جورج حنين - قصة غارة . ترجمة: أنور كامل وبشير السباعي

الممر المرشوق بالمسامير يفضي إلى قلب الصحراء. أحاذي إذاً طريقاً خالياً من الدم موشحاً بإعلانات صغيرة. لا شيء غير سيدات بين أعمار لا بأس بها يتقن إلى المحبة البريئة. بعيداً يتنزه ببراءة دخان متموج. أستوقف حاجباً ينبئني. هناك يجلس الراعي الذي يعقد زيجات المصلحة. يشتغل على فحم الكوك. يبدو من جهة أخرى أنهم سوف يعينون راعياً جديداً تماماً. راعياً جديداً لن يعقد قراناً بعد الآن إلاَّ على المازوت.

بعد بضع ساعات من السير وحيداً ألمح فجأة سيقان نساء يخرجن من ميدان شفاه رحيب ويلوحن مودعات بالوشاحات، أو بالنوارس أو بالثلوج. موسيقاهن تشبه الخرق الذي تحدثه في الطبل المحموم صرخة قطار سريع يغيب في نفق يعرف تماماً أنه لن يخرج منه.

أسأل حيواناً أليفاً – أخطبوطاً في الغالب – يتشمم المشهد بمسحة مرتابة. يقول لي هذا الحيوان: "ما تظنه نساء ليس في الواقع غير خطوط زوال طولية والإنسان الذي يحيينه بهذه الطريقة ليس سوى الحريق. الحريق يزور في هذه اللحظة كل المنطقة على متن مُطفئه الخاص. السكان الأصليون يحسبون أن شرفاً عظيماً أسدي إليهم لأن الحريق يسافر في الغالب متنكراً".

الحيوان الأليف الذي أوحيت إليه بشيء من التعاطف يستطرد: "لاحظ أن بين خطوط الزوال والشفاه سوء تفاهم كبير. كل قرن تحدث بينهما منازعات لا تنتهي. الجيران يفقدون فيها الحياة والحلم. تلك فضيحة يا سيدي، فضيحة خالصة، ومن المستحيل، مع ذلك، فهم دوافع هذه المنازعات. إنهم يصرحون فقط – وأنا أبلغك الرواية الرسمية للأحداث... إنك في نهاية الأمر لست سوى أجنبي – بأن خطوط الزوال تترصد بشكل خاص أسرة من الشفاه تكرر لها دون توقف قسماً لا يتبدل: "أقسم لكِ بأنني لم أخدعكِ قط... أقسم لكِ بأنني لم أخدعكِ قط" وهكذا دواليك. إذا كانت خطوط الزوال تهلل للحريق بهذه الطريقة فذلك لأنه يحرق كل التظلمات التي تقدمها له الشفاه. أنا أعتقد أنه قد آن الأوان لطرد خطوط الزوال هذه بإرسالها، مثلاً، لمغازلة أدوات الجراحة التي يحزنها أن تموت وحيدة في علبتها".

قبل أن تنام خطوط الزوال تؤدي صلاتها وترسم في رماد الفضاء إشارات سيمافور مديدة في عشق الأفق. الإشارات تمكث طويلاً بعد مولدها بلا حركة ثم تحلق بأجنحة من رصاص صيد الطيور ولا تلبث أن تحط على جنبات الكثبان حيث تزدهر صفوف من الكوى المتآلفة تضيء بنورٍ ثابتٍ محطةً محفورةً في قلب الماس.

الأخطبوط يشرح لي، وقد اتضح بشكل قاطع أنه أخطبوط: " هذه المحطة لا تفيد في شيء على الإطلاق. لا في القيام ولا في الوصول. ولا في أي شيء. بل إنها لا تؤكل. لهذا يحترمها الجميع " .

القضبان سواعد عذارى، من اللحم المشغول، تُهَدْهَدُ على رصة السكة، شبيهة بأطفال متعَبين مسهدين لا يجرؤ أي قطار على سحقهم.

ناظر المحطة قط سيامي يحمله على الأكتاف مقعد من الزمرد. ناظر المحطة لا يتعجل. إنه لا يبالي. ربما لأنه على موعد مع المستقبل. العلم في بلُّورة عينيه.


* منقول من ديوان بلاد السديم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى