أحمد السماوي - التطريس في أقاصيص إبراهيم درغوثي

تقبل الرّواية التّطريس إذ بحكم سعتها تصهر النّصوص المختلفة في صلبها. لكنّ الأقصوصة، بما هي شكلٌ مختصرٌ، قد لا تفسَح المجالَ لهذا التّطريس بأن يحضر. بيد أنّ القول بأنّ ما من نصّ إلاّ ويجاوز نصّا آخر يفترض انسحابه على الأقصوصة انسحابه على غيرها من الأجناس طويلة كانت أم قصيرة. والرّوائيّون، في معظمهم، كتبوا الأقصوصة شأن كثير من الأقصوصيّين جرّبوا هم أيضا الرّواية، وهم يعون فرق ما بينهما أجناسيّا. وقد صاغ دانيال غروينوسكي(Daniel Grojnowski)، معتمدا على مدوّنة روائيّة وأخرى أقصوصيّة، الحدود الفاصلة الواصلة بين الرّواية والأقصوصة. فبيّن أنّ” الرّواية عمل بطيء يقوم على تجميع عناصر متغايرة، ويستهدف مراكز اهتمام متعدّدة، ويرد حلّ العقدة فيها في صورة حصيلة أو خاتمة. أمّا الأقصوصة فتقوم على تجميع عناصر متماثلة، وتستهدف مركز اهتمام وحيدا، ويرد فيها حلّ العقدة غير منتظر“ .
ولم يكن إبراهيم درغوثي ، في التّقليد السّرديّ العربيّ، ليعزب عن ذهنه هذا التمييز بين الجنسين السّرديّين هذين؛ فهو روائيّ كتب الأقصوصة أو بالأحرى أقصوصيّ كتب الرّواية، واستفاد ممّا تسمح به هذه الرواية من مكوّنات لا يسع الأقصوصة، بما هي عليه من تكثيف وإيجاز وشعريّة، أن توفّرها له، خاصّة إذا ولّى وجهه شطر التّطريس، بما هو ظاهرة تخرق النّصوص جميعها، ويقوم على تداخل هذه النّصوص وتبادلها الوصف والموازاة والنسخ ومن ثم التجاوز. فكيف تفاعلت أقصوصة درغوثي مع هذه الظّاهرة؟ أقدرت على تمثّل الخطابات الأخرى التي تقاطعت معها؟ وإن فعلت فكيف تعاملت مع مثل هذه الخطابات أبمحاكاتها أم بمعارضتها أم بتحريفها أم بشيء آخر؟ وإن كان فما هو؟
1 – على مستوى البنية
لئن التزمت بعض الأقاصيص في المجموعات، بالطول الذي يتناسب والأقصوصة، فإنّ كثيرا من الأقاصيص الأخرى المتناثرة في هذه المجموعة وفي تلك، تلجأ إلى إطالة غير مألوفة قد تخرج بالأقصوصة عن سمتها المألوف، كأن تُقسَّم إلى أقسام تفصل بين القسم والآخر منهـا نجيـمات، أو أرقام ، أو أن تنبني بناء تضمّن، فتكون هناك أقصوصة إطار تحوي أقصوصة متضمَّنة أو أن تنبني بناء تناوب تتوازى في الأقصوصة الواحدة منها حكايتان ، أو أن تكون الأقصوصة بدورها مجموع أقاصيص لها موضوع مشترك يأتي الفهرس في آخر الكتاب ليؤكّد الأمر توكيدا .أبعد هذا يصحّ أن نصطلح على ما في المجموعات بأنّه أقاصيص؟
يبدو أنّ القفلة التي تُعتبَـر العنصرَ الأساس في الأقصوصة قد تنهض بدورها في تحديد الجنس الأقصوصيّ واستبعاد الأجناس الأدبيّة الأخرى الممكنة. على أنّ ما يعلن عنه السّارد أحيانا من أنّه يورد أقاصيص قصيرة جدّا قد يعقّد نسبة النّصوص إلى الأقصوصة .
واختلاف الأقاصيص بنيةً إنّما يرد لتقديم تصوّر للبناء الأقصوصيّ طريف؛ فما دامت أغلب الأقاصيص تنبني على أجزاء ثلاثة، الجزء الأوّل والجزء الأخير منها زمنهما الرّاهن، والأوسط زمنه أسبق، يُـسترجَع لتفسير ما ورد غامضا في اللّحظتين الأخريين ، فذلك يمثّل – في حدّ ذاته- شكلا من أشكال التّطريس هو المعارضة . فالنّصوص يحاكي بعضها بعضا، أو يعيد بعضُها إنتاج بعض، كأنّ هناك نصّا رحما تتناسل منه نصوصٌ أخرى، وهذا ما يدعوه دالّنبـاخ Lucien Dallenbach النّصّيّة الذّاتيّة. ولا يقتصر الأمر على معارضة الحكاياتِ القديمة بما هي جنس أدبيّ قائم الذّات، ولا الحكاياتِ المستحدثة بما هي إعادة إنتاج للجنس نفسِـه مرارا، بل يتعدّاه إلى التحريف الهزليّ . ولعلّ ما فعلتـه الأقصوصة الثّالثـة ضـمن " أوجاع " من كأسك يا مطر، والتي تحمل عنوان " وقائع من أوجاع امرئ القيس "مع قصّة امرئ القيس والسّموأل إن هو إلاّ تجسيد لهذاالتحريف. فبنيتها، لا تتناسب والبنية المألوفة للأقاصيص إذ هي إلى الوقائع أقرب. ومع ذلك، تأتي خاتمتها المفاجئة التي لا تنتظرها الشّخصيّات ولا المسرود له لتعود بها إلى الجنس الأقصوصيّ برغم التّغريب الذي مارسته في البدء. يقول السّارد:” قال امرؤ القيس: قل له طويت صفحا عن ذلك الموضوع...“ . وتزيد الأقصوصة ادّعاءً بقدرتها على معارضة الأجناس الأدبيّة الأخرى عندما تميل إلى محاكاة الرّواية البوليسيّة. ففي أقصوصة " وقائع من حياة رجل قال: لا..." من الخبز المرّ تقع الإساءة أوّلا ثمّ يقع التّثبّت من الأمر ومحاولة تحديد المجرم أو على الأقلّ حيثيّات الجريمة.
ولعلّ الأقصوصة، إذ تنبو بنيتها عن الالتزام بتصوّر أحاديّ للبناء، تحقّق لنفسها مراجعة دائمة للأشكال السّائدة، وسعيا دائبا إلى تجاوز ذاتها؛ وهو ما يعني خرقها المستمرّ للجنس الأقصوصيّ. ألم يسخر بنديتو كروتشي Benedetto Croce (1866- 1952)، منظّر الجماليّات الإيطاليّ من مفهوم الجنس، إذ لم يره ملائما للموضوع الأدبيّ؟ فذاتيّة المكتوب وحدها هي التي تغلُب على انتمائه الأجناسيّ . ولذلك رأى منظّرو اللّغة أنّ بإمكان الأقصوصة أن تتّخذ شكل الخرافـة أو الرّسالـة أو قصيـدة النّثر. ولعلّ المراوحة بين تسميتها أقصوصة وحكاية، أن تكشف الخصيصة النّاسخة لكلّ مكتوب أدبيّ . والأقصوصة، وهي تأتي هذا الصّنيع أو ذاك، تكون واعية بما تمارسه، تسكت عنه على أنّه تحصيل حاصل أو تكشفه مترسّمةً بذلك خطى الرّواية في إعلانها عن هذا الوعي بالكتابة وخصائصها والصّعوبات التي تعترضها. وهذا ما تعمِد إليه في حكاية واصفة كما تسمّيها باتريسيا وُووْ Patricia Waugh أو في الوصف النّصّيّ كما يسمّيه جينات. فهل يتوفّر لها المجال للتّعبير عنها وهل تعدم الحيلة في تحقيقها ذلك؟

2– في الحكاية الواصفة
تربط باتريسيا وووْ في دراستها " لتيّار ما بعد الحداثة " في الرّواية الأنغلوأميركية الحكاية الواصفة بالرّواية. فقد ذكرت أنّ الرّوائيّ ” في الوقت الذي يبدع فيه عالما تخييليّا، يقدّم إفادات وتصريحات تخصّ إبداع ذلك العالم التّخييليّ “ . ولم تعرض الدّراسات لعلاقة الحكاية الواصفة بالأقصوصة نظرا إلى أنّ المجال الذي توفّره الأقصوصة محدود، ليس بوسعـه أن يسمـح بالاستطـراد أو التعليق لأنّه إن خوّل ذلك أفقد الأقصوصة سمتها التي تقرّبها من الشّعر، وهي الاختزال والاكتناز. لكنّ الأقصوصة، وهي تسمح لنفسها ببعض هذا الارتخاء، تعي بأنّ عليها ألاّ تبالغ. وهي، إذ تفعل ذلك، تعبّر عن رفضها الالتزام بالحدود التي خصّتها بها الدراسات النّقديّة حين حدّت من طولها، وحين خوّلت للرّواية ما لم تخوّلها إيّاه. وإذ تنافس الرّوايةَ في هذا الذي تتميّز به منها إنّما هي تحاكيها، في مستوى بنيتها، محاكاةً ساخرةً . ويتضح ذلك من خلال كلام الأقصوصة على نفسها؛ وهو كلام على كلام. وهذه سمة مميّزة للواقعيّة النّصّيّة التي تحدّث عنها فيليب هامون Philippe Hamon عندما جعل التّعليق يمارسه السـّارد نفسُـه أو القارئ/ النّاقد على النّصّ تطريسا أي إعادة كتابة إن في معناها الحرفيّ نسخا وإن في معناها التّقويمي نقدا وتعليقا. وتتجسّد هذه الحكاية الواصفة في أقصوصة درغوثي في تعليق الحكاية على نفسها يشكّله السّارد تشكيلَه الخاصّ عندما يوجّه الخطاب إلى المسرود له: ” اعذروني إن أنا أطلتُ الحديث “ . وقد أشار جينات إلى هذا الشّكل من الحكاية الواصفة عندما نبّه إلى أنّ هذه الممارسة الكلاسيكيّة تُسمّى " حكاية الكاتب الواصفة " Métarécit. وهي ” تتمثّل في التّظاهر بأنّ الشّاعر يعالج هو نفسُـه أثر إنشاده “. ويعلّق على هذا الأمر قائلا: ” إنّ كلّ تدخّل من السّارد أو من المسرود له الخارجيّين في عالم القصّة[...] ينتج أثرا من الغرابة الهزليّة أو الفانتاستيكيّة “ . وقد لا تمارس أقصوصة درغوثي هذا التّدخّل السّافر من السّارد مرّة واحدة، بل قد تعدّده شأنَها في أقصوصة " الكلاب " عندما يقطع السّارد حبل السّرد مرّة ثانية ليشعر بوجوده، وليخلق نوعا من الانتباه خاصّا ؛ وقد يُشعِر متقبّلَه بأنّ الحكاية التي هو بصددها لم تتقدّم، وإنّما هي تدور على نفسها. والحكاية إذ تفعل ذلك تشكّك في نفسها في حكاية واصفة تلفت انتباه المسرود له إليها أكثر . وترد الحكاية الواصفة عادة تفكيرا بصوت مرتفع. وإذا كانت الحكاية قديما تمارس ذلك ضمنا، فالحكاية الحداثيّة تعلنه إعلانا؛ من ذلك أنّ مقاطعة صاحب الشّاي الأخضر، في كأسك يا مطر، "الرّاوي "، هو تطاولٌ من الشّخصيّة على خالقها. أيتم هذا التّطاول بصوت مرتفع أم يتمّ كتابة فقط ؟ إنّ الحكاية، وهي تمارس ذلك، تعبّر عن شكل ما من أشكال قصّة القصّة. فللقصّة المرويّة قصّتها، وعندما تتكلّم الحكاية/ الأقصوصة عليها تصبح حكاية واصفة .
ولعلّ التّطاول ما كان ليحدث لولا وجود روايتين لقصّة واحدة. وهل تتّسع الأقصوصة لتعدّد الرّوايات versions ؟ أليس في ذلك تطاولٌ منها على الرّواية roman ومحاكاةٌ لها ساخرة ؟ ففي" كأسك يا مطر"، تتعدّد الرّوايات فعلا ! للسّارد روايته ولصاحب الشّاي الأخضر روايته أيضا ! ولعل هذا التّباين بين الروايتين أن يكون انعكاسا للاتّجاهات الكثيرة المتصارعة في نفس الكاتب، لحظة الكتابة. وبدل أن يقوم باختياره في صمت أو أن يشطب ما لم يحلُ له، يعلن عن هذه الاتّجاهات المتضاربة في النّصّ. وهذا التّدخّل من الشّخصيّة لإيفائها المسرود له بوجهة نظرها ليس سوى حكاية واصفة، تثير – كما يقول جينات- جوّاً فانتاستيكيا . وإذا كان تدخّل الشّخصيّة المفاجئ مما قد يفسد على السّارد عمله، فيغضب، فإنّ مناداته المسرود له إلى إبداء وجهة نظره في تالي الأفعال هو منه حكاية واصفة. وقد تطول الحكاية الواصفة بوصفها مقطعا يخرج عن سياق النّصّ الأصليّ، ويتدخّل فيه السّارد ليقطع حبل السّرد، ويفكّر بصوت مرتفع، مسترحما المسرود له أن يعينه على حلّ المشكلة أو مقترحا عليه حلاّ يستفتيه فيه .
وقد لا ينتظر السّارد من المسرود له أن يبدي رأيا في ما يقدّمه له، بل يبادر هو نفسه إلى تقويم ما بدر منه: ” إلى حدّ الآن تبدو الأمور عاديّة جدّا “ . وهذا التّقويم الذي تمارسه الحكاية لذاتها قد يتمّ مبكّرا أي عندما يفرغ السّارد من عرضه الوضع الأصل أو الوضعيّة البدئيّة، وهو الوضع الذي تكون فيه الحكاية في استقرارها الأوّليّ الذي، إذا ما تواصل، لم يكن للحكاية مبرّر وجود، ولا إمكان وجود. ولذلك تعمل الحكاية على التّنبيه إلى مفاصلها في حكاية واصفة، غايتها منها التّنبيه ولفت الاهتمام.
وبهذا تنهض الأقصوصة بالدّور نفسِه الذي تنهض به الرّواية، عندما ترد الحكاية الواصفة فيها لتحفز همّة المسرود له إلى القراءة الإيجابيّة. فهي بجعل الحكاية تدور حول نفسها لا تتقدّم، وبفرض الشّخصيّة فيها وجهة نظرها وتقديمها روايتها الخاصّة للأحداث، وباستدعائها المسرود له إلى تقديم تصوّره الخاصّ للحلّ، تُطاول الرّواية بنيةً ومقصداً. وهي، إذ تفعل ذلك، تنخرط في التّطريس تضافرا ووصفا نصّـيّـين، ولعلّها، إذ تعمد إلى التّصدير سواء في المجموعات أو في الأقاصيص، تؤكّد انخراطها فيه، من جانب النّصّيّة الموازية Paratextualité.

3 – في التّصديـر باعتباره نـصّـيّة موازية
يطرح التّصدير في مدوّنة درغوثي الأقصوصيّة كثيرا من الأسئلة تتّصل بموقع التّصدير وصاحبه ووظيفته ومقصده. ولعلّ الاصطلاح على العبارة التّوجيهيّة بالتّصدير، يقتضي أن يكون موقعها في صدر الكتاب إذ تلخّص فكرة الكتاب أو الكاتب؛ لكنّ استعمال درغوثي التّصدير في درج الكتاب افتتاحا لبعض الأقاصيص يجعل أمر هذا التّصدير مُلبِسا. وإذا نسب الكلام في الأقاصيص إلى السّردة الذين يختفي وراءهم الكاتب، فإنّ نسبة التّصدير لا يمكن أن تتمّ إلاّ إلى الكاتب ذاته، وهو الذي يسمّيه جينات المصدِّر ، على ” أساس المبدإ السّرديّ الذي يقضي في التّخييل، طبعا، بألاّ يُنسَب إلى الكاتب ما يستحيل، مادّيّا، نسبته إلى السّارد، وعلى اعتبار ما يُقبَل عادة من عودة كلّ شيء إلى الكاتب لأنّه هو أيضا كاتبُ السّارد “ .
غير أنّ هذا الحسم لا يجد في الخبز المرّ تحقيقا نظرا إلى أنّ ما بين التّصدير وعنوان المجموعة، عنوانا هو " مقدّمة ". أيعني ذاك المصدَّر به أنّه من اختيار المقدِّم الحسين بن إبراهيم عمارة أم هو إبراهيم درغوثي ؟ قد لا تطول بالمصدَّر له الحيرة إذ سرعان ما يتأكّد أنّ موقِع التّصدير في محلّه، وأنّ مصدِّره هو المقدِّم؛ لكنّ اللّبس الذي حفّ بالمصدِّر خالط المصدَّر به نفسَه. فهل يعني الشّاهد المضمَّن أنّ الأمور إذا بلغت أقصاها انقلبت إلى ضدّها ؟ يبدو أنّ الأمر ليس كذلك لأنّه- حسبما يبدو- موكول بالاستطاعة التي تقابلها الاستحالة. ولعلّ البناء الحجاجيّ الوارد عليه هذا المصدَّر به أن يجعل أمره ملغِزا إن لم يكن مغلوطا، نظرا إلى تقابل المقدّمة مع ما يليها من نتائج . فإلام يرمي المصدِّر إذاً من إيراده المصدَّر به مادام المحتوى ملغزا مغلوطا ؟ أليست وظيفة هذا المصدَّر به مجرّد إيهام بالتّصدير، إذ في استدعاء أراغون Aragon (1897-1982) ذاتِه بما ينطوي عليه من حبّ لإلزا Elsaمن ناحية، ومن استدعاء لقَصَص العشّاق العرب من ناحية أخرى إيحاءٌ بما عسى أن تكون عليه الأقاصيص من تضافر نصّيّ لا مع النّصوص الغربيّة فقط بل مع النّصوص التّراثيّة، وبالذّات مع الحكاية. ولعلّ استدعاء المصدِّر النّفّري في " رجل محترم جدّا" ليقول في المواقـف والمخاطبــات: ” ...كلّما اتّسعت الرّؤية...ضاقت العبارة...“ أن يوفِّر للمصدَّر به موقعا مناسبا هو مفتتح الكتاب، وغايةً هي إيحاءٌ بالاعتذار عن العجز عن تبليغ تصوّر أمثل للفكرة المبغيّ إيصالها، مادامت للسّردة، في ما يلحق من أقاصيص، رؤية للعالم أكثر سعة. فالوهم الذي كان يراود الواقعيّين الوصفيّين من وضوح للعالم، ومن ثمّ للخطاب يشفّ عن المرجع الموضوع حتى يكاد يكون لاغيا، قد جاءت أقاصيص درغوثي لتبدّده، إذ لم يعد بوسع الخطاب إلاّ أن يعتِم بسبب الوعي الحادّ بما عليه العالم من لامعقول. وقد جاء التّصدير الواردُ في فاتحة " لمن تقرع الأجراس ؟ " من باب خلق الجان وقصّة الشّيطان من البداية والنّهاية لابن كثير ليتصادى مع الأقصوصة التي تليه، وقد أغرقت في عالم فانتاستيكيّ مروّع، ولعلّ عدم اكتفاء درغوثي المصدِّر بنصّ أوّل في فاتحة الكتاب أن يحمل المصدَّر له على تبيّن دلالة ذلك. ويبدو أنّ لهذا المصدَّر به وقد ضمِّن الأقصوصة أوّلا والكتاب ثانيا، علاقة بالمتن تنبيهيّة بدءا، استشهاديّة منتهى؛ خصوصا أنّها سرديّة لها بالجنّ والشّياطين صلةُ قربى. وقد جاء هذا الاستثناء الذي اتخذه موقع المصدَّر به، ليعزّزه الجنس الأدبيّ الذي إليه ينتمي، وصنف القول الذي منه ينطلق. وعند المقارنة بينه وبين سائر التّصديرات الأخرى، نلحظ هيمنة الشّعر وطغيانه؛ الأوّل لأراغون والثّاني للنفّري، والثّالث- كما في كأسك يا مطر- لبدر شاكر السيّاب من قصيدته أنشودة المطر. ولعلّ تغليب الشّعر على السّرد في التّصدير أن تكون له وظيفة أساسيّة هي الإيحاء بـنـزعة المصدِّر في الأقاصيص إلى مراودة الشّعر والكشف لا عن رغبة فيه فقط، بل عن قدرة في منافسته وبزّه. ولعلّ ما ران على المقطوعة المقتطفة من " أنشودة المطر "، من ألم عبّر عنه الاستفهام والتّشبيه المردَّدان، ومن ديمومة عبّر عنها تقديم الخبر على المبتدإ وضمير الشّأن ( هو المطر !) أن يكون إشعارا بما ستتوفّر عليه الأقاصيص التّالية من مرارة وغبن وحرمان سمتها جميعا الدّوام والاستمرار.وقد جاء التّصدير التّالي لأقصوصة كأسك يا مطر ليؤكّد هذا الشّعور بالغبن الذي لا تبدو في الأفق أيّ بارقة أمل لتبدّده . وأن يُردَف المصدَّر به الفصيح بمصدَّر به عامّيّ هو أهزوجة شعبيّة توكيد لهذا الميل إلى الشّعر يختزن التّجربة ويعبّر عنها في إيجاز، وتأتي الأقصوصة الأولى وما بعدها لتطاوله.
وبهذا، ينهض التّصدير، يستحضره المصدِّر إبّان الكتابة لمصدَّرٍ له خالي الذّهن بدور التّنبيه إلى ما عسى أن يرد في المتن الأقصوصيّ، وإلى ما يمكن أن تكون عليه ميول هذا المصدِّر الذي لا يصدر عن عفويّة أو اعتباط بل عن سبق إصرار. فاختياره نصوصا بعينها وأعلاما بأعيانهم لا يمكن إلاّ أن يكون تمهيدا لتطريس تعيد فيه الأقصوصة كتابة نصوص سبقت. فكيف مارست نصوص درغوثي الأقصوصيّة النّاسخة هذا التّطريس على النّصوص المصادر عُرِف أصحابُها أو ظلّوا مجهولين !

4 – النّـصّـيّـة النّـاسخـة
إذا كان التّطريس أدبا من الدّرجة الثّانية كما عبّر عنه جينات، وضبط له أسسه واصطلاحاته المتعدّدة، فقد بات يقينا أنّ إعادة الكتابة لا تقطع صلتها بالكتابة الأصل، لأنّها، حتّى إن فعلت، لا يمكنها أن تخرج من إحدى علاقات ثلاث، علاقة التّماثل، وهذه لا يسعها فيها أن تنكر صلتها بسابقتها، وعلاقة التّضادّ، وهذه أيضا تشعِر فيها الكتابة من الدّرجة الثّانية بالكتابة من الدّرجة الأولى، وعلاقة وجود بعدم، وهذه، إن بدت منتفية الصّلة بما سبقها، فلا يمكنها أن تكون خالصة من أيّ تأثير سابق مهما يكن كمّه وتعدّد مصادره وتباينُ صيغه. كلّ ذلك يجعل التّطريس إمّا عاقدا صلةً ما بنصوص مصادر يختار منها علامات بأعيانها، أو يعارضها كاملةً فيحاكيها ساخرا أو يحرّفها هزليّا. وهذا تقريبا ما فعله درغوثي في مدوّنته الأقصوصيّة. فهو بعد أن حسم أمر البنية، فجعل من الحكاية والحكاية المثليّة أقصوصة تخضع لخاتمة الأقصوصة أو قفلتها، عمل على أن يملأ هذه البنية بما ينسجم وتجذيرَها في تربتها. فكانت الأقصوصة الحديثة موْلِداً راسخة القدم في تراثها السّرديّ والشّعريّ على حدّ سواء. وقد استعمل درغوثي لذلك طرائق واضحة هي التّضمين والإشارة والتّكرار والتّصادي. ولهذه الطّرائق حضور في المدوّنة الأقصوصيّة يمكن استقاؤها من هذه المجموعة أو من تلك.

4 .1 :آثار النّصوص الغائبة في النّصوص الحاضرة
4 .1. 1 : التّضمين
التّضمين- كما في كشّاف اصطلاحات الفنون- حصول معنى في لفظ من غير ذكر له باسم هو عبارة عنه، وهو من أنواع الإيجاز؛ وهو أيضا إدراج [بعضهم] كلام غيره في كلامه لقصد تأكيد المعنى أو تركيب النّظم، وهذا هو النّوع البديعيّ . ويعتبر التّضمين هذا من التّناصّ العلنيّ لأنّ الملفوظ الوارد في النصّ النّاسخ له أثر في النّصّ المصدر. وقد عمد السّارد/ الشّخصيّة في " كأسك يا مطر " إلى استدعاء آيٍ من القرآن يقتبسها ويسوقها في خطابه؛ لكنّ أذن المسرود له لا يمكن أن تخطئها. والأنا السّاردة، إذ تمنح الأنا المسرودة إمكان التّعبير بالطّريقة التي تحلو لها تفرض نوعا من التّغريب في التّحكّم في لغة الشّخصيّات الخاصّة: ” كانت البنات كواعب أتراب “( هكذا !) . وتتعدّد مثل هذه الاقتباسات من القرآن كما في " حجارة من سجّيل " و” بدرا كالعرجون القديم“ . غير أنّ تضمين القرآن قد لا يتّخذ دوما صيغة النّقل الحرفيّ أو المحوّر نسبيّا، بل قد يُكتفَى فيه بالنّغم وحسب؛ من ذلك اقتباس ما في القرآن من تسجيع، وملؤه بمحتوى آخر. فعلى إيقاع ”وهديناه النّجدين “ يرد الكلام كالتّالي: ” ثمّ صوّرتُ لـه العينين والأنف والأذنين والشَّعر والشّفتين “ . وأن يرد مثل هذا التّعبير على لسان الأنا السّاردة، فللإشعار بأنّ وراءه كاتبا واقعيّا قد حفظ القرآن وبآياته تشبّع، وعلى ترتيله أدمن، حتى أصبح كلامه نوعا من التّرديد الآليّ للإيقاع الذي سبق له أن استوعب .
وللتّضمين شكلٌ آخر عرف منذ القديم، وهو إعادة إنتاج الرّواسم clichés)) بما هي عبارات جاهزة سارت مسار المثل أو العبارة المألوفة. ويستقي سارد " النخل يموت واقفا " روسمه من العبارة الشّعبيّة المألوفة التي بها تختم الخرافات في العادة: ” عاشوا في ثبات ونبات، وأنجبت له البنين والبنات...“ أو من الشعر الذي صادف من أنفس المتقبّلين هوى، فلم يزده تقادم العهد إلاّ تعتيقا، وتيسيرا لحفظه وروايته شأن بيت أبي العتاهية في مدح الرّشيد، يعيد سارد " وقائع من أوجاع امرئ القيس" إنتاجه بإدراجه في خطابه ” الملك الذي أتته الخلافة منقادة إليه تجرجر أذيالها “ . وقد تأتي هذه الرواسم بدفق لا يقدر سارد " الليلة الثّانية بعد الألف " من الخبز المـرّ على كبحه، إذ بمجرّد أن تبدأ اللفظة الأولى تتتالى الألفاظ الموالية نسقيّا، لتستحضر إلى ذهن المتقبّل، ما كان هو نفسُه قد حفظه، أو على الأقلّ، قد رآه في نصّ آخر من نصوص درغوثي: ” الملك " شهريار " الذي:
أتته الخلافة منقادة * إليه تجرجر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له * ولم يكن يصلح إلا لها “ .
ومثل هذا الرّوسم يوجد في هذا النّصّ وفي ذاك يشي بأنّ الكاتب الرّابـض وراء سردتـه لا يستطيع أن يكبح جماح نفسه عندما ترد رواسم من هذا القبيل لتطفو على سطح الذّاكرة بعد أن تكون قد ترسّبت فيها طويلا. وقد لا تكون هذه الرّواسم، وجوبا، مما تداولته الأقلام، بل قد تكون ابتداعا من سارد إحدى الأقاصيص يعيد آخر إنتاجها شأن وصف المرأة بأنّها ” أشهى من عسل النّحل “ ، أو نسبتها إلى ” الحور العين “ ، أو إلصاق صفة الرّصاص بحرارة الشّمس وصهدها .
وقد يتحيّن السّارد الفرصة- في إطار التّضمين – إلى الإعلان عن أسماء أعلام تحضره إبّان لحظة الكتابة، بها يستنهض همّة المتقبّل ليستدعيها هو بدوره شأنَه مع ” بايات تونس “ و ” زبيدة بنت المهدي “. واستدعاء هذين الاسمين كافٍ للدلالة على ما في المتخيّل الجمعي من تقدير لثروات البايات والعبّاسيّين يفوق التّصوّر .
ولعلّ استحضار المقول الشّفويّ لا يقلّ هو أيضا تأثيرا في المتقبّل، عندما يريد سارد الخبز المرّ أن يحرّك ذاكرة المسرود له القصيرة بملفوظات كان لها في المرجع يوما ما مفعول النّار في الهشيم لما كانت تنطوي عليه من استفزاز صارخ .
وبهذا، ينهض التّضمين، مقدّسا ودنيويّا، شعبيّا وعالِما، مكتوبا ومشفوها، بدور رئيس في منح الأقصوصة سمتها الرئيسة، الاكتناز والتّكثيف. فبدل تقليب الأقصوصيّ الفكرة على جوانب عديدة، تأتي الشّواهد المضمّنة لتحقّق الغاية في أقلّ ما يمكن من اللّفظ. وينهض بدور ثانٍ، لا يقلّ عن الأوّل أهمّيّة، وهو ذاك المتمثّل في تقدير المتقبّل واعتباره أهلا لأن يُحكى له مادام سريع البديهة، متّقد الذّهن. وهذا التّقدير هو الذي يجعل السّردة يحيلون المسرود لهم على نصوص لا يتوقّعون منهم، بوصفهم قرّاءً مفترضين أو قرّاءً واقعيّين إلاّ أنّهم قد اطلعوا عليها بعد.

4 .1 .2 :الإشارة
يسترعي تصريح السّارد أحيانا بنصوصه المصادر، في إطار نصّه النـاسخ انتباه المسـرود لـه. " فالجريمة والعقاب " التي يعود إلى السّارد نحت عنوانها، وإلى الكاتب الواقعيّ تخيّلها ووضعها من المجموعة الأقصوصيّة موضعها، لا يمكن ألاّ تنبّه المتقبّل إلى الجريمة والعقاب(1865-1869) لدوستويفسكي(1821-1881). واقتباس عنوان الرّواية الشّهيرة لإطلاقه على أقصوصة موجزة موضوعها غير الموضوع الذي قامت عليه الرواية إن هو إلاّ محاكاة ساخرة، شبيهـة بـ لـمن تقرع الأجراس (1940) لإرنست همنغواي ( 1899-1961 ). واستدعاء هذين العنوانين لهذين الأثرين الأدبيّين الشّهيرين يتمّ دون تبجّح من السّاردين، ودون تذكير بصاحبيهما، وإنّما المدعوّ إلى استحضار هذين المبدعين هو المسرود له أو القارئ المفترض والفعليّ في آن معا. غير أنّ أمر هذين الأثرين قد يكون يسيرا حلّ شفرته، لكنّ آثارا أخرى يستوحيها السّردة دون أن يكشفوا عن أصحابها، حلّ شفرتها أعقد. ولذلك يتراوح التّطريس، في هذا المجال، بين الإعلان وعدم الإعلان. فأقصوصة " السّيف والجلاّد " لا شيء يشي بتأثّرها برواية ما، لكنّ قراءتها المتأنّية، وما يمكن أن يتوفّر عليه قارئها من معرفة بنصوص أخرى هما اللذان يعوّل عليهما السّارد. فلا يسع قارئ هذه الأقصوصة إلاّ أن يرى قرابة ما بينها وبين التّبيان في وقائع الغربة والأشجان لفرج الحوار من ناحية، وبين نجمة أغسطس لصنع الله إبراهيم من ناحية أخرى، الأولى في موضوعها الدّائر على الغربة في بلد الثّراء وقطع الرّؤوس، والثّانية في بنائها المزدوج بين التحقيق البارد عن أشغال السّدّ العالي، والتّذكّر الحميم لأيّام المعتقل والتّحقيق. أمّا مـا ورد في " أعشاش الحمام البرّيّ " في رجل محترم جدًّا من ملفوظات يكرّر بعضها بعضا، فلا يمكنه إلاّ أن يثير في ذاكرة المسرود له/ القارئ المفترض، سؤال الموقع الذي منه جلبت ومعه تناصّت. ولا سبيل إلى ألاّ يحضر إلى الذّهن فتح حفّة في الدقلة في عراجينها باب مخزنه. وإذا كان المخزن في النّصّ المصدر يحوي مؤونة فالبيت القديم في النّصّ النّاسخ يحوي أشياء لها بالذّكريات وشيج العلائق. وصنيع السّارد مع هذه النّصوص صنيعه مع الشّمس في يوم غائم لحنّا مينة تخرج فيها المرأة من الصّورة كلّما بلغ الرّقص ودقّ الأرجل على الأرض حدّ الجذل . وأن تبدو مجموعة رجل محترم جدّاً متوفّرة على هذا الكمّ الكبير من النّصوص المعلنة والمهمتة لا يعني أنّ غيرها من المجموعات لا يتوفّر عليه، وإنّما هي العلاقة الضّروريّة بين البثّ والتّقبّل تفرض مثل هذا الأمر. فقد تمرّ نصوص غير معلَن عنها في أقصوصة ما لدرغوثي لا ينتبه إليها المسرود له، ولكنّها، رغم ذلك، على علاقة وشيجة بالنّصوص المصادر وليست النّصوص وجوباً تلك المكتوبة، بل هي مجموع العناصر الثّقافيّة الرّاسبة في ذهن الباثّ لحظة التّلفّظ. ويكفي أن تتعجّب الأنا السّاردة في الخبز المرّ قائلة: ” يا للبقر المحظوظ قلنا، صار يأكل البسكويت !“ حتّى تحضر إلى ذهن القارئ قصّة الملكة ماري أنطوانيت (1755-1793 ) مع الجماهير الغاضبة وهي تنظر إليهم من شبّاك قصرها. ولمّا استفسرت عن سبب غلَيانهم قيل لها إنهم لم يجدوا الخبز، فقالت: ليأكلوا البسكويت ! ومثل هذا الإيحاء الذي حقّقت به الأقصوصة ذاتَها جنسا أدبيّا مختزلا يتناسب والتّطريس إذ يثير، بمجرّد التّفطّن إليه، في ذهن المتقبّل نصوصا أخرى سبقت. ويظلّ هذا التّطريس- بما هو كتابة من الدّرجة الثّانية- صحيحا نظريّا، محتاجا إلى من يكشفه، وينبّه إليه .ولعلّ هذا هو ما حدا بالنّقّاد الماركسيّين إلى القول بأنّ للأثر الأدبيّ دلالتين قريبة وبعيدة، القريبة هي التي يلتقطها المتقبّل المباشر، والبعيدة هي الكامنة في النّصّ حتّى يأتي الوقت الذي فيه تنكشف . وعلى هذا الشكل يمكن قياس التّطريس إذ عنده يتبيّن الفرق بين قارئ مطّلع، وآخر قليل الاطلاع، وبين قارئ نبيه وآخر لامبال.

4 .1. 3: التكرار
يتقاطع التّطريس، الذي هو إعادة كتابة، مع مفهوم الواقعيّة النّصّيّة، كما بلورها فيليب هامون عندما جعل التّكرار والحشو من أشكالها. وليس التّكرار والحشو بالضّرورة داخل الأثر الواحد، وإنّما قد يكون بين أثر وآخر. ولذلك ما تعتبره جوليا كريستيفا Julia Kristiva تضافرا نصّيّا، وما يعتبره جينات تطريسا، إن هما إلاّ شكل من أشكال الواقعيّة النّصّيّة التي هي إعادة إنتاج ملفوظ لملفوظ آخر سبق له هو أن قاله أو سبق لغيره أن قاله. وممّا تلجأ إليه أقاصيص درغوثي في إطار التّضمين الذي يضرب بسهم في التّطريس والواقعيّة النصيّة معا التكرار. ويعقَد هذا التكرار في الأقاصيص للّازمة يعاد ترديدها مرّتين كما في " اللّيلة الثّانية بعد الألف " أو ستّا كما في " من يبيـعني قليـلا من النــّوم ؟ " . كما يُعقَد للمَشاهد تعاد بحذافيرها في " يوم من الجحيم " .
إنّ هذا التكرار لا يمكن أن يكون له الدّلالة نفسُها في عرضه الأوّل، وفي عرضه الثّاني أو الثّالث أو السّادس. فلكلّ عرض جديد دلالة ما يبغي السّارد إيصالها. وهذا التّواتر المكرّر كما في " من يبيعني قليلا من النوم؟ " والتّواتر المفرد المكرّر كما في " يوم من الجحيم " إعادة إنتاج لدلالة أولى ولكن بتوكيد أكثر لا يمكن للتّواتر المفرد أن يحقّقها. فالأنا المسرودة، وهي تندب حظّها لدى استنطاقها في مخفر الشّرطة، لا يمكن إلا أن تجد، أنا ساردة، في التكرار في الخطاب، سلوى، وكذا أمر السّارد يلحظ المشهد أوّلا مثلما يلحظه الحرس، ويلحظه ثانيا عندما يندب حظّ هؤلاء الثّلاثة الذين نفقوا كالدواب في الصحراء زيادة على ما يضيفه المشهد المكرّر من إيضاح للمشهد الأوّل. كلّ ذلك قد يتنافى وقصر الأقصوصة وكثافتها، لكنّ ما في التّكرار من إيحاء قد يستعيض به السّارد عن هذه الإطالة المتأتّيّة من التكرار ذاته، خصوصا إذا عرفنا أنّ من خصائص الشّعر التّرديد واللاّزمة ترد من حين إلى آخر لتعطي للقصيدة إيقاعها الخاصّ. والأقصوصة، إذ تعمد إلى ذلك، تبرهن على مطاولتها الشّعر ولو بمعارضته.

4 .1 .4: التّصادي
يمثّل التّصادي لونا من ألوان التّكرار، لكنّه التّكرار الذي لا يتّخذ سمة إعادة الكتابة وإنّما هو الموضوع الذي يرد في هذا الأثر لدرغوثي، وفي ذاك أقصوصيّا كان أو روائيّا. ولعلّ أبرز ما يلفت الانتباه من أشكال هذا التّصادي بنى الأقاصيص ذات الأقسام. فقد وردت في كأسك يا مطر ورودها في النخل يموت واقفا وفي رجل محترم جدّا. ويعتبَر هذا الشّكل من البناء إعادة إنتاج لما في هذه المجموعة في تلك. فالنّسق الخِطابيّ هو هو . وقد لا يلفت الانتباه حصول هذه العمليّة مرّة في المدوّنة الأقصوصيّة، وإن كان ذلك أمرا غير مؤكّد، لكنّ تكرار وروده بذاك النّسق يجعل الاهتمام به مؤكّدا. وهو إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ- كما سبق أن بيّنّا في سياق البنية- على رغبة في مطاولة الرّواية والسّعي إلى النّسج على منوالها.
وقد يتخذ هذا التّصادي شكل الإيحاء بأثر ما للأقصوصيّ سيظهر أو ربّما ظهر. فإنهـــاء " الجريمة والعقاب " بقول السّارد ” وانشقّت الأرض. وزلزلت زلزالها. وقامت القيامة...“ لعلّه إيحاء بظهور القيامة...الآن. وإغراق درغوثي في نصوصه الرّوائيّة في الحديث عن التّعذيب وإهانة الكرامة البشريّة، نجد له صدى في الأقاصيص أيضا؛ من ذلك ما ورد في " حادث مرور " من وصف لمشهد التّعذيب الجسديّ واللّفظيّ في مخافر الشّرطة. وأن تتكرّر مثل هذه المشاهد بين نصّ لدرغوثي وآخر علامةٌ على حضور الكاتب الواقعيّ وراء سردته أكانوا في الأقصوصة أم في الرّواية. أفيعني هذا إعادة الاعتبار للكاتب في وقت يبشّر به القائلون بالتّضافر النّصّيّ بموته، ولا يعيرون أهمّيّة إلاّ للنّصوص وتداخلها؟ إنّ في تعامل النّصّ السّرديّ عموما مع الخطابات السّابقة إقراراً بمثل هذا التّصادي بين النّصوص الذّاتيّة والنّصوص المغايرة، إذ خطابه يقوم على التّنافر أصلا، لكنّ الأقصوصة تتميّز من هذا النّصّ بكونها تتعامل مع الخطابات السّابقة بتحايل تفرضه عليها إنشائيّتُها أصلا. فهي بدل الإغراق في التّفاصيل والشّواهد، تستدعي نصوصا مصادر يكون لها من الإيحاء بالفكرة ما لا يقدر عليه التّصريح بها. ويتمّ هذا الإيحاء بالرّوسم يضمَّن، أو بالقول الرّائج إعلاميّا تنشَّط به ذاكرة المتقبّل، أو بالمفردة يغلب معناها الإيحائيّ معناها التّصريحيّ. وبذلك تستفزّ الأقصوصة قارئها؛ فهي تكشف عن مصادرها ولا تكشف؛ وهي تغري وتتمنّع، إذ الإطناب في عرفها مستهجَنٌ، والغموض والتّعمية مكروهان.
وأصناف التّضافر النّصّيّ هذه، ما هي إلاّ نصوص ناسخةٌ قد تفاعلت بطريقة ما مع النّصوص المصادر التي منها انطلقت، وعلى أنقاضها أعادت الكتابة.

4 .2: أصناف التّناصّ
4 .2 .1: الاستعارة التمثيليّة
قليلة هي الأقاصيص التي تنضوي في مجموعات درغوثي، ضمن الاستعارة التّمثيليّة ( الأليغوريا). ومردّ ذلك إلى اعتبار الاستعارة التمثيليّة هذه من قبيل الأدب الذي ولّى عهده، لكنّ إصرار درغوثي على إقامة صلة بينه أقصوصيّا معاصرا وبين الأجناس الأدبية المنسوبة إلى التّراث يجعل احتفاء القارئ بها مضاعفا، لأنّ في ذلك أوّلا إحياءً لجنس أدبيّ قديم، ولأنّ هناك ثانيا إعادة صوغ لهذا الجنس الأدبيّ القديم ليخضع لمواصفات الأقصوصة، فيعبّر، من ثمّ، عن قابليّة الأجناس المستحدثة لصهر الأجناس الأدبيّة القديمة في صلبها. و" الاستعارة التمثيليّة- كما عرّفها فونتانييه Fontanier ، آخر البلاغيّين الفرنجة الكبار- تتمثّل في قضيّة ذات معنى مضاعف، معنى حرفيّ وآخر ذهنيّ في آن معا" . ويعارض هذا الحدَّ آخرُ ينسبه تودوروف إلى العصر الحديث دون أن يذكر صاحبه. فهو يرى أنّ الاستعارة التمثيليّة ” قضيّة ذات معنى مضاعف، ولكنّ معناها الحقيقيّ ( أو الحرفيّ ) قد امّحى بكامله“ . وإذ يجمع تودوروف بين الحدّين يلحّ على ضرورة أن يُعبَّر عن هذا المعنى المضاعف في الأثر تعبيرا علنيّا، لأنّه- حسبه – لا يتصل بالتأويل ( الاعتباطيّ أو غير الاعتباطيّ ) لقارئ ما . وعندما نستنطق مدوّنة درغوثي الأقصوصيّة نجد أنّه كثيرا ما يلجأ إلى الحيوان يتخذه عنوانا لأقاصيصه أو محتوى لها . و" الأرانب لا تبكي موتاها " بوصفها استعارة تمثيليّة تشي بأنّ الاستمرار لا يقتضي التفاتا إلى الوراء. فما جاء من الأرانب صغيرا، قد عوّض ما كان يوما ما جدودا. أمّــا " الكلاب "، فقد جاء المثل الذي سيعمل النّصّ على بلورته، متّصلا بذاك الكلام الوجيز على أحد ملوك حمير‎، وقد جاءت حكاية كلب الجار لتؤكّده. ولا يخفى ما يستعيده النّصّ النّاسخ من نص مصدر تراثيّ هو كليلة ودمنة، وإن كانت النيّة من وراء الأثرين مختلفة. فقد وردت الحكاية- بكاملها – مبنيّة بناء تناوب، إذ عندما تسكت حكاية الحميري تقوم حكاية الجار؛ وعندما تسكت هذه تقوم الأخرى. والمراوحة بين الحكايتين تدخلهما أوّلا في التّقليد السّرديّ التراثيّ، وتحقّقان للمعارضة ثانيا أن تكون استعارة تمثيليّة عيانيّة واضحة. وعندما ينبو النصّ عن الخضوع لخصائص الاستعارة التمثيليّة- كما هو الحال في القطط تسرق الأرانب ليلا – يتبيّن أنّ النصّ النّاسخ يبغي أن يقيم علاقة تخييب لأفق انتظار المسرود له. فالسّارد/ الكاتب، بدل أن يحقّق للمسرود له ما يبغيه من وراء العنوان الموحي بجنس النصّ الأدبيّ، يخرق هذا الانتظار ليحقّق به هامشا من الحرّيّة كبيرا إن إزاء المسرود له، وإن إزاء النصّ المصدر، أو إزاء الجنس الأدبيّ المرغوب في محاكاته. ولذلك تكلّم جينات على أنّ الكاتب المطرِّس مرمِّق bricoleur في المعنى الإيجابيّ الذي أعطاه إيّاه كلود ليفي شتــراوس: ” فَلِفَنِّ خلق الجديد من القديم فضل إنتاج أشياء أكثر تعقيدا وأكثر عذوبة من المنتجات " الموضوعة بقصد". فهناك تتراكم وظيفة جديدة وتتقاطع مع بنية قديمة. والتّنافر بين هذين العنصرين المتواجدين هو الذي يمنح المجمـوع طعمـه “ .

4 .2 .2: المعارضة
تُعتبَر المعارضة في الإنشائيّة محاكاة أجناسيّة. ولذلك تُستحضَر النصوص المصادر بوصفها منتمية إلى جنس أدبيّ بعينه عند النّسج على منوالها مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النصّ النّاسخ. فإذا تردّد كثيرا في مدوّنة درغوثي الأقصوصيّة لفظ الحكاية سواء في العناوين الأصليّة كـ"حكاية الصيّاد الذي مازال يبحث عن حوت يونس " أو في العناوين الفرعيّة كـ" أيّـام للفـرح...أيّـام للحزن ( الحكاية الأولى والثّانية والثّالثة ) فلأنّ لهذا اللّفظ في المدوّنة السّرديّة التّراثيّة حضورا كثيفا، ولأنّ النصّ النّاسخ يبغي أن يتنـزّل في سياق مواصلة خطّ ألف ليلة وليلة، وهو يحافظ دوما على طابعه الأجناسيّ المميّز. والسّعي إلى تثبيت هذا الانتماء يتّضح من خلال العديد من الأقاصيص للفت انتباه المسرود له إلى هذه الرّغبة في توثيق الصّلة بالتّراث الحكائيّ، ومن خلال إعادة إنتاج بعض الموضوعات التي تتوفّر عليها حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. فأولى " حكايات القلب الجريح " ليست سوى نسج على منوال حكاية العفريت الذي ينبعث ماردا من القمقم، وتقع بينه وبين منقذه محادثة؛ غير أنّ التحويل الذي يقتضيه الجوّ الفانتاستيكي الحديث يفترض تباينا مع الجوّ العجائبيّ الذي كان في الحكاية الأصل. وعندما يصرّ النّصّ النـّاسخ على أن يـواصل ما توقّفت عنـده الحكايات ليـملأ " ثغـرات " يوهم بأنّها موجودة، يضع نفسه في برزخ ما بين المعارضة والمحاكاة السّاخرة. وهذا ما فعله عندما جعل لحكاية السّندباد عنوانا فرعيّا هو السّفرة الثّامنة . وما هذه السّفرة الثّامنة إلاّ استكمال للسّفرات السّبع السّابقة. وقد لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل يزيد النصّ النّاسخ توكيدا لصلته بالنصّ المصدر ومعارضة له باستكمال اللّيالي الألف واللّيلة، باللّيلة الثّانية بعد الألف، أي بعد أن سكتت شهرزاد عن الكلام المباح. ولكنّ هذا الاستكمال سيتّخذ بُعدَ المحاكاة السّاخرة الصّرف التي سنعرض لها لاحقا. وإلى جانب الحكاية بما هي جنس أدبيّ تراثيّ يعارَض، ترد السِّير والتّراجم لتسهم، بدورها ، في إبداع نصّ ناسخ هو الأقصوصة. فـ" أحلام المدينة " قد نسجت على منوال كتب السّير والتّراجم، إذ أفردت لكلّ شخصيّة من شخصيّاتها الأربع سلطان والرّايس وبنّاني وسعيد الكحلاوي بابا ليجمَع بينها الباب الخامس والأخير. وفي الأبواب الأربعة يعرَّف بكلّ شخصيّة من الأربع على حدة، وفي الخامس يُضمّ بعضُها إلى بعض ليُرى إلام آل مصيرها جميعا . وإذا كان هناك فارق بين ما تعمِد إليه كتب السير والتراجم من تعريف بالشّخوص وما تعمِد إليه الأقصوصة من تعريف بالشّخصيّات فهو فرق ما بين الشّخص والشّخصيّة، الشّخص بما هو كائن حقيقيّ والشّخصيّة بما هي كائن من ورق؛ لكنّ أسلوب التّعريف بأولئك وهذه هو هو. وهو ما يرسّخ انتماء النصّ النّاسخ إلى المعارضة.
ومثلما يتجاوز نصّ درغوثي الأقصوصي النصوص المصادر التّراثيّة، يتجاوز النصَّ المحدث أيضا. فما فعله جمال الغيطاني في أثره الرّوائيّ الزيني بركات من إعادة إنتاج لكثير من الأجناس الأدبية التّراثيّة، جاء نصّ درغوثي الأقصوصي ليحاكيه فيستعمل الخبر والحديث والإعلام، ولعلّه يقصد الإعلان ( بالنون المعجمة ) والشهادات المرقّمة، إلى جانب التّقرير والاستدراك والملحوظة . ولم ترد هذه الأجناس الأدبيّة والخِطابيّة المختلفة معروضة مجرّد عرض، بل جاءت مستوفاة. وبهذا يأتي نصّ درغوثي الأقصوصيّ كتابة لا من الدّرجة الثّانية- كما يحلو لجينات أن يصف بها التّطريس – بل من الدّرجة الثّالثة. فما استعمله الغيطاني من إعادة إنتاج لأجناس سلفت أعاد درغوثي مجدّدا إنتاجها.
والقول بالمعارضة لا يمكن أن يكون معبِّرا في ذاته، لأنّ المعارضة- كما اتضح من خلال الإشارة إلى أكثر من أقصوصة سبقت نسبتها إليها – لا يمكن أن تصبّ إلاّ في المحاكاة السّاخرة أو في التّحريف الهزليّ. وحتّى جينات، عندما عرّف المعارضة، اكتفى بالقول إنّها نصٌّ محاكٍ، ثمّ ذهب إلى توزيعها على قطبيها الرّئيسين.

4 .2 .3: المحاكاة السّاخرة
تقتضي المحاكاة السّاخرة الحفاظ على الأسلوب وتغييرَ الموضوع. وهو ما يعني تصريفا للكلام على غير وجهه الأصليّ مادام الموضوع أو محتوى القول مغايرا، وهذا ما يزيده جينات إيضاحا بقوله:” يتمثّل شكل المحاكاة السّاخرة الأكثر دقّة، في استعادةٍ حرفيّةٍ لنصّ معروف قصد إكسابه دلالةً جديدةً، باللّعب على المفردات ما تسنّى الأمر واقتضت الضّرورة ذلك“ . وبالفعل، فقد جاءت بعض أقاصيص درغوثي لتنسخ نصوصا مصادر سواء كانت هذه النّصوص- كما يشترط جينات – معروفة أو كانت مراكز اهتمام في نصوص معروفــة فقط. فالأقصوصة المعنونـة بـ" صاحب الحمار " تستدعي إلى الذّهن الزّعيم الإباضيّ صاحب الحمار الذي خرج على الدّولة المركزيّة بالقيروان. ولكنّ عنونة هذه الأقصوصة بمثل هذا العنوان غايتُه اللعب على الاسم العلم، فهل الشّخصيّة الرئيسة هي صاحب الحمار بُعِث بعد ألف عام من موته أم هل هو شخصيّة تملك حمارا فقط؟ قد يبدو السؤال غريبا لأنّ ما سعت إليه الأقصوصة هو التماهي الكلّيّ بين الشخصيّتين اسما وهيأة وعرجا وركوبا لحمار كأنّه البغل. لكنّ عناصر كثيرة أخرى تمنع هذا التّماهي. فبندقيّة صاحب الحمار تركيّة، والجامع الذي زاره مرمّم، وجلده علّقه جنود الخليفة بعد أن حشوه تبنا، وشرابه كوكاكولا، ومحاميه يطلب التّخفيف عنه في الحكم. أين مخلد بن كيداد هذا من مخلد بن كيـداد ذاك ؟ البون بينهما بائن. وفي ذاك الاختلاف تكمن المحاكاة السّاخرة.
صحيح أنّ الاسم ظلّ هو هو، لكنّ الميّت الذي قضى منذ ألف عام وحُشِي جلده تبنا لا يمكن أن يُبعَث من جديد. وإذا بُعِث، فلغاية توكيد الاتفاق في الممارسة رغم مضيّ الأزمان وتغيّر الحدثان. فتهمة الرّجل ظلّت ملتصقة به رغم كونه عوقب من أجلها بعدُ شرّ عقاب. أمّا في أقصوصة " الخبز المر "، فخطاب المذيعيْن الاستفزازيّ نقل النصّ من الجدّ إلى الهزل، فإذا بالبقر أفضل حالا من البشر، هي تجد ما تأكل في حين يُمنَع البشر من الأكل. وإقامة العلاقة بين الطّرفين على تفاوت كبير يدفع المتقبِّل إلى حمل الأمور على محمل الهزل والسّخرية. ولعلّ اقتصاص النصّ النّاسخ من شهريار الذي قدّمته حكايات ألف ليلة وليلة إرهابيّا باطشا ينقل النصّ المصدر من الجدّ إلى الهزل. فانقلاب شهريار مهدَّداً بالقتل، مطلوبا منه الهروب عن طريق السّرداب، يجعله هُزأة. وتحويل الصّورة في النّصّ المصدر إلى ما عليه وضع شهريار في " اللّيلة الثّانية بعد الألف " يعني تعجّلا من النّصّ النّاسخ كي يقتصّ منه بسبب ما سفك من دماء. إلاّ أنّ شهريار النصّ المصدر غير شهريار النّصّ النّاسخ، ولكنّهما في الاستبداد- رغم ذلك – سيّان. وإذا كان شهريار الجديد يُخلَع، فلينتصب بدله شهريارٌ جديدٌ. وبهذا تحوّل الأقصوصة الموضوع من مجاله الأخلاقيّ إلى مجاله السّياسيّ. وهي لا تفعل ذلك فقط، بل تنتخب في النّصّ علامات لتضفي على نفسها، نصّا ناسخا، طابعا ساخرا؛ ولذلك فهي تعمِد إلى توكيد انقلاب القيم، فرئيس الحرس هو الذي يحيّي حارس مقصورة شهريار، لكنّ جنديّا يقدِم بورقة ويغادر المكان لا يحيّي حارس المقصورة هذا. وتميل إلى المغالطة التّاريخيّة المستفادة من وجود جبهة إنقاذ وطنيّة في مضادّة شهريار، وتفسح المجال للسارد كي يتدخّل موضّحا تعمّده المغالطة التّاريخيّة . أمّا في أقصوصة " حادث مرور "، فتنهض المحاكاة السّاخرة على العبث بالمفاهيم؛ من ذلك أنّها تعطي للخبر بوصفه جنسا سرديّا قديما دلالته المعاصرة، وهي المعلومة التي تفيد بها الصّحف أو الإذاعات عن حدث ما يقع، وتعطي للحديث، الذي هو جنسٌ سرديّ قديم أيضا، سمة الخبر ينبني على سند ومتن، وتتوقّف عند كلّ حلقة من سلسلة الإسناد لتعرّف وتتبسّط في التّعريف .
وهكذا يتّضح أنّ تحريف النصّ المصدر وتحويل صيغته هما اللّذان بهما تتحقق المحاكاة السّاخرة التي لا تظهر فقط على مستوى الجنس الأدبيّ، بل على مستوى العبارة يقع اللّعب عليها دون تغييرها. أمّا تغييرها فمن باب التّحريف الهزليّ.

4 .2 .3: التّـحريف الهزلي
يلتبس التّحريف الهزليّ بالمحاكاة السّاخرة، لذلك عمد جينات إلى إقامة خطّ تباين بينهما واضحا يتمثّل في أنّ المحاكاة السّاخرة تُبقي على الأسلوب وتغيّر الموضوع، وعلى عكسها يفعل التّحريف الهزليّ. وفي أقاصيص درغوثي يتمّ ذاك التّحريف من خلال العبث بالمسرود له؛ فهو يُقنَع بدءا بشيء ما ويمارس بعدئذ معه غيره؛ من ذلك أنّ أقصوصة كأسك يا مطر تبدأ بضمير الغائب، وسرعان ما تلتفت لتوجّه الخطاب إلى المخاطَب الجمع، وتعود بعدئذ إلى المتكلّم المفرد. ومع كلّ التفات تحوّلٌ في السّرد من حديث عن المطر يهطل إلى استدعاء المخاطبين إلى الإنصات لحكاية " ليلة المليار " إلى حديث الأنا السّاردة عن نفسها وقد استقبلت رجلا يحمل في يده كأس شاي أخضر . وهذا التّحوّل في الضّمير يعني تلاعبا بالمسرود له. فهو قد أقنِع بأنّ الخطاب يتمّ شفويّا، ولكنّه سرعان ما يكذَّب إذ يصبح الحديث عن النّقطة تُكوّر ؛ وأقنِع بأنّ المنادين منصتون وإذا به يتبيّن أنّهم قرّاءٌ. وأقنِع بأنّ الحكواتي هو الذي يروي، وإذا به يُفاجأ بأنّ الحكواتي ليس سوى السّارد. وهذه المراوحة بين الإقناع بالرأي وبنقيضه هي التي تخلق لدى المتقبّل إحساسا بالعبث تزيده الوعود بالتّبرّع من شرق البلاد إلى غربها، حدّة،ً و يزيده التفطّنُ إلى الأمر الذي لا يعدو أن يكون وهما مادامت جيوب المعتصم قد سرقها الأمريكان، خيبة ً. وتركيم العناصر المتباينة نوعا وزمانا ومكانا، في إطار واحدٍ لا يمكن أن يخلق لدى المتقبّل إلاّ شعورا بالهزل. ولعلّ في الجمع بين امرئ القيس وزكريّا تامر تارة، وبين صاحب الحمار وزكريّا تامر أخرى ميلا إلى الهزل الذي مردّه إلى كسر حدود الزّمن والخلط بينها. ويتّضح تهشيم الزّمن هذا من خلال التّضارب القائم بين ما كان من أدب رفيع هو " المعلّقة " بوقوفها على الأطلال وبين تفسير هذا الوقوف على أنّه يُقصَد به نُزل " البالم بيتش " . وتهوين سارد الأقصوصة الأدب الرفيع إلى مثل هذه الوضاعة هو التّحريف الهزليّ خالصا. وأن يكون امرؤ القيس ذاتُه هو الذي يكشف مغلقات معلّقته، فذاك أمضى في الهزل وأعمق ! ومثل هذا الإيهام بالتّغريب يمارسه السّارد إزاء شخصيّاته ومقولها من شأنه أن يُشعِر بأنّ ما يُقال طبيعيٌّ، إذ الحكم للشّخصيّات وحدها تتصرّف فيه. وشأن امرئ القيس في " كفن للأرواح الميّتة " شأن الشّهود في " حـادث مرور " تتقطّع أوصال الجملة لدى أوّلهم ، وتُختَزَل الشّهادة لدى ثانيهم، ويتعدّد القائمون بالشّهادة مع ثالثهم. وأن تُعطى فطّوم، ثالث الشّهود الفرصة كي تُفيض في الكلام وتنقل عن " عليّ بن عليّ " كلّ ما رواه لها، وهي بين يقظة ونوم، فذاك لإضفاء طابع الهزل على الشّهادة التي فيها تُسِفّ العبارة حتّى تكاد تفقد الشّهادة بما لها من إيحاء بالرّصانة والجدّ قيمتها، ناهيك أنّها تنقل عـن علي بن علي حـواره مع مستجوِبِيـه أو مستجوِبَيْه في القبر وإفحامه إيّاهم أو إيّاهما. وتركُّزُ الإشكال على بلوغ عليّ ، العدّ إلى حدود خمس المائة في وقت هو فيه غير قادر على أن يتجاوز السّبعين، يهوّن من المسألة حتّى الإسفاف.
وبهذا يتبيّن أنّ التّطريس الذي اتخذ في مدوّنة درغوثي الأقصوصيّة وجهين تفصيليّا وتجميعيّا قد وفّق في " التّضمين " إلى أن يحقّق بالكمّ القليل من الملفوظ الغاية، ويوفّر مكانة للمسرود له قيّمةً. وسعى عبر " الإشارة " إلى أن يحقّق ميزا بين المتقبّلين ذوي النباهة منهم وذوي المدارك المحدودة، ونجح بـ" التكرار " في أن يبرز الدّلالة بل التّدلال. وفضل " التّصادي " في هذا التّطريس يتمثّل في إثبات انتماء النّصوص النّاسخة إلى مبدع واحد بعينه. وقد جاءت الأجناس الأربعة التي اتخذها التّضافر النّصّيّ لتحقّق وظائف أساسية هي توفير هامش من الحرّيّة للمبدع كبير بـ"الاستعارة التمثيلـيّة " وبالتّنبيـه إلى أنّ " المعارضة " لا بدّ لها من أن تنفتح على أحد الجنسـيـن التاّلييـن، " المحاكاة السّاخرة " بما هي تحريف للنصّ المصدر ولعبٌ على مفرداته، و" التّحريف الهزليّ " بما هو عبثٌ بالأدب الرّفيع وتركيزٌ على النّادريّ. ويبدو أنّ هذه الأهداف التي تحقّقت للنّصوص النّاسخة، قد عزّزت علاقتها بالنّصوص المصادر بوصفها ملافيظ أعادت نسخها أو إنتاجها. والقول بنسخ نصوص نصوصا توكيدٌ لانتماء هذه النّصوص جميعِها إلى الواقعيّة المسمّاة نصّيّةً.

5: الواقعيّـة النصّيّـة
لا تخرج نصوص درغوثي الأقصوصيّة عن الواقعيّة بما هي اتجاه أدبيٌّ؛ ونعني بالواقعيّة لا نسخ الواقع كما ادّعت لنفسها هذا الفضلَ مدرسةُ القرن التّاسعَ عشرَ الواقعيّة، لأنّ ذلك من قبيل الوهم. فقد نظر الكثير من الإنشائيّين في ما كان يسمّيه أرسطو وبعده آورباخ Auerbach محاكاةً، وما اصطُلِح عليه في القرن التّاسع عشر بالواقعيّة ليبيّنوا زيف الادّعاء بنقل الواقع عبر اللّغة. ولذلك أعادوا صياغة السّؤال الذي طرحه أرسطو منذ القديم في إطار تقويمه الآثار الفنّيّة:” إلى أيّ مدى وفّق الأثر الفنّيّ في محاكاة الطّبيعة أو نقل الواقع ؟ “ بالسّؤال: ” إلى أيّ مدى وفّق الأثر الفنّيّ في إقناعنا بأنّه ينسخ الـواقع ؟ “ أي ” ما الذي يتوخّاه من طرائق للإقناع بأنّه ينسخ الواقع؟ “ . وقد انتبه الشّكلانيّون الرّوس إلى أنّ الأثر الأدبيّ لا يدّعي دوما نقله الواقع، يل قد يذهب إلى تبديد هذا الوهم بإقناع القارئ بأنّ ما يقرأ هو تخييـلٌ محض. ويسمـّون الصّـيغة الأولى " تحفيـزا " motivation والثانيـة " تجريدا " أو " تعرية " dénudation.
واعتمادا على هذه المبادئ أعدّ فيليب هامون نمطيّات تقوم على ثلاثة أصناف من الواقعيّة، أوّلها الواقعيّة " النّصّيّة "، وهي المتمثّلة في إعادة إنتاج ملفوظ ملفوظا آخر سبق له أن قاله هو نفسُه كالتّكرار وتحصيل الحاصل والتّرديد أو سبق لملفوظ لسانيّ آخر أن قاله كاللّغة الواصفة وإعادة النّسخ والمحاكاة السّاخرة والمعارضة . ويهمّنا هذا الصّنف من الواقعيّة بالذّات لا لتبيّن كيفيّة تشكّلها في مدوّنة درغوثي الأقصوصيّة، فقد تكفّل التّطريس بإيضاح ذلك، وإنّما لتوكيد أنّ النّصوص يتناسل بعضُها من بعض، سواءٌ كانت هذه النّصوص مشفوهة أو مكتوبـة، شعبيـّة أو عالِمـة، فصيحة أو عامّيّة. وتمييز الواقعيّة النّصّيّة هذه من التّضافر النّصّيّ قد لا يكون يسيرا نظرا إلى أنّ ما يصحّ على هذا يصحّ على تلك. ففي مـجال البنية، يُعتبـَر لجوء سارد " الكلاب " إلى الحاشية يشرح فيها مثلا، وسارد " كأسك يا مطر " يحيل فيها على نصّ مشفوه من قبيل الواقعيّة النّصّيّة المذكّرة بالمؤلّفات القديمة حيث المتون والحواشي والشّروح . لكن إذا صحّت تلك البنية في المؤلّفات الفكريّة أو التّعليميّة، فإنّ ورودها على ذاك الشّكل في النّصوص الإبداعيّة يحقّق لها الواقعيّة النصيّة والتطريس معا إذ تمثّل تلك العمليّة نوعا من المحاكاة السّاخرة المتجسّدة خرقا للمألوف الأجناسيّ. وتتأكّد هذه الواقعيّة النصّيّة عندما تتكرّر الملافيظ داخل النصّ الأقصوصيّ الواحد، وقد تعدّدت أجزاؤه، متماهيةً مع الرّواية ذات الفصول ، أو عندما تعيد صوغ عنوان شهير، به تستدعي إلى الذّاكرة العنوان القديم، وتستبعده في آنٍ معا. فالخبز المر عنوانا لإحدى المجموعات الأقصوصيّة قائم على عدول مردّه إلى وصف المنعوت بما لا ينسجم معه أصلا. فالبنية النّحوية سليمة، لكنّ البنية المعجميّة المنطقيّة مختلّة، إذ المرارة تكون مبدئيّا للمشروب، في حين يُخَصّ المأكول بغير تلك الصّفة. وتأتي أهمّيّة هذا العدول أوّلا من تناصّه مع عدول مشهور آخر، هو عنوانٌ لرواية محمد شكري الخبز الحافي. فالحفاء أصلا صفة للسيوف أو للسّكاكين حين تنبو وللأرجل حين يُنـزَع عنها الحذاء. أمّا وصف الخبز بالحفاء، فمن قبيل الشّعر. وتأتي الأهمّيّة ثانيا من تناصّ العدول مع عنوان لرواية حسن نصر خبز الأرض (1985 ) ومع عنوان لرواية محمد العروسي المطوي التوت المرّ حيث لا تخرج الصّيغة عن معناها التّصريحيّ غير الموحي، وحيث لا عدول.
وهكذا تؤكّد الواقعيّة النصيّة، شأنها شأن التّطريس، مدى متانة العلاقة بين النّصوص المتوالد بعضها من بعض، ومدى توكيدها البعد الواقعيّ الذي يخرجها عن المفهوم الهلاميّ لمحاكاة الواقع المعيش. ولعلّ الاصطلاح على هذا المفهوم بالذّات، بالواقعيّة الوصفيّة، أن يبدّد كثيرا من الخلط العالق به.

6: الواقعيّة الوصفيّة
يقدّم فيليب هامون، في نمطيّاته، هذا الاصطلاح للصّنف الثّالث من الواقعيّة ، بعد أن سمّى الثّاني واقعيّة رمزيّة، ليجيب عن السّؤال الذي اقترح به تقويم الطّرح الأرسطيّ القديم. وقد ضبط له في ما سمّاه كرّاس شروط معايير عرضها كما اتفق واستخلص منها ضوابط كثيرة . وقد لا يكون من المهمّ الوقوف عند هذه الواقعيّة الوصفيّة لولا اشتراكها مع الواقعيّة النصّيّة في الإيهام بالواقع، ومن ثمّ، في توكيد الصلة التي تربط النّصوص بعضها ببعض. وبالفعل، فإنّ الواقعيّة الوصفيّة التي تتخذ سمة الجرد تتقاطع مع الواقعيّة النّصّيّة المكرِّرة هذه العمليّة بين نصّ وآخر. ففي " رجل محترم جدّا "، تستعرض الأنا السّاردة مقاطع من كتاب الروض العاطر، ومن أبيات لعنترة والبوصيري، ومن مدائح للرّسول، ومن روائع للمتنبّي ؛ وهي، إذ تفعل ذلك، تضرب بسهم في الواقعيّة الوصفيّة توهم فيها بأنّ ما تذكره حقيقيّ مادامت المقتطفات مطروحةً لمن شاء أن يتثبّت منها، وبسهم آخر في الواقعيّة النّصّيّة مادامت المقتطفات نصوصا وقع تضمينها في النصّ النّاسخ، فأصبحت، وهي تحاذيه، جزءا منه لا يتجزّأ. وتزداد صلة هذه المقتطفات بالواقعيّة النصّيّة رسوخا عندما نجد لها صدى في المجموعة الأقصوصيّة نفسِها؛ من ذلك أنّ " لمن تقرع الأجراس ؟ " تتوفّر هي أيضا على جرد بمؤلّفات قديمة دينيّة ودنيويّة . وتمارس الواقعيّة الوصفيّة الممارسةَ نفسَها عندما تحيل على نظريّات أو على مفكّرين لهم بالتّاريخ صلة، فتحوِّل ما كان أصلا من قبيل الفعليّ factuel إلى التّخييليّ fictionnel ، ومن ثمّ هي تؤكّد الإيهام بواقعيّة ما تنقل فترتبط بالواقعيّة النّصّيّة أيّما ارتباط. وقد تكرّر صنيع درغوثي هذا مع حكاية الرّجل الذي تبرّع لضحايا الفيضانات بورقة نقديّة ذات خمسة دنانير .
ويتمّ هذا الرّبط بين التّخييليّ والفعليّ أيضا من خلال التّغنّي ببعض المقاطع من أغنية لنعمة مشهورة ، أو من قصيدة للشّابيّ هي إرادة الحياة يرفعها الشّباب شعارات، أو من خلال ذكر أسماء للاعبي كرة القدم المنتمين إلى فريق معروف يُكتَب اسمه بالبنط الغليظ وبحروف لاتينيّة . كلّ ذلك غايته البرهنة على أنّ النّصّ المكتوب إنّما يعكس واقعا معيشا، ومن ثمّ، يؤكّد تحفيزه على حدّ عبارة الشّكلانيّين الروس.
وتتخذ هذه الواقعيّة الوصفيّة سمة الخطاب الشّفّاف فتسعى ما أمكنها إلى تغييب ذات التّلفّظ حتّى لا يشوّش خطابُها مقروئيّة النّصّ. وبذلك، هي تعهد إلى بعض المكيّفات فيه بتعويض السّارد الغائب عمدا كأن تنكر المعرفة على السّارد لتلحقها بالشّخصيّة تتبحّر فيها كما يعنّ لها. وآية ذلك أن تنطق الشّخصيّة بما يبدو أنّه كلامها، وهو في الواقع كلام السّارد يقوّلها إيّاه شأنَه مع " العمّ أحمد التّابعي " يتكلّم داخل قبره فيقول: " أعرف أنّ التّبنّي في الإسلام وشريعته حرام " .
وتلتقي الواقعيّة الوصفيّة مع الواقعيّة النصّيّة في اللاّزمة تتّخذها سبيلَها إلى إثبات " بطولة " الشّخصيّة الرّئيسة. فاللاّزمة ” وأمشي...“ ، إذ تتردّد علاميّا في " رجل محترم جدّا "، تنتمي إلى الواقعيّة النصّيّة المتمثِّلة في تكرار ملفوظ سبق للنصّ نفسِه أن قاله؛ وهي، في محاكاتها لسيْر السّارد/ الشّخصيّة في المبغى، تعكس بتواترها، قيمة هذه الشّخصيّة البؤريّة. وإذ تلجأ الواقعيّة الوصفيّة إلى هذه الممارسة، تسعى إلى ” الإيهام بالواقع وإنشاء ميل في نفس المتقبِّل إلى التّصديق والاقتناع.. وإلغاء التّفكير من ذهنه أنّ السّرد تخييل بالأساس “ .
أيعني هذا أنّ تجلّيات التّطريس المختلفة هذه وقف على الأقصوصة أم هي مشتركة بين النّصوص السّرديّة جميعها بقطع النّظر عن الجنس الأدبيّ الذي إليه تنتمي؟
إنّ ما يلفت الانتباه في مثل هذه النّصوص النّاسخة أنّها تتعلّق بالنّصّ في جملته. فالاستعارة التّمثيليّة أو المعارضة أو المحاكاة السّاخرة أو التّحريف الهزليّ تستدعي النّصوص المصادر لتكوّن منها النصّ الأقصوصيّ المكتمل، في حين ترد هذه النّصوص المصادر في الرّواية مثلا، لتتعايش مع نصوص مصادر أخرى. فللرّواية- بحكم طبيعتها الهجينة- استعدادٌ لصهر مختلِف الخطابات واستيعابِ متباينِ الأجناس والفنون. والأقصوصة، متى ما تقاطع خطابُها مع خطابات أخرى سابقة، اضطرّت إلى الانتقاء؛ وهو ما يفرضه عليها طابعها الوجيز.
وما يلفت الانتباه أيضا أنّ الصّراع القائم دوما بين جنس وخطاب أدبيّين هو أوضح ما يكون في الأقصوصة. فالجنس الأدبيّ يسعى إلى تسييج الإبداع وفرض خضوعه للقوانين والقواعد المسطورة، في حين يعمل الخطابُ الأدبيّ على كسر الطّوق والتّحرّر من القيد. ولذلك تجد الأقصوصةُ نفسَها، وهي تتفاعل مع النّصوص السّابقة مضطرّةً إلى الحفاظ على اختزالها تحقيقا لوحدة الانطباع، فتعمل على أن تأخذ من النّصوص بمقدار وبكيفيّة لا يسيئان إليها. وهذا يتّضح في الخواتم والقفلات. فالمفاجأة الضّروريّة لإنهاء الأقصوصة نهايتها المأسويّة هي التي يحافَظ عليها في معظم الأقاصيص. وسواء تعدّدت الحكايات، كما هو الحال في أغلب أقاصيص كأسك يا مطر والخبز المرّ أو توزّعت إلى أقاصيص قصيرة كما في رجل محترم جدّا والنّخل يموت واقفا، فإنّ القفلة لا تعدم الإشعار بأنّ النّصّ أقصوصة. ولذلك، تكلّم رنيه إيتيانبل René Etiemble (1909- ) على الأقاصيص لا على الأقصوصة قائلا:” الأقصوصة حاضرة في كلّ مكان ولكنّها غير قابلة للإمساك بها؛ هي موجودة ولكن دون جوهر“ ؛ وذلك لاستعصائها عن الحدّ.



خاتمة
إنّ الحديث عن التّطريس في الأقصوصة بدا حديثا متشعّبا لأنّه لامس البنية ملامستَه للجنس الأقصوصيّ بما يتوفّر عليه من تكثيف وتأثير وشعريّة. وقد بدا هذا الجنس قابلا للـتشكّل المتعدّد، فهو متأبّ عن الانخراط في قالب أوحد، منفتح على الأجناس الأخرى حكاية وأمثولة ورواية، وعلى الشّعر بوصفه صنف قول يطاوله ليبزّه أحيانا. وقد سمحت هذه القابليّة للتشكّل المتباين للأقصوصة أن تنسخ نصوصا مصادر تفصيلا وتجميعا، فتقوى على أن تعارض وتحاكي ساخرة وتحرّف هزليّا، وأبرز ما سعت إليه أقصوصة درغوثي، وهي تتعامل مع النّصوص المصادر أو النّصوص من الدّرجة الأولى، ترسيخها ذاتها في الرّواية الشّفويّة، فكانت بذلك ضاربة بسهم في الحداثة وبآخر في التّراث. ولعلّ ما انتهى إليه عمر حفيّظ وهو يقوّم شعريّة السّرد في كأسك يا مطر من هذا الجمع بين النّصوص والأجناس مكتوبِها ومشفوهِها، أن يكون دليلا آخر على أنّ للكلام على التّطريس في الأقصوصة مشروعيّته .

- أحمد السماوي / كلية الآداب / صفاقس /تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى