قصة ايروتيكة ناصر الجاسم - مساء الحسا..

في البدء:

حينما لا يهبنا الخمر الغناء العالي ولا الارتفاع عن الكراسي، فمعنى ذلك أن الساقية شيطانة تطوف علينا وليست ملاكا يحفنا، وأن المساء سجادة قبح حمراء، وأن الحانة حديقة كلاب ضالة.

حمائم القمري تبذل زينة ريشها الملون بسخاء على أعمدة الكهرباء وفوق أسلاكها، وغناؤها الشجي في المساء يعبر عن الشوق إلى بغداد، ويتناثر من عل في آذان الفلاحين وهم بمحشاتهم غاطسون في جداول المياه يحسنونها من النباتات التي تعيق سرعة العبور، وهداهد سليمان النبي تغازل أفواه البنادق بوقوفها الطويل متحدية الموت على عذوق النخيل الخضراء. واقفة أزواجاً تخبئ تحت جلدها دواء المطبوبين، والديكة الحمراء والسوداء في الزرائب ، في المزارع تصيح صياحها الأخير، والساحرات في بيوت الطين شحذن السكاكين لقطع رؤوسها واقتلاع أمخاخها لتجهيز أسحار النسيان للعاشقين، وأزهار الرمان الحمراء تعلن أشتباب الرغبة في التلاقي في صدور الفتيان والصبايا، وتنبه الطيور البالغة إلى أنه قد حان وقت اختيار الشريك، وأزهار التفاح البيضاء تغار من أزهار الفل الأكثر بياضاً، والأطيب رائحة، وثمر أشجار التوت الشامية يصبغ أيدي الأطفال بالحمرة، والليمون الأخضر يصر على جلوس رائحة قشوره وعلى البقاء في أيدي الرجال والنساء من بعد الغداء إلى العشاء، وعلى سكب عصيره في أقداح الشاي، والناس في الحسا ظنونيون وشعريون ومؤمنون ويتعاركون على المرأة، وعلى الشجرة، وعلى الطير، وعلى الماء ، ويبيعون البرسيم بزهره البنفسجي، ويبيعون الخمر المصنوع من التمر و الماء المصروف، يبيعون البرسيم نهاراً والشمس والبهائم تشهد على جمال زهره، ويبيعون الخمر ليلاً والقمر والنجوم يشهدون على قبح رائحته، وسوقا الأربعاء و الخميس مهرجان بيع وشراء في الربيع، والقوادون على أرصفة السوقين ينتظرون الزبائن، والزبونات في الحقول منتظرات متدثرات بغابات النخيل، وأنا إن لم أر في المساء امرأة، أو شجرة ، أو طيراً ، أو جدول ماء سأموت غيظا؛ أراها إمرأة في حضني ، وأراها شجرة في حقلي، وأراه طيرا في يدي، وأراه جدولا يسقيني ويسقي المرأة، والشجرة، والطير!.

قلت لنفسي: الشجرة أشتريها، والطير أصطاده، والجدول أحفره، أما المرأة في مساء الحسا لا سبيل إلى الوصول لها إلا عن طريق القواد.

وصلت سوق الأربعاء، ووقفت على رصيف أنتظر، رآني ورأيته وغازلني بعينيه كما غازلت الهداهد أفواه البنادق، ورأيت حمائم القمري قي الأقفاص على الرؤوس محمولة دون غناء،ورأيت حشائش الجداول وأعواد البرسيم المزهرة نفائع على الرؤوس محمولة أيضا، ورأيت الليمون الأخضر محصوراً في الأكياس تجره الأيدي إلى الثلاجات، ورأيت التوت الشامي أكواماً تعج بها صناديق الخشب، ورأيت الديكة بلا صياح في الأقفاص.. ورأيت أشجار التين المغربي تباع شتلات .. ورأيت ورأيت وأوقف مسلسل الرؤية سؤاله:

- تبي توسع صدرك يالطيب؟

- صدري وسيع !

_ تبي السوالف الطيبه؟

_ الربع مايقصرون في المركز.

_ تبي لحم بلدي؟

- لحم الغنم في جبرة اللحم ولحم السمج في جبرة السمج.

- شكلك زقرت وراعي وناسه وظني مايخيب!

يكثر من النظر إلى، ويكثر من دوران خرزات المسبحة على إبهامه، ويأخذني من النظر إليه منظر الديكة في أيدي العجائز وقد قيدوهن بوضع الجناح الأيمن تحت الجناح الأيسر وقد تهدلت أعرافهم حزناً وشعوراً بالذل حتى قال:

- أنا مش مثل غيري أطلب كثير، تبي بخمس؟ وأوقف تسبيحه فجأة وقبض على المسبحة داخل راحة يده ثم فرد أصابعه الخمسة في وجهي!

- خلهم أربع !

- الرزق على الله!

أعطاني ظهره وهم بالبحث عن زبون جديد فتبعته راكضا، وقادني إلى غابات النخيل، وأنا القائد المطاع في الميدان ، وفي المكتب!!

سألني وسيارته التويوتا الهاي لوكس تطوي طريق القرى الشرقية بغمارتيها وموديلها 82م:

- تسمع عويس وإلا طويهر؟

- إذا عندك بشير الشنان أو عبدالله الصريخ أحسن.

- أنا أشوف تسمع عويس أحسن، لأن اللي رايحين لها تحب عويس!

انطلق صوت عيسى بن علي في فضاء مساء الحسا عبر النوافذ الأربع المفتوحة وتسابق في ارتفاعه مع ارتفاع أدخنة الطبائن، وقد نسيت الشجرة ، والطير ، وماء الجدول، ولم يبق في ذهني إلا الصور المتنوعة للزبونة التي تنتظر كما أنا أنتظر حتى وصلنا المزرعة المسورة بالسعف اليابس المستند على شبك الحديد الأبيض.

ترجل من سيارته ولم يطفئ محركها فلا زال في مساء الحسا بقية من وقت تكفي لاصطياد زبون آخر يقاد إلى زبونة أخرى في مزرعة أخرى غير هذي المزرعة ، ولم يشأ أن يلتفت يمينا أو يساراً، وأخرج مفتاحاً من جيبه السفلي الذي يزخر بمفاتيح كثيرة أسمع صليلها عندما ترقى سيارته مطبة من المطبات الكثيرة التي اجتزناها في طريق الوصول إلى المزرعة، وعالج المفتاح في قفله وفتح لي الباب وأنا لم أزل في السيارة ولم يزل عيسى بن علي يغني وقال ناصحاً ومطمئناً : تفضل ياولد العم، البنت راح تقوم باللازم وأكثر، ولا تحاتي شي ترى المزرعة أمان، لكن هاه، ترى المره تحب الرجال الكريم وتكره الحمقي، ومد يده باتجاهي وطرحت فيها الخمسمئة ريال، ونزلت من السيارة ودخلت المزرعة ثم سمعت صوت الباب يقفل خلفي، وصرت أمشي على الدوس بين أشجار الباميا الصغيرة وأشجار الباذنجان وأشجار الطماطم حتى غاب عن أذني صوت السيارة وصوت عيسى بن علي وجاءني صوتها من خلف شجرة رمان مزهرة:

- هلا هلا حياك يالأجودي.

- الله يحييج!

وقادتني إلى عريش شيد بين أشجار توت وتفاح وتين، عريش تتدلى من سقفه كروم العنب، وأنا الذي لاتقودني حتى أمي، وأنا الذي جئت إلى الحسا من أرض لا ينبت فيها العنب، وجلسنا على سرير قطن عتيق، رأيت فيه آثار ركب رجال كثيرين، رأيت آثارهم حفراً فيه تكونت من منتصفه إلى عند الذيل بقليل وسألتها:

- شسمج؟

- أنا أم سامي!

- وأنت؟

- ..

- مش مهم كلكم تكذبون!

- وش أصلج؟

- آني عراقية.

- سنيه وإلا شيعيه؟

- اللي عند السنيه عند الشيعيه واللي عند السني عند الشيعي مافيه فرق!

وتسكب لي قدحا من الشاي وتسكب لها قدحاً آخر وتقوم تتجول في المزرعة وتعود إلى حاملة أوراق النعناع الطرية ووردتين من ورد الحسا الكذاب!.

- تحب الشاي بالنعناع وإلا بالورد.

- أحبه ساده.

- أجل أنت ما أنت من الحسا؟

- أنا من أنا من .

- مش مهم كلكم تكذبون!

- أنا بدوي.

- اللي عند البدوي عند الحضري مافيه فرق!

أمد شفتي نحو الرشفة الأولى وتمد شفتيها نحو قدحها الذي عطرته بورد الحسا، وتدخل يدها في مفرق نهديها، وتستخرج علبة التبغ، وتمد لي سيجارة.

- تدخن ؟

- إذا كان عندي خفاره أو استلام.

- أجل تشرب، الله يلعن القواد أموصيته يجيب الشراب لكنه بخيل.

- متزوجه؟

- ماقلت لك قبل شوي أم سامي، شفيك ماتفتهم!

- وأنت؟

- بنت عمي وطلقتها.

- تبيني أرقص لك جوبي؟

- رقصي.

- الله يلعن القواد ماجاب المسجله وأنا موصيته لكنه بخيل حتى الحجر يحسبه علي ويخصمه من كروتي!

قامت ترقص من غير موسيقى، وقام جارنا في المزرعة يؤذن لصلاة المغرب، وقام البعوض والنغمش وحشرات أخرى يطيرون حول السرير، وقامت ثمار التوت تتساقط وراء العريش، وأخذت أم سامي تتعرى وهي ترقص وقطع ملابسها تسقط فوق سرير القطن العتيق، قطعة بعد قطعة، وصرت أسمع دقات قلبي في أذني وابتدأ عرقي يسيح على خدي وهي تبتسم وتشير إلي بيدها؛ قم قم ، و لما يأست من قيامي واصلت رقصها عارية وتثنت وتعطفت وتمايلت إلى أن انبطحت فوق السرير:

- يله قم فوقي، وإلا تبيني أفسخك ملابسك مثل الجهال!

وقفت وتعريت، وهاجمني البعوض في مواضع عدة من جسدي، فتذكرت جزاء البعوض في الميدان حين كنت أخالف النظام، ولكني لم اكترث ، وانبطحت فوقها وجارنا في المزرعة يقول بصوت رفيع بعد أن أم الفلاحين وقضيت الصلاة : حسبي الله ونعم الوكيل ماتخافون الله.

- ماعليك منه هالشايب المخرف، ربعك العساكر كلهم اركبوني ولا جاهم شيء منه، وإذا ما أنت مصدق هذي بطاقاتهم ارهنوها عندي إلى وقت استلام الرواتب، وأشارت بيدها وأنا فوقها إلى كرتونة التونة بجانب المخدة!!.

نظرت وأنا فوقها إلى جوف الكرتونة فرأيت بطاقات الأفراد، أفراد أنا رئيسهم المباشر، وأفراد من قطاعات أخرى، ورأيت بطاقات ضباط أنا رئيسهم المباشر، وبطاقات ضباط يرأسونني، وبطاقات ضباط من قطاعات أخرى!!، وبدأت أسمع صوت سيارات باعة خمر الصروف يقفون عند باب المزرعة ويضغطون على منبه السيارة غير عابئين بي وأم سامي تحتي تقول: ماعليك منهم ، واصل شغلك، هذول بياعة خمر الصروف، وصاهم القواد يجيبون لي ولك خمر الحسا!!.

انتهت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى