غريب عناّ لا علاقة له بذاكرتنا لهذا نتعلق بأشيائنا التي ربونا معها و شهدت جزاء من حياتنا ، لذلك نفرح كثيرا عندما نعثر فجأة في الّركام المنسي في بيت السطح أو في البيت الخارجي على فنجان مكسور العروة كانت تستعمله أمي لحفظ حبات اللوبان أو معلقة خشب كانت تعدّ بها العصيدة .أو خلالة كانت تستعملها في نسج الصوف .إن هذه الأشياء هي في الواقع جزء من الذاكرة و جزء من زماننا الهارب لذلك نتعلق بها في كتاباتنا و نستحضرها و نستعيدها و نتعامل معها بكل عشق .
ثم إن الأشياء التي أحتفي بها عامة في كتاباتي هي أشياء فريدة لا تشبه إلا نفسها و أغلبها ضاع و اندثر في زحمة حمّى الاستهلاك التي غلبت على الحياة المعاصرة . لذلك آسف عندما أتذكّر كيف تخّلصنا من ” القازة ” الفريدة النوع من أجل مصابيح الكهربائية المتشابهة و الخاوية من أي مشاعر .و كيف تخلصنا من الجرار الباردة و المزركشة بالقطران في سبيل ثلاجة بليدة و تخلّصنا من أوانينا النحاسية أمام سيل الصفيح و البلاستيك المهين ….
لهذا السبب فانا أحاول أمام صدمة الفقد و غياب هذه الأشياء التي تزامن غيابها مع غياب أحبة ولّوا واندثروا ولا يمكن استعادتهم أو استعادة زمانهم أن أؤرخ لهم ولها بطريقة وجدانية فنية حتى يعرف أطفالي و قرائي هذه الأشياء التي كانت تحيط بي و والتي لم تكن مجرد أدوات تنهض بأدوار نفعية وإنما كانت كائنات حية لها حضورها وأحاسيسها ولهذا عندما غابت وأثر فيّ فقدها صنعت لها متحفا من الكلمات وأنا إذ أحتفي بالأشياء على هذا النحو فلأنني مستجيبة إلى دفق مشاعري و طريقتي الخاصة في معاملة الموجودات التي تحيط بي و لست متأثرة في الواقع لا بفتوحات السرد الغربي و لا العربي لأن عمق الإحساس بالمكان وبما يحيط بنا من أشياء لا يحتاج في الوقع أن نتأثر بعوامل خارجية .

– يرشح سردك بشعرية .هل يعني ذلك أن الشاعرة فوزية العلوي تؤنسك لحظة الإبداع القصصي ؟ أم هو وعي المؤلّفة بانهيار الجدران داخل البيت الأدبي فانفتحت غرفه على بعضها ورحل عنها جنود الجمارك الأجناسية ؟

*– السرد و الشعر – سؤال يطرح علي دائما و لست ادري إن كنت قادرة على أن أكون واضحة في هذه الإجابة؟ أنا اكتب القصة و اكتب القصيدة الحرة عموما – و اكتب كذلك نقدا و نصوصا أخرى هي بين الشعر و القصة أنا بنفسي غير قادرة على تصنيفها و لاحظ جميع من قرأ لي أنني شاعرة في السّرد وساردة في الشعر كذلك و ثمّة من النقاد و الأصدقاء من رام تغليب صفة الشاعرة على القاصة و ثمة من فعل العكس . و لكن المتفق عليه أن الحد ّالفاصل بين السرد و الشعر عندي ضئيل أو غير موجود أحيانا. وعموما فالمسألة بالنسبة إلي غير مطروحة فأنا اكتب هكذا وإن تكلّفت أحيانا أن أقلّص من هذه الشعرية فإنها سرعان ما تعاود لغتي لنقل إذن إنها ميزتي اللغوية وأنا لا أستعملها فقط في الإبداع فحتى تلاميذي في الفصل ينبهرون باللّغة التي أستعملها في التدريس و ليس ذلك يعود الى اختيار واع للكلمات وتوليف لها على نحو مقصود بل هي شخصيتي اللغوية التي قدّت هكذا فانا لا يرضيني الكلام العادي المتناول و لا يروقني التركيب المألوف للجمل بل أجدني في أحيان كثيرة ميّالة الى اشتقاقات غير مطروحة جدا والى معاجم لعل البعض يراها مغرقة في القدم وما الى ذلك . أنا عندما أكتب , أنجذب وتصيبني “تخميرة ” لغوية , لذلك ينثال علي الشعر وأنا أروي الحكاية لأن الحكاية لا يمتع فيها الخبر بقدر ما يمتع فيها الخطاب وفي أحيان كثيرة أجدني أحكي كلاما موزونا موقّعا دون أن أكون قاصدة لذلك ولعل الأمر يعود كما ذكرت إلى قناعتي بان الإبداع هو أكبر من هذه الخانات والتسميات التي يأدب النقد على رصّه فيها لكن الأدب أبدا يتمرد ويتشكّل على النحو الذي يريد والمهم بالنسبة إلى الكاتب أنه عندما يكتب يجد في النفوس صدى وفي القلوب مستقرا حسنا .
–تلتفت فوزية العلوي إلى الموت وما بعد الموت والبعث في أسلوب ما بين الاستيهام والحلم والكابوس . هل لسؤال الموت عندك مرجعيات فلسفية أم ذاتية ؟ أم هي رؤية الفنان للعالم بحياته وفنائه ؟

*- الموت / البعث – في طفولتي كان الموت بعيدا، لم أكن أتصور أنه يحدث لي أو يحدث للقريبين مني . لم أكن أفهم ما يعنيه بل لم أكن مِؤهلة أصلا لأسأل عنه وعموما فأنا في طفولتي وصباي لم أروّع بفقد أحد من الأهل وكاد الأمر يكون محصورا في بعض الناس الذين وان كنت أعرفهم – فأنا لم أكن أتساءل عما وقع لهم ربما لأنني كنت بعيدة وقتها عن قارّة الحزن ولم يكن لي من الوعي الفجائعي ما يجعلني أطرح مثل هذه الأسئلة الحارقة ولكن الوعي بدأ مع التقدم في السن ومع الإبحار في عالم المعرفة الحاث على السؤال. كان الوقوف على الأطلال في الشعر لحظة فجيعة وجودية بالنسبة إلي كنت أرى الشاعر وهو يصف الريح وهي تثور على تلك الآثار الدارسة والمطر ينقر وجه حصى كان يوما موطن قدم بالنسبة إلى حبيبتي فأشعر بالشجن, كان المكان الدارس الذي شبهه “طرفة” ببقايا الوشم في ظاهر اليد محدّثا بزمان ولىّ وبحديث تناثر في الموجات البعيدة. وكان القصص القرآني أيضا وما حدّث به من زوال الأمم الغابرة والحضارات العابرة زارعا لبذرة السؤال في فكري – لماذا نولد / لماذا نموت / كيف نبعث .؟
ثم كانت الفجيعة الذاتية والفجائع التي تتالت وأعظمها على الإطلاق كان رحيل أبي رحمه الله فرحيل أختي نزيهة التي اقتلعت ياسمين روحي وغابت مخلفة خرابا ودمارا وفراغا لا أظنّ أن شيئا قادرا على تأثيثه. وتتالت الفجائع فقد الأصدقاء والأحبة والأهل في زمن كثر فيه الموت بطريقة كادت تطغى على الحياة , ثم لا تنسى هذا الذي نعيشه يوميا في فلسطين والعراق من فقد الأهل والإخوة وحمّامات الدم هذه التي غمرت الأخضر واليابس وهذه الجثث والأشلاء التي نراها كل يوم حتى لكأنّ الحياة باتت في كل لحظة مهددة بالموت بل إن سلطة الموت غدت أقوى من سلطة الحياة . كل ما ذكرته على الصعيد الذاتي و الموضوعي كان وراء اختيار تيمة الموت و اتخاذها مناسبة لطرح عدة أسئلة واقعية و وجودية و مناسبة لتداعي الذكريات و ربط الحاضر بالماضي و بالمستقبل في أسلوب هو أقرب إلى رثاء الوجود البشري منه إلى رثاء أشخاص بعينهم.
-”ما أبعد الشمس ” قصّة من قصصك القصيرة الكثيرة ولكنها الوحيدة التي تقصّ قصة القصة . لنأخذ هذا النص ذريعة لنسألك .كيف تقدمين على الكتابة في هذا الزمن الرقمي ؟ وما مفهومك للقصة القصيرة؟

*– قصة ” العملاق ” هي الأخرى تطرح قصّة القصة و تصوّر على لسان الساردة كيف أن الرجل المثال أ و الملهم هو الذي يؤجج جذوة الكتابة أو يحلّ عقدة لسان الكاتبة التي أرتج عليها القول كما يقول الشعراء قديما و ظلت تنتظر فرصة أن يباركها أو ” يعمّدها” فنيا حتى تنفتح على بوابة ذاتها المفضية إلى إقليم الكتابة.
كما تروي قصّة “الحكاية ” في مجموعة “علي ومهرة الريح ” قصّة القصيدة وكيف تتشكل في ذهن الشاعرة وكيف تستلهمها عبر تذكرها لأمها وهي تحكي لها ولأخوتها الحكايا والخرافات فإذا بها تعلّمت منذ ذلك الحين كيف تنشئ فن الكلام وكيف تنسجه وتطرّزه وتنمنمه ليصبح غاية في الجمال .
أمّا كيف أكتب في هذا الزمن الرقمي ,.فقد أفاجئك عندما أقول لك إنني أعيش على هامشه تقريبا .
مازلت أعيش على إيقاع بطيء نسبيا ومازلت على صلة حميمة بالقلم والأوراق
ولا أجلس أمام الحاسوب إلا نادرا , ثم إني لحسن حظي أعيش في مدينة لها بعد من الوقت ما يجعلها تجلس قليلا إلى الشمس لتحتسي فنجانا من القهوة أو الشاي ولها من الهدوء ما يجعلها تتأمل وجهها في المرآة أو تطيل النظر ليلا إلى القمر , وأنا أدرّس في معهد لا يبعد كثيرا عن بيتي لذا فلست مجبرة على استعمال السيارة ولا أرتاد مطلقا الأماكن الصاخبة أو التي تكون مكتظة أو توحي لي بالسرعة فأنا لا أقف في طابور مطلقا وإن كان يفضي إلى جزيرة الكنز ولا أتعامل مع التلفزة إلا في أوقات متباعدة جدا وعلاقتي بالصحف محدودة وصداقاتي قليلة هي الأخرى وأنا صعبة في اختياري لهذا أجد أن مفهوم الزمن الرقمي هو أقرب إلى المشاغل الذهنية التجريدية منه إلى الواقع الملموس وحتى وإن كان هناك من يعيشه فإن الأمر لا يحتل في حياتي حيزا مهمّا لذلك وعلى الرغم من مشاغلي التقليدية فأنا أجد بعد فسحة للتمتع بالكتابة الكتابة لأنها من الطقوس التي تشعرني أنني موجودة وأني أحلم وأتمنى وأنتظر وأجد وقتا كذلك لأقرأ ولأستمتع بالنظر الى نباتات الحديقة أو الى الناس وهم يعبرون موقّعين معزوفة الوجود بانسجام حينا وبكثير من الفوضى أحيانا .
أماّ مفهومي للقصّة القصيرة فأنا لا أعدّ مفاهيم وإنما أكتب قصصا على مقاسي بمعنى أنها قادرة على أن تقولني بشكل من الأشكال وأن تعبر عن لحظة أو موقف أو دهشة أو ذكرى أروم استرجاعها على نحو خاص وأنا إذ أكتب القصة فأنا أترك أمري لسلطانها فهي التي تقودني وفق منطقها الداخلي إلى مسار ونهاية أكون في بعض الأحيان راضية عنهما وفي أحيان أخرى لا أكون شديدة الاقتناع بهما فأتدخّل لإحداث بعض التغييرات التي قد أنجح فيها وقد لا أنجح .
– تكتسي نصوصك أحيانا بطابع سريالي يحوّلها إلى لوحات سلفادورية مثل قصتك سوء تفاهم التي تبعثرت فيها أصابع اليد .هل هو الأسلوب السريالي فعلا أم هو إلى الخطاب الرمزي المشفّر أقرب ؟

*– أما كون نصوصي تكتسي أحيانا بطابع سريالي مما يجعلها ممهورة ببصمات سلفادور دالي فانا أقول – ربما يقنعني السريالي أحيانا أكثر من الواقعي فأنا عموما لست ميّالة كما يقول بعض النقاد الكلاسيكيين إلى طرح المواضيع الاجتماعية أو السياسية إنما أتناول في كتابتي حكاية كما ينتجها خيالي و لست ميالة كثيرا إلى التناول التقليدي و السّطحي بل أجد نفسي في اغلب الأحيان ميالة إلى أن أكسر سلطة الواقع بان اجعل شيئا يخرج من جدار أو كلبا يتكلم أو امرأة تضيّع أصابعها أو تطير من الشر اشف عصافيرها ربما لان الفن عندي مقترن بالدّهشة وبالإثارة وبركوب المختلف و لكن ما أكتبه ليس مجتثا من الواقع و ليس متصادما معه بل إنني الأمس كل جوانب الحياة , الخفية منها و الظاهرة و لكن دون سقوط في التقرير أو المباشرة ثم لا تنس أن . كلّ ما أنتجت من نصوص سردية أو شعرية إنما هو و ليد ما رأيت و ما سمعت و ما عايشت وما قرأت و أنا اقر كل شيء و أهتم بكلّ وأحيانا يفاجئنا الواقع بما هو أكثر إدهاشا وغرابة وصدمة من الخيال .
فأنا أحب الرسم وأسمع الموسيقى وأقرأ الفلسفة والتاريخ ولي ولع خاص بالنباتات الطبية والطب البديل وأعشق حكايا الجان والأساطير وأقرأ القرآن وأستمع كثيرا إلى التجويد وأين ترى يذهب كل هذا انه حتما يتضمّخ بماء فكري ونفسي وينعجن بمداد روحي ليطلع في شكل نصوص لها طعمها الخاص ولها ميسمها المختلف حتما عن نصوص الآخرين
– يقر الدكتور محمد الباردي في دراسة له بعنوان ” في إشكالية القصة القصيرة” استنادا إلى كتاب الاسبانيENRIQUE ANDERSON IMBERT الذي عنوانه Teoria ytecnica del cuento أن الرواية والقصّة القصيرة ليستا شكلين متناظرين , حيث يرجع المؤلّف منبت القصّة القصيرة إلى الخرافة والأشكال الشفوية بشكل عام . لماذا إذن يعتبر الكتاب أن القصة قصيرة عتبة لكتابة الرواية ؟ هل يعكس هذا الموقف جهل الكتاب بحقيقة الأجناس التي يحرّكون أقلامهم فيها ؟ ألا ترين معي أن الصّورة المكررة للكاتب تبدأ به كاتب خاطرة فقصّة قصيرة وحين يستفحل به الأمر يكتب الرواية وأحيانا ينحرف نحو الكتابة النقدية أو الصحفية؟

*- أنا لا أهتم كثيرا بالتنظيرات ومواقف النقاد إلا بالقدر الذي يجعلني عارفة ولو نسبيا بما يقع داخل الساحة النقدية وأنا شخصيا لي رؤيتي النقدية الخاصة حتى لو ولم أكن أكاديمية أو صاحبة منهج خاص فانا لي تنظيراتي حول النص وإنتاجه ودواعيه ووظيفته وما الى ذلك مما يتعلّق بالكتابة لذلك لا أجدني ملزمة بتبنّي أي موقف إلى درجة أنني أعتبره مرجعا أسير على هديه وضوءا أستنير به في ظلمائي. ولكني أقول إن القصة القصيرة فن جميل وله كيانه الخاص وله جمهوره وكتابه ولا أعتبره مطلقا عتبة لدخول عالم الرواية. فأنا مثلا كتبت روايتين منذ مدة طويلة ولي مجموعات شعرية ولكنني أوثر كل مرة أن أنشر مجموعة قصصية وأرجئ الرواية إلى وقت لاحق. وحتى إن نشرت رواية أو واصلت نشر الشّعر – الذي أحبه حتما – فأنا لا أتخلى مطلقا عن القصة القصيرة التي أراها الوسيلة الأقدر على توصيلي إلى القارئ وترجمة دهشتي وتوتري وانفعالي فأنا – كائن قلق – مكتظة الوجدان إلى درجة الانفجار لذلك فان الرواية بتفرّعها وطول نفسها ودروبها الملتوية لا أراها قادرة على إيصالي إلى ذروة التعبير التي أريدها إنها بمثابة العدو الطويل . أما القصة القصيرة فهي الحكاية التي تختزلني بكل توتري وانفعالي وقلقي واكتظاظي وهي النمنمات الكتابية القادرة على الوقوف عند التفاصيل والرقائق التي لا تتوفّر للرواية ثم إن القصّة القصيرة هي الجنس الأقرب إلى الشعر لذلك أجد فيها مجالا كبيرا للعدول الذي لا تبيحه الرواية ولئن كان بعض الكتاب يتخذونها معبرا ويعتبرون الرواية أكثر تشريفا فإن آخرين واصلوا كتابتها رغم أنهم يمارسون في نفس الوقت كتابة الرواية وأذكر في هذا المجال كاتبا يعجبني كثيرا وهو صلاح الدين بوجاه والذي أراه موفقا جدا في تعاطي كتابة الجنسين القصّة والرواية وهو لكل طقس يلبس جبّة ولا تشعر مطلقا أنه مقصّر هنا أو هناك , إبراهيم درغوثي كذلك وحسن بن عثمان وإن كانا في الآونة الأخيرة قد انحازا إلى الرواية أكثر إلا أنهما كتبا القصة القصيرة بامتياز . المسألة عندي لا تخضع للمرحلية أو المفاضلة في الكتابة وإنما يميل كل كاتب إلى الجنس الذي يرتاح فيه أكثر وإن انصرف إلى جنس آخر ليس يعني أنه كره الجنس الأول .
– من خلال تجربتك الإبداعية هل وجدت قاعدة جماهيرية لهذا الجنس الأدبي (القصّة القصيرة)؟
*- حتما , منذ أن أصدرت مجموعتي الأولى “علي ومهرة الريح” والتي حصلت إحدى أقاصيصها على جائزة الامتياز في مسابقة قصصية على النطاق المتوسطي بمدينة مرسيليا الفرنسية سنة 1995 ثم حصلت المجموعة بعد ذلك على جائزة وزارة الثقافة لنفس السنة حتى شعرت بنوع من الأمان أو لنقل الثقة في هذا الجنس الذي شغفت بكتابته منذ كنت طفلة في السنوات الأولى من الثانوية ثم كانت الكتابات النقدية التي أحاطت بهذا الأثر وبالمجاميع القصصية الأخرى التي كتبت والتي أشعرتني دائما أن هذا الجنس الذي يبدو يسير التناول وشائعا له عشاقه وله نقدته الحافظون والغيورون والذين يسعون إلى تثمين نصوصه الجديرة بالتثمين .وقد حظيت عدّة من نصوصي القصصية بمقاربات نقدية وأكاديمية وترجم بعضها الى اللغة الفرنسية وانتخب بعضها الآخر ليكون ضمن أنطولوجيات تهتم بالقصة في تونس كما وجدت صدى في أكثر من مناسبة فحصلت مجموعتي ” الخضاب” على جائزة زبيدة بشير لسنة2000 وحصلت مجموعتي “حريق في المدينة الفاضلة” على جائزة أندية الفتيات بالشارقة سنة 2001 وهي جائزة تعنى بإبداع المرأة العربية وكلّ هذا أكد لي أن ما أبدعه من قصص لا يمرّ في صمت وإنما يجد قلوبا تسعه وأذواقا تستمرئه.أ
– يبدو من خلال متابعتي لأعمالك القصصية أنك مأخوذة بالحكاية فتعملين فيها أزميلك بحثا عن المدهش والمباغت والجديد والطريف ولكن الإدهاش وهذه المباغتة تنحسر في مستوى التشكيل السردي والبناء الفني .أقول الإدهاش ولم أقل يوجد ضعف في البناء ؟

*- لست أدري إن كنت أدركت جيدا مقصدك ولعلّي أجبت بشكل آخر في سؤال سابق ولكني أقول إن الإدهاش أمر أراه ضروريا في كلّ عمل فنّي وإلا ما فائدة أن تنتج شيئا يشبه غيره أو يتناظر معه أو يحاكيه ,إن كلّ نصّ ,كل منحوتة , كلّ لوحة , كلّ لحن. وجب أن ينجح في زرع بذرة الدهشة أو التعجب أو السؤال أو التفكر أو القلق بمفهومه الفعال في نفس المتلقي . أما ما أشرت إليه بشأن الاهتمام بالتشكيل السردي والبناء الفني فلعل ذلك عائد إلى قناعتي أن الخطاب أهمّ من الخبر أحيانا فالدهشة لا تنبع حسب رأيي ممّا تقول بل من الكيفية التي تقول بها لذلك أنشغل كثيرا باللغة وببناء الحكاية وذلك الانشغال صار تلقائيا لا أسعى إليه وإنما يأتيني هكذا لذلك تلاحظ طغيان الوصف في كثير من المشاهد القصصية إلى درجة تطغى أحيانا على الحدث لأن الحدث أحيانا لا يكون مشغلي بقدر ما يكون همّي هو وصف الحالة.
-تحتفل فوزية العلوي احتفالا كبيرا بالأمكنة .هل ذلك ناتج عن وعي الكاتبة بشعرية الأمكنة وما يوليها المبدع من اهتمام أم أن هذا الولع في علاقة بالكاتبة كائنا يعشق الأمكنة ؟
* – لسنا في حاجة إلى قراءة غاستون باشلار حتى يتوهّج وعينا بالأمكنة لأن الأمكنة هي نحن , هي امتداد أجسادنا وهي المحدّدة لعلاقتنا بهذا الفضاء فهي بوجه من الوجوه حصانتنا ضدّ الضياع . والأمكنة صنفان مكان نحبّه لأننا ألفناه وبالتالي فقد اقترن بحياتنا وبذكرياتنا في هذه الحياة ومكان نحبّه حتى وإن كنا لا نعرفه لأنه فرض علينا سلطة ما كسلطة الجمال أو المهابة أو الرهبة فنشعر بانشداد إليه وبلذة تداخل وجودنا فيه وأنا فعلا كائن يعشق الأمكنة ويألفها على نحو غريب والأمكنة التي أحبها عموما هي أولا تلك التي عشت فيها طفولتي وصباي وضجّت بدهشتي الأولى وبعمق إحساسي بالوجود لذلك تمتلئ عيناي بالدمع وأنا أعبر حينا القديم رغم أن كثيرا من ملامحه قد تغيرت إلا أني أظلّ أقلّب طرفي عساي أظفر بما كنت أراه وأعرفه آنذاك,شباكا أو بابا أو زاوية أو شجرة ورغم أن المكان القديم ليس يتوفر على مرافق مريحة الا أنه يتمتع بجماله الخاص الذي يبعث في النفس راحة وطمأنينة . أما الصنف الثاني من الأماكن التي لاحظت أنها تمارس علي جذبا خاصّا فالأماكن العتيقة عامة بهندستها الحيية وبصخورها المنحوتة بخفر ودونما فظاظة ولأن معظم المواد التي تتكوّن منها هذه الأمكنة هي في الأغلب طبيعية كالصخر والخشب والآجر المحمي والخزف فأنني أشعر من خلالها بضوع الإنسان وبعمق مشاعره وبعراقة تاريخه لذلك تجدني منجذبة إلى الأسواق القديمة والحصون والقلاع والمساجد والرباطات والقصبات والأسوار ومن المنازل يعجبني عتيقها كذلك لهذا أحب الحوش والسقيفة والقبو والقبة والدهليز والحمّامات وأحب البئر في الحوش والماجل والفسقية والنافورة ألا ترى معي جمال البيت الدمشقي القديم وذلك البهاء الخرافي الذي يترعه وذلك الحجر كيف يزينونه ويخططونه وتلك النافورة التي تتوسط الحوش لتشهد أن الماء هو أصل الحياة وذلك العناق الحميم بين الماء والخضرة والأرض في تلك الأصص وتلك التعريشات النباتية الأخاذة , وبقدر إعجابي بهذا النوع من الأمكنة بقدر ما أكره المباني الحديثة المتشابهة والعمارات التي وجهها كقفاها وأكره النزل والمنتجعات السياحية العصرية التي تفتقر إلى الأحاسيس الإنسانية العميقة.
– أقحمت بعض المقاطع الشعرية من مجموعتك” برزخ طائر ” في مجموعتك الخضاب .تطلق أدبيات النقد على هذا الأسلوب ” النصية الذاتية ” أو “التناص الخاص” أو “التفاعل الذاتي للنصوص ” وهذا ما يجعل نصوص الكاتب الواحد تتضافر فيذكّر أحدها بالآخر .ولكن ألا يدفع هذا الأسلوب بنصوصك نحو مقروئية خاصّة تحاول المرأة الكاتبة جاهدة أن تتحرّر منها وهي قراءة العمل الأدبي باعتباره سيرة أدبية ؟

*-لست أدري لماذا ربطت المسألة بكتابة المرأة وأنا يحضرني الساعة بالتحديد نصّ كتبه محمود المسعدي في كتابه “حدّث أبو هريرة قال ” وأعاد كتابته بحذافيره تقريبا في كتابه “السد”.
وهو نص منطلق كتابته أسطورة أساف ونائلة ولئن حرّف اسم أساف في السدّ ليجعله أسال فإنه أبقى على نفس الحوار الذي جرى بين ريحانة وأبي هريرة عند ما قرّر هذا الأخير ترك ريحانة وأجراه على لسان أسال عندما قرّر ترك نائلة. والمسألة في الواقع ليست خاصّة بمحمود المسعدي إنما نجد كتابا كثيرين يكرّرون أنفسهم بأشكال مختلفة فالتكرار قد يكون بفقرة أو جملة أو صورة شعرية أو فكرة وهذا التكرار في الواقع يلازم كتابة كلّ كاتب وإن كان يتجلّى بأشكال مختلفة لأن كلّ كتابة تحمل جينات صاحبها وهذه الجينات لا تعدم أن تجدها هنا أو هنا ك ويحدث للكتابة إن يكون فيها توائم وهي ليست مسألة رديئة شريطة أن لا تكون متكرّرة بطريقة تجعل الكاتب محصورا في خانة واحدة وأنا أعرف من كتب القصّة القصيرة ثمّ يدمجها بعد ذلك في نصّ روائي . أما ما ذكرته عن رغبة تخلّص بعض الكاتبات ممّا يجعل كتاباتهن قريبة من السيرة الذاتية فإن هذا الأمر ليس مطروحا بالنسبة إلي ولا يحرجني مطلقا أن تكون بعض كتاباتي نافذة مفتوحة على ردهة حياتي وأن تكون قادرة على إعادتها على نحو فني جميل .
– تمثل الطفولة أحد المناخات المهمة التي يحلو لفوزية العلوي أن تنيخ عندها حبرها , فتحبّر قصصا وقصائد ألا ترين معي أن الطفولة هي التي ترسم ملامح المبدع ؟بمعنى أنه لولا الطفولة لما كان محمد شكري سيد الليليين والمهمّشين ولولا عذابات الطفولة لما كان رشيد بوجدرة ….لنتحدّث عن الطفولة والأدب عند فوزية العلوي .؟

*-”كنا صغارا وكان التمر أحلى والليل القمري يأتينا بالهدهدات , نستلقي في الليل أشباه عراة نحلب النجوم بأعيننا نستدعيها واحدة واحدة لتحلّ علينا ضيفات . بيتنا يشرّف النجوم تتسارع إليه وامضات غامزات وتستلقي على المفرش حذونا . الجدران بيضاء تشرئبّ بأعناقها تطاول السماء والحبق يحلّيها في محابسه تاجا من خضرة دائمة والمرقوم طويل عريض بألوانه القزحية , والسقيفة فيها كنوز الماء قربا وجرارا وخوابي لا تحكي سرّها إلا للماء يستحيل بردا وسلاما يطفئ لظى ما أكلنا وأطيب .”…. هكذا تحدثت عن طفولتي في قصّة ” الحكاية ” من مجموعة “علي ومهرة الريح ” وهي طفولة كما ترى كانت على بساطتها على مشارف الجنة طفولة حددت فعلا مسار الكتابة ولو لم أعش تلك الخصوبة وذاك الجمال وذاك الحب وذاك العمق ما كنت لأكتب بالضرورة ولئن أشرت أنت إلى نموذجين من الطفولة “المعذبة” فإن حظي قضى بأن أكون بنتا لامرأة رائعة اسمها نفيسة فرشت لنا حرير قلبها لكي لا تخزنا الأشواك ولرجل اسمه محمود تغذى بالقرآن فشب ّ وشاخ على خلق ظلّ إلى اليوم مصدر ترحّم عليه وفي زقاق ضيق لكن له من الرحابة وقتها ما كان يسع ألعابنا وهرجنا وصخبنا نهارا وما يحضن أحلامنا وأمانينا ليلا وبين أناس أقلّ ما يقال فيهم أنهم كائنات من سلالة أزهار وأنوار ولعلهم لم يكونوا كذلك حقيقة ولكني كنت أراهم كذلك وكنت أتنفس شذاهم بملء قلبي .
الطفولة هي منهلنا الإبداعي الثر ومهما كانت فهي تضم جمالها الخاص إنها الفترة التي كنا فيها بعيدين عن الموت وبعيدين عن الهمّ واليأس والإحباط أيام كانت الدنيا تختزلها فطيرة بالعسل وحفنة برقوق مسروقة من بستان أجوارنا أيام كنا نستيقظ على رائحة القهوة والخبز وقد أعدتهما أمي دون أن نتساءل وقتها إن كانت مهمومة أو موجوعة أو مرتاحة أيام كنا نغمس رؤوسنا في سطل الماء البارد ولا يصيبنا أذى أيام كانت الأرض فسيحة وسماء “القصرين” حبلى بالخطاطيف أيام لم تكن لأمهاتنا الصّرامة التي نتعامل بها اليوم مع أبنائنا وقواعد النظافة وأيام كنا نقبل على الدراسة بشغف دون أن يكون آباؤنا عارفين بالديمقراطية وعلم النفس الطفل . وأنا أتصوّر لوأنني لم أعش طفولة كالتي عشت ولو لم أتربّ على لغة القرآن وعلى صوت أبي الشجي إلى حدّ البكاء ولو لم تترع أمي ذاكرتي بكلّ تلك الحكايا ولو لم يكن حينا بكلّ ذاك الصخب وذاك التنوّع ما كنت أتصوّر إنني سأكون كاتبة.
-ماهي الأسماء العربية والعالمية التي تربّى عليها قلمك ؟
*-إن أوّل كتاب فتنني وأثّر في كتابتي بشكل واضح هو القرآن كما سبق وأشرت لأنني حفظته باكرا وظل يلازمني إلى الآن ثمّ شغفت بعد ذلك بالقراءة فكنت ألتهم كلّ شيء وأذكر أنني عندما كنت أتردد على المكتبة العمومية كنت أفضل أن أستوفي آثار الكاتب الذي أختاره قبل أن أمرّ إلى كاتب آخر كأن أقرأ ما أجده من كتابات توفيق الحكيم ثم أمرّ بعد ذلك إلى طه حسين فإذا انتهيت منه مررت إلى العقاد وهكذا وأذكر أني شغفت كأبناء جيلي بأدباء المهجر فقرأت لجبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي وقرأت باكرا جدا نازك الملائكة ,وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي كنت أتجرّأ وأنا بعد صغيرة فأتناول بعض المجلدات الكبرى فاكتشفت الجاحظ وحدي والاصبهاني وابن خلدون والتوحيدي كان كل ذلك قبل الدراسة والاختصاص ثم تواصل البحث والاكتشاف فكان ولعي بالنصوص أكثر من الأسماء لذلك أقرأ كل شيء تقريبا وإن كنت افتتنت في فترة متأخرة نسبيا بأدبيات المتصوّفة لما فيها من اختلاف ولما تتطلبه من جهد لفهمها كما أحب الفلسفة بشكل خاص والتاريخ القديم بصفة عامة أما باللسان الفرنسي فقد تربيت كذلك على النصوص الكبرى والأسماء التي أضافت بحق إلى الأدب الإنساني فقرأت لبلزاك وديدرو وستندال وفلوبار وجان بول سارتر وأندري جيد ومالرو وقرأت لفكتور هيجو ولرانبووأبوليناروبودلير وكان لي ولع خاص بالأدب المغربي الناطق بالفرنسية فقرأت بشغف للطاهربن جلّون وكاتب ياسين ورشيد بوجدرة ومولود فرعون وآسيا جبار وجيزال حليمي وغيرهم ..
– ماذا ترتكبين هذه الأيام جنحة أم جريمة؟

*-أنا في حالة كتابة دائمة حتى وإن كنت متوقفة مؤقتا عن الكتابة وتوقفي لا يمكن أن يتجاوز يوما أو يومين فالكتابة عندي ليس أمرا طارئا وإنما هو سلوك يداخل حياتي اليومية وأبحث في حمّى الاكتظاظ الذي تفرضه حياتنا اليوم عن فسحة ولو قليلة لأكتب أيّ شيء سطرا شعريا أو بداية قصة أو جملة حلّت علي هكذا وأخاف طيرانها فأسرع لأسجلها حتى فوق علبة كبريت إن لم يتيسر لي وقتها ورق , وأوراقي فوق مكتبي دائما في حالة استعداد ولي دائما بدايات قصائد وبدايات أقاصيص وهذا يعني أن الكتابة لا تنتهي لذلك سأموت يوما وسأترك نصوصا مبتورة وسيتساءل البعض ترى كيف كانت ستنهيها لو بقيت على قيد الحياة ؟



* منقول عن الموقع الرسمي للشاعرة
مع القاصّة التونسية فوزية علوي /حاورها : كمال الرياحي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى