أنور المعداوي - علي محمود طه.. شاعر الأداء النفسي

الشاعر الذي أقدمه إليك في هذه الصفحات، كان أشبه بكتاب مفتوح. أستطيع أن أقول لك وأنا مطمئن، إنني قد قرأته كله. . . شعره على ضوء حياته، وحياته على ضوء شعره، ناحيتان تؤلفان هذا الكتاب الذي قرأته، وعشت بي سطوره، وخرجت من هذه السطور بآراء عرضتها على الذاكرة فما اعترضت وعلى الضمير فما أنكر، وعلى موازين النقد فما اختلفت مع أصوله كما أفهمها ومناهجه.

درست حياة علي طه النفسية، ودرست آثاره الفنية... درستهما على طريقتي التي أومن بها وأدعو إليها كلما حاولت أن أكتب عن أصحاب المواهب أو كلما حاول غيري أن يكتب عنهم: مفتاح الشخصية الإنسانية أولاً، ومفتاح الشخصية الأدبية ثانياً والربط بعد ذلك بين الشخصيتين لننفذ إلى أعماق الحقيقة في الحياة والفن ومدى التجاوب بينهما منعكساً على صفحة الشعور المعبر عنه في كلمات.

يستطيع الذين لم يعرفوا علي طه ولم يطلعوا على دخائل نفسه وآفاق حياته، يستطيع هؤلاء إذا لم ينزعوا عن الألفاظ أثوابها النفسية، أو يجردوا الأخيلة من ضلالها المعنوية، أو يفرقوا بين الصور وبين وشائج اللحم والدم. . . يستطيعون إذا لم يلجئوا إلى شيء من هذا كله أن يعرفوه حق المعرفة من خلال شعره! لقد كان شعره مرآة صادقة لهذا الوجود الذي أحاط به، لأنه كان إنساناً صادقاً في صحبته لتلك المرآة. . . لم يحاول يوماً أن يقف أمامها بوجه غير وجهه، ولم يحاول يوماً أن يلقاها بملامح لونّها المساحيق أو اختفت حقيقتها وراء الأقنعة! ما أكثر الذين تخدعك مراياهم من أصحاب الفن حين تفتش فيها عن وجوههم. . . هؤلاء لو قدر ما لي يوماً أن أكتب عنهم لكشفت عن أثر المساحيق في تشويه معاني الحق والخير والجمال، وفي خداع الذين يريدون أن يستخلصوا من السطور وحدها رأياً وعقيدة! هنا أستطيع أن أقول لهم مثلاً إن فلاناً الكاتب أو الشاعر أو القصاص، قد قدم إليكم صورته من خلال فنه كما تريد المثالية في عالمكم لا كما تريد الواقعية في عالمه. . . إياكم أن تدرسوه من صورته المقروءة، بل ادرسوه من صورته المنظورة، ث قارنوا بينهما لتضموا أيديكم على مدى التفاوت أو التوافق بين الصورتين! تلك هي الأمانة العلمية في الدراسة النقدية، كلما حاول كاتب التراجم أو دارس الشخصيات أن يسلط أضواءه على الأثر الفني مرتبطاً بحياة صاحبه!

علي طه لم يكن واحداً من أصحاب المساحيق، ولكنه كان شاعراً يريد أن يجد نفسه وأن يجد الناس؛ ومن هنا لم يكذب أبداً على المرآة. . . مرآته الصافية التي تعرضه أمام ناظرتك بسماته التي لا تكلف فيها ولا رياء! أنه يمثل الوضوح في الفن، وقيمة الوضوح في الفن هو أنه. . . هو أنه يتيح للدارسين أن يطمئنوا إلى مواقع أقلامهم كلما قطعوا مرحلة من مراحل الطريق. . . لا غموض في المقدمات يدعو إلى الشك في النتائج، ولا ضباب على سطح المنظار يحول دون الرؤية إذا التمستها العيون وليس معنى هذا أن شعر علي طه يريح دارسيه ومقوميه، كلا، فما كانت هذه الحياة العريضة ولا أقول الطويلة، ما كانت هذه الحياة في ألوانها المختلفة وطعومها المتباينة، إلا ميداناً رحيب الجنبات لفن يرهق أنفاس السائرين في فجاجة ودروبه. . . إن علي طه لم يكن طاقة محدودة تسبر غورها في بضع لمسات أو لمحات ولكنه كان طاقة تشعر بينك وبين نفسك بمداها الذي تتعدد فيه الزوايا وتكثر الأبعاد!.

هذه حياته قد خبرتها، وهذه دواوينه قد قرأتها، فهل تحسب أن هناك شيئاً من الإجهاد لملكتي الناقدة إذا ما وضعت صوره الفنية في أماكنها الدقيقة التي تتسع لها ولا تزيد؟ كلا. . . لأنها كما قلت لك واضحة في منظاري كل الوضوح، ثابتة في مقاييسي كل الثبات. ولكن الإجهاد في الإحاطة الكاملة بهذا الأفق الممتد إلى أبعد حدود النظر. . . إن الظلال والأضواء على وضوحها تتشابك لكثرتها وتتداخل، ولا بد من الاحتشاد كل الاحتشاد لتفرق بين ظل وظل وتوفق بين ضوء وضوء، وتجمع بين المؤتلف منها في مكان وبين المختلف منها في مكان آخر!. . لقد كان علي طه موزع الطاقة بين فنون شعره كما كان موزع القلب والفكر بين فنون حياته؛ فالصورة الوصفية في إطارها الحسي، والصورة الوصفية في إطارها النفسي، تلتقيان وتمتزجان في شعر المرأة وشعر الغزل والطبيعة والرثاء والقومية والمناسبة، حتى يصعب عليك أن تستخلص كل لون من ألوان هاتين الصورتين، لتضعه في خانته المحدّدة التي تقدمه إليك من وراء عنوان! ولعل القارئ يلاحظ أنني قد فرقت بين شعر المرأة وشعر الغزل، وجعلت لكل منهما سمته الخاصة وطابعه المتميز. . . ذلك لأن هناك لونين من الشعر يجب التفرقة بينهما في هذا المجال: لون يعبر عن مكان المرأة من الشعور الإنساني عند الرجل حين يصور المشاركة الوجدانية بين عاطفتين: وهو ما أسميه بشعر الغزل. ولون يعبر عن مكان المرأة من الغريزة الإنسانية عند الرجل حين يعرض لنزوات الجسد بين طبيعتين: وهو ما أدعوه بشعر المرأة. ولكل من اللونين في شعر علي طه نصيب أي نصيب!

على مدار الأداء النفسي سأدرس هذا الشعر، وعلى أساس هذا الأداء يجب أن يدرس كل شعر عند القدامى والمحدثين. أنه في رأيي المحك الذي يظهر لك الشخصية الشعرية في ثوبها الطبيعي ويكشف لك عن الفن الشعري في معدنه الأصيل. . . ودعك من الساجدين في محراب الأداء اللفظي؛ أولئك الذين يزنون الألفاظ بضخامة هياكلها الخارجية: إنهم يذكرونني بذلك الصنف من الناس يحترم الرجل لضخامة مظهره. . . غير ملتفت إلى ضآلة مخبرة!

ولقد حدثتك في عدد مضى من (الرسالة) عن دعائم الأداء النفسي في الشعر. . . وقلت لك عنها فيما قلت: إنها تتمثل في الصدق الشعوري أولاً، وفي الصدق الفني ثانياً، وأخيراً في روافد هذين النهرين الرئيسين، ونعني بهما اللفظ والجو الموسيقي. ولا بد من رجعة إلى بعض الذي قلت بالأمس، حتى تستطيع أن تجمع بين خطوط المشكلة الكبرى وبين التطبيق عليها عن طريق الصورة أو عن طريق المثال. . .

(الصدق الشعوري) هو ذلك التجاوب بين (الوجود الخارجي) المثير للانفعال وبين (الوجود الداخلي) الذي ينصهر فيه هذا الانفعال، أو هو تلك الشرارة العاطفية التي تندلع من التقاء تيارين. أحدهما نفسي متدفق من أعماق النفس، والأخر حسي منطلق من آفاق الحياة. أو هو ذلك التوافق بين التجربة الشعورية وبين مصدر الإثارة العقلية في مجال الرصد الأمين للحركة الطائشةفي ثنايا الفكر والوجدان. . . هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما (الصدق الفني) فميدانه التعبير؛ التعبير عن دوافع هذا الإحساس تعبيراً خاصاً يبرزه في صورته التي تهز منافذ النفس قبل أن تهز منافذ السمع، وهذه هي التجربة الكبرى التي تختلف حولها القيم الفنية للشعر في معرض التفرقة بين أداء وأداء! هناك شاعر يملك الصدق في الشعور ولا يملك الصدق في الفن لأنه لم يؤت القدرة على أن يلبس مشاعره ذلك الثوب الملائم من التعبير، أو يسكن أحاسيسه ذلك البناء المناسب من الألفاظ، ولا مناص عندئذ من الإخفاق في إظهار الطاقتين معاً: الشعرية والشعورية. . . وهنا يأتي دور الأخير من الأداء النفسي في الشعر، وهو الدور الذي يعتمد على اللفظ ذو الدلالة الفنية لا المادية، اللفظ ذو الظلال الموحية لا الظلال الجامدة، اللفظ الذي يتخطى مرحلة إشعاع المعنى الجزئي الواحد إلى مرحلة إشعاع المعاني الكلية المتداخلة!

هذا هو مكان اللفظ من الأداء؛ أما الجو فنقصد به ذلك الأفق الشعري الذي بصدقه إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لك تلك المشاركة الروحية بينك وبين الشاعر، ويحدث لك نفس الهزات الداخلية التي تلقاها وهو حالة فناء شعوري كامل مع (الوجود الخارجي). . .

ويبقى بعد ذلك عنصر التنغيم في مشكلة الأداء وهو عنصر له خطره البعيد وأثره الملحوظ في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير. وهنا يبدو الارتباط كاملاً بين العناصر الثلاثة، لأن (الحقل الشعري) ممثلاً في عنصري الأجواء والألفاظ لا غنى له مجال عن عنصر (الموسيقى التصويرية) التي تصاحب (المشهد التعبيري) في كل نقلة من تنقلات الشعور، وكل وثبة من وثبات الخيال!

ويظهر أثر الربط بين هذه القيم في مشكلة الأداء النفسي حين نلتمس ذلك التناسق بين فنون الشعر المختلفة. . . أن لكل فن من هذه الفنون طابعه الخاص المتميز في مجال التصوير الفني عن طريق اللفظ والجو والموسيقى؛ فمن أسباب الإخلال بالأداء النفسي أن نتخير اللفظ الهامس، والجو الهادئ والموسيقى الحالمة مثلاً في شعر الملاحم، وأن نعكس القضية من وضع إلى وضع فنتخير اللفظ الهادر، والجو الصاخب، والموسيقى العاصفة مثلاً في شعر الغزل والرثاء.

قلت هذا عن دعائم الأداء النفسي ثم زدت عليه هذه الفقرات: حسبنا أن نقول إن الشعراء المحدثين قد خطوا بفهمهم أصول الفن الشعري خطوات جديدة، ووثبوا بالأداء النفسي وثبات أقل ما يقال فيها إنها ردت للألفاظ قيمها التعبيرية حين ردتها إلى محاريبها النفسية فغدت وهي صلوات شعور ووجدان. ويستطيع النقد الحديث أن يقول أنه قد وجد ضالته في هذا الشعر الذي وجد نفسه. . . وإذا قلنا الشعر العربي الحديث، فإنما نعني ذلك الشعر الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم شوقي، وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض الشعراء الشباب وعلى رأسهم إيليا أبو ماضي، وفي شعر هذين الشاعرين تبدو ومضات الأداء النفسي أكثر لمعاناً منها في شعر الآخرين!

من هذه الفقرات يتضح لك أنني قد جعلت أبا ماضي على رأس مدرسة الأداء النفسي عند شعراء العرب. . . ولقد أصدرت هذا الرأي بالأمس وما زلت أؤيده حتى اليوم، حتى هذه اللحظة التي أدرس فيها شاعراً ممتازاً من شعراء هذه المدرسة النفسية هو علي طه. ولكن بقيت من وراء هذا كله حقيقة، وهي أن أبا ماضي يقف في الطليعة على أساس هذا الأداء في مجموعه. . . أريد أن أقول لك إن هناك صوراً من صور هذا الأداء في شعر علي طه تعلو فوق مستوى نظائرها في شعر أبا ماضي، سواء أكانت تلك الصور وصفية في إطارها النفسي أم كانت وصفية في إطارها الحسي. ولك أن تقول والدليل بين يديك من شعر الشاعرين إن فرائد علي طه خير من فرائد أبا ماضي، ولكن النتيجة الأخيرة هي أن أبا ماضي في مجموعه خير من علي طه في مجموعه، على أساس النسبة العددية التي كلما قدمت لك عشر قصائد من شعر الأداء النفسي عند أبا ماضي، قدمت إليك في مقابلها سبعاً من شعر هذا الأداء عند علي طه. . . فإذا قلنا بعد ذلك إن ومضات الأداء النفسي أكثر لمعاناً في شعر إيليا منها في شعر الآخرين، فيجب أن يفهم أن المقصود بكثرة اللمعان هنا في هذا التعبير هو تلك الكثرة التي أشرت إليها في مجال النسبة العددية، وفي النماذج التي سأقدمها من شعر علي طه في هذه الدراسة المطولة ما شئت من إقامة الدليل!

وأمضي في هذه الدراسة محدداً جوانبها مقسماً مراحلها، إذ لابد لكل دراسة كاملة من جوانب تحدد ومراحل تقسم. . . لابد من تصميم فني ككل تصميم يوضع عند رسم الخطوط الرئيسية في أي عمل من الأعمال الأدبية.

هناك مرحلة أولى سأتناول فيها بالنقد والتحليل أول صورة من صور الأداء النفسي في شعر علي طه، وأعني بها الصورة الوصفية في إطارها النفسي. . . وهي تمثل الشعر الذي تلمع فيه الومضة الفكرية مغمورة بأضواء الذاتية الوجدانية؛ هناك حيث يتعزى الفكر الإنساني بين جدران النزوة والنزعة والغريزة والعاطفة.

وهناك مرحلة ثانية سأتناول فيها الصورة الأخرى من صور هذا الأداء، وأعني بها الصورة الوصفية في إطارها الحسي. . . وهي تمثل الشعر الذي ينتقل بالماديات إلى نطاق المعنويات؛ هناك حيث تستحيل الحركة الحسية في بوتقة اللفظ إلى موجة صوتية معبرة عن الوجود الداخلي. ومن ألوان الصورة الأولى عالم الطبيعة الإنسانية الخاصة، وعالم النموذج النفسي العام، وعالم النظرة الكونية في محيط الفكرة السابحة في أجواء المجهول. ومن ألوان الصورة الثانية عالم الطبيعة المادية الخاصة، وعالم النموذج البشرى العام، وعالم النظرة الواقعية في محيط الرؤية الشعرية.

بعد هذا سأنتقل إلى المرحلة الثالثة من مراحل هذه الدراسة وهي مرحلة تطبيق هذه الألوان من الأداء النفسي على حياة علي طه الشخصية. سأحاول أن أرد كل ظاهرة فكرية أو نفسية أو خلقية إلى مصادرها من الجو الطبيعي الذي تنفس فيه. . أعني أنني سأنتقل من مرحلة الأداء النفسي بمعناه الاصطلاحي في أصول النقد، إلى مرحلة الأداء النفسي بمعناه الوجودي في واقع الحياة، وهو المعنى الذي أشرت إليه من قبل حين قلت إن شعر علي طه كان مرآة صادقة لجوانب حياته.

أما المرحلة الرابعة فستخصص للحديث عن المرأة في شعر علي طه. . . هل فهمها كما يجب أن تفهم؟ هل نظر إليها كما يجب أن ينظر؟ هل شرح الطبيعة الأنثوية كما يجب أن تشرح؟ هل التقى مع شعراء المرأة هنا وهناك، في حدود الجسد حين يتخذ معبراً إلى الغريزة أو حين يتخذ معبراً إلى الإحساس بالجمال؟. . . هذا فصل خاص سأحاول فيه أن أنتزع الحقيقة الفنية من أغوار الحقيقة الوجودية.

وإذا ما انتهيت من هذه المرحلة الرابعة مضيت إلى المرحلة الخامسة، وهي أثر الثقافة الغربية في شعر علي طه. . . أثرها في الأخيلة التي تغلب عليها الواقعية حيناً، والرمزية حيناً آخر، والرومانتيكية في كثير من الأحيان. ثم أثر الآفاق الغربية في إمداد ملكته الشاعرة بتلك الخامات من المشاهد والخواطر والأحاسيس. .

يتبع

أنور المعداوي


→ ../ مجلة الرسالة - العدد 857
بتاريخ: 05 - 12 - 1949

تعليقات

أمل الكردفاني

علي محمود طه هو من تربيت على دواوينه كلها من ميلاد شاعر وأرواح وأشباح والملاح التائه ...الخ. وهو الشاعر الذي ملك ناصية الخروج عن نمط زمانه بل وزماننا هذا بذكاء وعبقرية لم أجدها إلى يومنا هذا في شاعر ، فتوجته عندي ملكاً للشعراء ، فمن الشعراء من أعيته القوافي والأوزان فلجأ الى الشعر الحر ، ومنهم من شكا خفة اللغة مع دسامة الخيال فلجأ الى النثر ، أما شاعرنا فلم تقف أمام قلمه عثرة ، فهو الذي جال بشتى الأخيلة والتصاوير باللغة العربية ببحورها وقوافيها وكأن لسانه يخلق اللغة وليست اللغة هي التي تفرض سطوتها على لسانه.
مع ذلك قوبل ملك الشعراء بالتهميش ، لا اعرف سببه ، وقلت حول شعره الدراسات النقدية ، بل ولا تكاد تجد عنه -ونحن في عصر ثورة الانترنت- تحليلا لشخصيته وحياته ودراسة لتطوره الأدبي ، بما يشبع النفس التواقة لمعرفة من أمتع ذائقتها وصقل هويتها تجاه الأدب العربي.
وحتى هذا المقال ، لا أراه سوى مقال شديد الضعف إن لم أصفه احتراماً بالغث ، ولو قدر لي أن أحظى يوما بتتبع سيرة شاعرنا فأفصلها تفصيلا وأشبعهها ما استطعت وصفاً فلن أتردد أبداً ، مات شاعرنا صغير السن عظيم الإبداع ، مات ولم يذق طعم قبلة من شفاه طرية ، وهو الذي صور لنا القبلة وفلسفتها وتاريخها في قصائدة:
قبلة منك دنيا وحياة
تلتقي الروحان فيها والمنى والصبوات
وهو الذي صور لنا الدنيا في قبلة لمغناجة لعوب:
تحدثني حلوة المبسم
متى أنت قبلتني في فمي
، وهو الذي وصف العشاق ، بقلب مضطرم ملقى في صحراء الوحدة والوحشة :
مرَّ بي مستضحكاً في قرب ساقِ
يمزج الرَّاح بأقداح رقاق
قد قصدناه على غير اتفاق
فضحكنا وابتسمنا .... للتلاقي

لماذ هُمِّش شاعرنا ، هذا هو السرِّ الذي لم أجد له إجابة شافية حتى الآن ، هل لأنه كان عضدا للملكية؟ وألم يكن شوقي ربيب الملكية أيضاً؟
 
أمل الكردفاني

علي محمود طه هو من تربيت على دواوينه كلها من ميلاد شاعر وأرواح وأشباح والملاح التائه ...الخ. وهو الشاعر الذي ملك ناصية الخروج عن نمط زمانه بل وزماننا هذا بذكاء وعبقرية لم أجدها إلى يومنا هذا في شاعر ، فتوجته عندي ملكاً للشعراء ، فمن الشعراء من أعيته القوافي والأوزان فلجأ الى الشعر الحر ، ومنهم من شكا خفة اللغة مع دسامة الخيال فلجأ الى النثر ، أما شاعرنا فلم تقف أمام قلمه عثرة ، فهو الذي جال بشتى الأخيلة والتصاوير باللغة العربية ببحورها وقوافيها وكأن لسانه يخلق اللغة وليست اللغة هي التي تفرض سطوتها على لسانه.
مع ذلك قوبل ملك الشعراء بالتهميش ، لا اعرف سببه ، وقلت حول شعره الدراسات النقدية ، بل ولا تكاد تجد عنه -ونحن في عصر ثورة الانترنت- تحليلا لشخصيته وحياته ودراسة لتطوره الأدبي ، بما يشبع النفس التواقة لمعرفة من أمتع ذائقتها وصقل هويتها تجاه الأدب العربي.
وحتى هذا المقال ، لا أراه سوى مقال شديد الضعف إن لم أصفه احتراماً بالغث ، ولو قدر لي أن أحظى يوما بتتبع سيرة شاعرنا فأفصلها تفصيلا وأشبعهها ما استطعت وصفاً فلن أتردد أبداً ، مات شاعرنا صغير السن عظيم الإبداع ، مات ولم يذق طعم قبلة من شفاه طرية ، وهو الذي صور لنا القبلة وفلسفتها وتاريخها في قصائدة:
قبلة منك دنيا وحياة
تلتقي الروحان فيها والمنى والصبوات
وهو الذي صور لنا الدنيا في قبلة لمغناجة لعوب:
تحدثني حلوة المبسم
متى أنت قبلتني في فمي
، وهو الذي وصف العشاق ، بقلب مضطرم ملقى في صحراء الوحدة والوحشة :
مرَّ بي مستضحكاً في قرب ساقِ
يمزج الرَّاح بأقداح رقاق
قد قصدناه على غير اتفاق
فضحكنا وابتسمنا .... للتلاقي

لماذ هُمِّش شاعرنا ، هذا هو السرِّ الذي لم أجد له إجابة شافية حتى الآن ، هل لأنه كان عضدا للملكية؟ وألم يكن شوقي ربيب الملكية أيضاً؟
الصديق الرائع أمل
شكرا على هذا التعقيب العميق الشائق الذي جاء على هامش مقال أنوار المعداوي ، إن علي محمود طه وان حاق به التهميش لم يطله النسيان ، ولا يزال حجة ومنارا شعريا يسطع في الاعالي .. ويؤرخ به لمرحلة شعرية فاصلة في تاريخ الشعرية العربية ، وسيبقى من ابرز فرسان القصيدة الوجدانية والبوح الغنائي الرقيق الذي يخرج من شغاف روح شاعرة

مودتي وتقديري ايها الصديق
 
أعلى