أحمد محمد الحوفي - شياطين الشعراء.. عبقر شيطان الشعر ، شياطين بعض الشعراء، شياطين شعراء الإفرنج ، العقل الباطن.

- 1 -

الشعر وحي وفيض وإلهام، وهو إذا ما صدر عن عاطفة مشبوبة صادقة، فن لا أثر للإرادة فيه، أو أثرها فيه أضعف من تأثير التلقي والطواعية والاستمداد من أغوار النفس واللاشعور.

وقد نسب العرب كل أمر عجيب إلى الجن، وتخيلوا أن عبقر واديهم ومقامهم، وقالوا في الأمر العظيم عبقري، فلا عجب أن يصلوا الشعر بالجن، ولا عجب أن يتخيلوا أن لكل شاعر شيطاناً يلهمه القريض ولكن للشعر شيطانين: أحدهما مجيد واسمه الهوبر، والآخر مفسد واسمه الهوجل، وكانت عقيدتهم هذه معلومة في العصر الإسلامي، فقد روى أن رجلا من تميم أتى الفرزدق وقال له: إني قد قلت شعراً فاسمعه قال: أنشدني فقال:

ومنهم عمر المحمود نائله ... كأنما رأسه طين الخواتيم

فضحك الفرزدق، ثم قال: يا ابن أخي إن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر فسد شعره، وقد اجتمعا لك في هذا البيت، فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت.

وقد سمى الشعر رقى الشياطين، قال جرير:

رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقياً

وقال آخر:

ماذا يظن بسلمى إذ يُلمُّ بها ... مُرَجَّل الرأس ذو بُردَين وضَّاح
خزٌّ عمامته حلوٌ فكاهته ... في كفه من رقى الشيطان مفتاح

وصرح كثير منهم في العصر الجاهلي وفيما بعده بأن شياطينهم تلهمهم أفانين القول، قال الراجز: إني وإن كنت صغير السن ... وكان في العين نبوٌّ عني

فإن شيطاني أمير الجن ... يذهب بي في الشعر كل فن

وقال حسان في جاهليته يعزو إلى شيطانه أنه قائل بعض شعره:

إذا ما ترعرع فينا الغلا ... فما إن يُقال له: من هوة؟
إذا لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشيصبان ... فطوراً أقول، وطوراً هوه

وقال جرير:

إني ليُلْقى عليَّ الش ... عر مكتهل من الشياطين

- 2 -

ولم يكتفوا بنسبة شعرهم إلى الشياطين، بل سموْها، فكان لكل شاعر شيطانه المسمى. فشيطان الأعشى مسحل، وشيطان فرو بن قطن جهنام، قال الأعشى:

دعوت خليلي مسحلا، ودعوا له ... جهنام. بعداً للغوي المذمم

وشيطان المخبل السعدي عمرو، قال الشاعر الإسلامي:

لقد كان جنّيُّ الفرزدق قدوة ... ولا كان فينا مثل فحل المخبل
ولا في القوافي مثل عمرو وشيخه ... ولا بعد عمرو شاعرٌ مثل مسحل

وشيطان عبيد بن الأبرص عبيد، وهو نفسه شيطان بشر بن أبي خازم وينسبون إليه:

أنا ابن الصلادم أُدعى الهبيد ... حبوت القوافي قَرْمي أسد
عبيداً حبوت بمأثورة ... وأنطقت بشرا على غير كد
ولاقى بمدرك رهط الكميت ... ملاذا عزيزاً ومجداً وجد
منحناهم الشعر عن قدرة ... فهل تشكر اليوم هذا معد؟

وسأله الراوي: أما عن نفسك فقد أخبرتني، فأخبرني عن مدرك، فقال: هو مدرك بن واغم صاحب الكميت، وهو ابن عمي.

وقالوا إن شيطان امرئ القيس لافظ بن لاحظ، وشيطان زياد الذبياني هاذر ونسبوا إلى أبي نواس انه كان يستعين بإبليس في نظم الشعر ورووا له أبياتاً منها:

دعوت إبليس ثم قلت له ... في خلوة والدموع تنحدر: أما ترى كيف قد بليت، وقد ... قرح جفني البكاء والسهر؟

إن أنت لم تلق لي المودة في ... صدر حبيبي وأنت مقتدر
لا قلت شعراً ولا سمعت هنا ... ولا جرى في مفاصلي السكر
فما مضت بعد ذاك ثالثة ... حتى أتاني الحبيب يعتذر

ولم يقتصروا على نسبة الشعر للشياطين، بل نسبوا إليهم الغناء أيضاً في العصر الإسلامي، وقالوا إن الغريض كان يتلقى غناءه عن الجن، وأن سماره سمعوا وهو يغنيهم ذات ليلة عزيفاً عجيبا، وأصواتاً مختلفة أفزعتهم، فقال لهم. إن فيها صوتاً إذا نام سمعه، ويصيح فيبني عليه غناءه، فأصغوا إليه فإذا نغمته نغمة القريض فصدقوه.

ولم يقنع أبو النجم أن يكون شيطانه كشياطين الشعراء، فادعى أن شيطانه ذكر وشياطينهم إناث؛ لأن الذكور أقوى من الإناث وأقدر:

وإني - وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى - وشيطاني ذكر

وروى بعضهم بيت عمرو بن كلثوم في معلقته هكذا:

وقد هرت كلاب الجن منا ... وشذبنا قتادة من يلينا

وقال إن الشعراء كانوا يسمون كلاب الجن، فالمعنى أننا لبسنا الأسلحة فشرع الشعراء يذكروننا.

- 3 -

ولهم مع شياطين الشعراء أقاصيص ومساجلات، ومحاكمات منثورة في كتب الأدب، نذكر بعضها للتمثيل:

قال جرير بن عبد الله البجلي: (سافرت في الجاهلية فأقبلت على بعيري ليلة أريد أن أسقيه، فأبى أن يتقدم، فدنوت من الماء وعقلته، ثم أتيت الماء فإذا قوم مشوهون عنده، فقعدت ثم أتاهم رجل أشد تشويهاً منهم، فقالوا هذا شاعرهم، وطلبوا منه أن ينشدني، فأنشد:

(ودع هريرة إن الركب مرتحل) البيت

فلا والله ما خرم منها بيتاً واحداً، حتى انتهى إلى هذا البيت:

تسمع للحَلي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرقٌ زجلُ

فأعجبه، فقلت له: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا، قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى بني ثعلبة أنشدنيها عاما أول بنجران. قال: فإنك صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه، وأنا مسحل صاحبه، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس).

وقد لاقى الأعشى هاجسه مسحلا وسمع منه، وقد اعترف في شعره أن مِسحلاً يوحي إليه، بل إنه مصدر وحيه ولولاه ما شعر:

وما كنت شاحوذاً ولكن حسبتني ... إذا مسحل يسدي لي القول أعلق
شريكان فيما بيننا من هوادة ... صفيان: إنسيٌ وجنٌّ موفّق
يقول فلا أعيا بقول يقوله ... كفاني لا عَي ولا هو أخرق

وحاور عبيد بن الحُمارس جِنِّياً بالشعر.

وذكر أبو العلاء أن أبا بكر بن دريد قص على أصحابه أنه رأى فيما يرى النائم أن قائلا يقول: لم لا تقول في الخمر شيئاً؟ فقال: وهل ترك أبو نواس مقالاً؟ فقال له: أنت أشعر منه حيث تقول:

وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا ... عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق

فقال له أبو بكر: من أنت؟ فقال: أنا شيطانك، وسأله عن اسمه فقال: أبو زاجية، وخبره أنه يسكن بالموصل.

- 4 -

وإذا كان العرب قد عزوا شعرهم إلى الجن وتخيلوا أنها تلهمهم ونسبوا كل أمر عظيم إلى عبقر فإن الفرنجة يشبهونهم في كثير من تخيلهم.

يعبر الإنجليز عن العبقرية بكلمة ومصدرها الذي اشتقت منه كلمة ومعناها جن، فبين العبقرية والجن علاقة في اللغة الإنجليزية كالعلاقة التي بين عبقر والعبقرية في اللغة العربية، وقيل إن أصل الكلمة لاتيني يدل على معنيين متقابلين: ملك رجيم وشيطان رجيم، يولد الواحد منهما أو يولدان معاً بمولد الشاعر، ويقصون عن بعض شعرائهم قصصاً تشبه شبهاً قوياً ما روى عن شياطين شعراء العرب، فمثلاً بدا الشاعر (كولردج) قصيدته (كوبلاخان) وأتمها لها جني والشاعر نائم، واستيقظ الشاعر (ماسفيلد) من نومه لينقل عن جني قصيدته (المرأة تتكلم) وأغرب من هذين ما يرويه (وليم بلاك) عن نفسه إذ يزعم أنه مسكون، وأن ساكنيه ملائكة وشياطين تطارده نهارا، وتوقظه ليلا، لتوحي إليه بما ينظم وحياً لا يستطيع أن يصده، ولا قدرة له على تنضج ما توحي به

ويقول (ريلكة) إنه ظل أسير الأرواح ثلاثة أيام لم ينقطع فيها نظمه، وأخرج ديواناً من دواوينه الروائع، وأعجبه، وألح الجن أن ينشره، فرضى على شريطة أن يكون النشر بعد وفاته حتى لا يتحمل تبعة شعر أملاه عليه جني جالس قبالته.

- 5 -

ولكن علم النفس يعزو هذا كله إلى العقل الباطن، وقد كشفت الدراسات التي قام بها علماء التحليل النفسي عن كثيرمن عمل العقل عند الفنان، وانتهوا إلى أن الإنتاج الفني يصدر غالباً عن العقل الباطن كأنه حلم يقظة.

ويروي استيفنسن، كيف بدأ هو نفسه يكتب قصته الفنية البديعة (دكتور جيكل ومستر هيد) فيقول: (إن العمل الحقيقي يقوم به مساعد غير منظور، أبقيه أنا داخل حجرة عليا مغلقة. . . يقوم به أولئك الناس الصغار - في الدماغ - الذين ينجزون لي نصف عملي وأنا مستغرق في نومي وربما أنجزوا النصف الباقي وأنا مستيقظ تمام اليقظة حيث أظن أني أنا القائم بالعمل، وكثيرا ما يعلن لي أن أعتبر نفسي غير فنان، بل مخلوقا شأنه شأن بائع الجبن أو الجبن نفسه).

وهذا التصوير المستملح تؤيده إشارات من كتاب آخرين، فهذا فولتير - وقد لس مرة في إحدى مقاصير المسرح يشهد تمثيل رواية من رواياته - يصبح متعجباً. . أحقاً أنا الذي كتب ذلك؟.

وجورج إليوت - ولم تكن تعتقد في وقى نفسية غير طبيعية - تصرح أنها قد خيل إليها وهي تكتب أن عقلا آخر قد استحوذ على قلمها وسيَّره، ويقول جوته إنه كتب أحسن رواية له وهو في غيبوبة حالمة يشبهها بحالة النائم الماشي. وكثير من الأدباء الأحياء صرحوا بهذا، فمثلا بروفسور هوسمان يقول في طريقة إنتاج قصائده: أنا أظن أن إنتاج الشعر ليس عملية فاعلة قدر ما هي قابلة وغير اختيارية.

- 6 - التحليل النفسي يعزو إلى العقل الباطن الإنتاج الأدبي الرفيع وقد عبر الشعراء من العرب والإفرنج عن هذا العقل بأنه قوى خفية تلهم، وسموها شياطين.

وإذا كان الشعر يحلق بجناحين من الخيال فقد حق للشعراء أن ينطلقوا مع خيالهم فينسبوا شعرهم إلى قوى وراء حسهم، وتصورهم هذه القوى شياطين ألصق بالخيال وأدنى إلى الشعر من التحليل النفسي الذي يرجع الإنتاج الأدبي إلى العقل الباطن للشاعر، أي إلى الشاعر نفسه.

لست بهذا أهيم مع الشعراء وأجحد حقائق العلم، وإنما أقرر أن الشعراء كانوا موفقين في تخيلهم وفي دعواهم أن شياطينهم تلهمهم أو تملي عليهم. . .

أحمد محمد الحوفي
المدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول


مجلة الرسالة - العدد 853
بتاريخ: 07 - 11 - 1949

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى