محمد حيدار - القصة القصيرة وعصر السرعة..

هل ياتي يوم على الادب يراجع فيه ترتيب انواعه وفقا لمنطق العصر؟
فمن المفارقات العجيبة ان يفضل عصرنا الراهن ــ وهو عصر سرعة لامتناهية في كل شيء حتى في العلاقات الانسانية ــ نوعا ادبيا غير القصة القصيرة فيمنحه الصدارة و الريادة عوض القصة القصيرة التي ــ لامر ما وبدون سابق تدبير ــ تراجعت بشكل مذهل امام انواع ادبية اخرى على الرغم من ان تلك الانواع لاتتفق منطقيا ــ من حيث احجامها و الوقت الذي تستغرقه معالجتها وحتى قراءتها فضلا عن دراستها ــ مع روح هذا العصر الخفيفة القائمة على اللحظة الوامضة ..على اللفتة ..على شدة السرعة التي قد لاتخلو من تسرع و استعجال.. فهو زمن " الاكل الخفيف" و النوم الخفيف وحتى الصداقة الخفيفة ( قصيرة الامد ) مما يقتضي في الحقيقة نوعا ابداعيا كالقصة يقوم على خفة الرصد ولمس المشهد في غير توسع اي لمسا يكاد يكون رمزيا عابرا لايستغرق ذلك الزمان المتطاول الذي تتطلبه الرواية والقصيدة وغيرهما.
فلماذا رغم اهميتها هذه احتفظت القصة لاسيما في السنوات الماضية بموقع لايوازي موقع الرواية و القصيدة ؟ وما دام الجواب لاياتي من طبيعة او مساحة المقروئية العامة لانه لاتوجد مقروئية لكل الانواع الا في الحدود الضيقة المعروفة فيمكن النظر الى ما قد نسميه بالاهتمام الجامعي كسبب مباشر لهذه الظاهرة ونعني به الرسائل الجامعية سواء فيما قبل او بعد التدرج التي تهرب الى الرواية لسهولة معالجتها من حيث الموضوع الواحد و البناء الواحد والشخصيات التي يشملها نص واحد ..بالاضافة الى الزمن والمكان اللذين لايتعددان في الرواية الا بمقدار ذي روابط بالطبع وكل ذلك عكس القصة بل وعكس حتى ديوان الشعر لانهما عبارة عن فسيفيساء من النصوص الابداعية تختلف في الموضوع ولكل نص شخصياته على حدة ( بالنسبة للقصة ) وكذا تعدد اوجه الاختلاف في استخدام التقنيات التي نعثر عليها في المجموعة القصصية كمجموعة من عدة قصص وفي الديوان الشعري كديوان من عدة قصائد تستدعي كل واحدة منها وقفة او وقفات فضلا عن الروابط والقواسم المشتركة ان وجدت .
هذا التعدد في النصوص ( ضمن الاصدار الواحد ) هو الذي ادى الى اغفال امر القصة والهروب الجماعي نحو الرواية كتابة ودراسة وربما قراءة مع نسبية هذه الاخيرة طبعا .. فهل سياتي يوم يتدارك فيه عصر السرعة هذه الاعتباطية في الترتيب ويتجاوز فيه الخيارات الظرفية للدارسين ام ان ما يشبه الصدفة هو الذي يقرر حظوظ الانواع الادبية كما يقرر حظوظ البشر؟

تعليقات

أمل الكردفاني

سؤال مهم جداً ومن المهم أن يدخل ضمن اطار التفكير ، أرى أن هناك عوامل متداخلة لهذا الموقف من القصة القصيرة ، فبعضها سايكولوجي ، حيث هناك اعتقاد سائد لدى الناس بأن الحجم هو المعيار للمتانة والجدية ، سنشاهد ذلك على مستوى الأبحاث الخاصة بالدراسات العليا ، فكلما كان الحجم ضخما كلما نال هيبة أكبر وإن كان أعجفاً خمص المحتوى.من ناحية ثانية وهي أيضاً خليط نفسي وسيسولوجي معرفي ، فالانتلجنسيا عموماً تسعى إلى الاعتراف ، الثقافة تحولت لرتبة ملكية ، المثقفون عموماً يجدوا في الرواية إمكانية أكبر لاستخدام كل ملكاتهم الاستعراضية مستخدمين العديد من المناهج النقدية للرواية ، ورغم أن القصة القصيرة قد تكون أكثر قابلية لتطبيق هذه الناهج ، إلا أن سعي المثقف العربي خصوصاً هو تسليط الضوء على نفسه أكثر من تسليط الضوء على العمل الأدبي. يمكننا تلمس ذلك عبر الهروب المتواصل من خلال اللغة المقعرة ، والاختفاء خلف التهويمات الاصطلاحية ، هذا طبعاً بالاضافة إلى القلة الذكية من النقاد أو القلة من غير المنحازين سلباً أو ايجاباً ضد العمل الأدبي.
طبقة الانتلجنسيا هي الطبقة التي تثق فيها الطبقات الأخرى وهي التي تلعب دوراً هاماً في توجيه الوعي الجمعي نحو مقدسها الخاص ، وهذا يعني أن معيار هذه الطبقة (ابستمولوجياً) والذي يؤثر على موقف الجماعة يتمتع بالانتشار ، ويمكننا أن نعتبره هنا آيدولوجيا بحسب نظرية منهايم سوسيولوجيا المعرفة.
لكن إذا كانت كل تلك أسباباً خارجية عن القصة ، فلا يعني هذا تبرأة القصاصين من ضعف انتاجهم القصصي ، ففي الواقع القصة القصيرة أكثر صعوبة من الرواية ، فالرواية لديها مساحة موضوعية واسعة ، والقصة لا تتمتع بهذه الميزة. لذلك قد نجد روائياً جيداً ولكنه سيء كقاص. القصة القصيرة لا تتحمل كتابتها بالتقسيط ، لأنها تداعي مركز جداً وسريع جداً يتخذ من موقف ما نقطة زمنية للانطلاق والوصول ، والقصة تعتمد على التداعي الحر أكثر من الرواية التي قد تحتاج إلى الاستيثاق البحثي في كثير من الأحيان. والقصة لابد أن تحمل قدرتها على مفاجأة القارئ خلال فترة قصيرة في حين يمكن للرواية أن تختبئ خلف الغموض والنهايات المفتوحة....الخ
أعود وأقول أن سقف جودة القص لازال منخفضاً ، وهذا يحتاج إلى بحث عن السبب ، مما لا تسنح به هذه السانحة.
لك الشكر
 
أعلى