مقتطف ابراهيم درغوثي - شبابيك منتصف الليل - فصل من رواية

الفصل الأول

تنبيه
منعت الطبعة الأولى من هذه الرواية من التداول في تونس .
كما لم تتحصل دار النشر التونسية التي أنجزت الطبعة الثانية من هذه الرواية - منذ سنة 2004 - على صك ترويجها للعموم. وأنا، وعلى شاكلة التنبيه الذي يدمغ الأفلام الإباحية أنصح كل من يأنس في نفسه ميلا إلى العادات الحميدة والأخلاق الفاضلة ألا يتصفح هذه الرواية، لأنها حتما ستخدش حياءه .
لذا وجب التحذير .

( ناصح أمين لوجه رب العالمين )


فاتحة

فتحت شباكا يطل على قلبي .
فماذا رأيت ؟
....... ليلا .
وماذا رأيت ؟
....... ليلا .
وماذا رأيت ؟
..... رأيت ليلا أيضا .

******

أنجب جدي ثلاثة أولاد.
سمى الأول خليفة ،
وكناه بأبي الشامات .
وسمى الثاني خليفة ،
وكناه بأبي البركات .
وسمى الثالث خليفة ،
وكناه بأبي اللعنات .
رباهم ، فأحسن تربيتهم .
حفظوا القرآن الكريم في بيوت الله العامرة .
وتفقهوا في علوم الدنيا والدين .
ولم يترك لهم عنان أنفسهم، إلى أن شبوا، وصاروا يفرقون بين الحق والباطل، فأطلقهم في الأرض، وقال لهم : هي الدنيا أمامكم، فاختاروا من الطرق الأقرب إلى قلوبكم .
ولا تتحسروا على ما فات ...

*****
خليفة الأول .
خليفة الثاني .
خليفة الثالث .
ثلاثة وجوه في وجه واحد .
هو وجهي أنا .
وجهك أنت .
وجه رجل ما زلت لم أره بعد. ربما سأراه .
ربما لا .
ولكن الأكيد أن جزءا من وجه ذلك الغريب ،
سكنني .
متى كان ذلك ؟
لست أدري .
ربما البارحة .
أو ربما منذ الأزل ..


الكتاب الأول

خليفة الأول المكنى بأبي الشامات ينزع
عن نفسه ورق التوت. ويعرض سوأته
على قارعة الطريق أمام كل الناس .
ولا يخجل .


-1-


أحمر شفاه واثمد وقمصان حرير للكلبة

هل تعرفون كيف تساق الكلاب الشبقة إلى المشنقة وهي تستعد لممارسة الجنس ؟
هناك عدة طرق. ولكل طريقته الخاصة التي لا يتقنها غيره. أنا مثلا، لي طريقتي الخاصة التي برعت في إتقانها حتى صارت مضرب الأمثال. كنت أبدأ بإحضار أدوات الشنق: حبل من مسد، وسكين من صنع حداد القرية سميكة ومشحوذة من الحدين، وعصابة صوف. أكدس هذه الأدوات في مكان آمن، ثم أقوم بجولة لاختيار الشجرة التي سوف أشنق على غصن منها الكلب. بعدها أذهب لتحضير الحطب والقلة. ولا أنسى البهارات واثوم والبصل والفلفل الأسود .
وكلبتي التي تكون وقت السفاد زائغة النظرات، لا يقر لها قرار. وأنا أداعبها وألبسها قمصانا من الحرير الوردي. وأضع لها أحمر الشفاه. وأكحل لها عينيها بالاثمد. ولا أبخل عليها بما طاب ولذ من المأكل والمشرب .
ثم ألبس بذلة الجزار، وأذهب إلى الغابة مصحوبا بالكلبة المشدودة إلى يميني بحبل المسد المربوط في عنقها .
كانت إذا رأت الكلاب تترجاني بهريرها أن أطلق سراحها ولو لدقيقة واحدة. وكنت دائم الرفض، إلى أن أرى الموت في عينيها، فأطلقها. فتقفز إلى صدري، وتلحس وجهي، وتفر إلى الحرية. وأنا، وقد ملأتني الغيرة حد الانفجار، أخاف أن تهرب مني، وتفوت عني فرصة الانتقام .
والكلبة لا تدري ماذا تفعل بزينتها، ومن تختار؟ فتعود إلى جواري تطلب النجدة، فلا أبخل .
ناديتها، فجاءت تبصبص بذيلها، وتتمرغ تحت قدمي، ولعابها يسيل. مسحت على مؤخرتها، فتمططت، وعوت وكأن أللذة تخنقها. وعادت إلى العويل، فظهرت الكلاب، وخرجت من وراء الأشجار. كلاب كان عهدي بها شرسة. كلاب سوداء مرقطة بالأبيض، وحمراء في لون قرص الشمس الذابل. وبنية. وكلاب عربية من البادية القريبة من الواحات، ذات شعر أبيض ناصع كالثلج وكبيرة الحجم. وكلاب صغيرة ذات قوائم معقوفة وتافهة وكلاب هجينة من أم كلبة ركبها ابن آوى. وكلاب وجوهها مدورة وأوداجها أتخمها الشبع... وأنا أمسح على ظهر كلبتي. أهيجها. أدفع فيها الشهوة إلى أقصاها. فتنظر في وجهي راجية أن أطلق سراحها. والأنشوطة في يدي. والحبل المتين يحز عنقها، ولا تتألم. والكلاب تراودها عن نفسها من بعيد، من وراء النخل الباسق. وأنا أترقب وصول كلب رأيت في وجهه صورة أبا الهول. ّأترقب ذلك الكلب لأميته بعد أن يركب كلبتي. أشنقه على غصن شجرة التين التي باركها الرب.
والتين والزيتون. لأشفين منك الغليل أيها الكلب السمين .
حين وصل الكلب الأسود إلى الموقع الذي اخترته هذا الصباح لتنفيذ جريمتي. جريمة الشنق والذبح بمدية مسنونة الحدين. حاصرتني ذكرى الشيطان. فالكلب الأسود في معتقدات سكان الواحات شيطان ابن ألف شيطان. لا تفل في ذبحه سكاكين الأرض جميعها. وتذكرت الكلب الذي ذبحته منذ سنوات بعد أن أطعمته لحما ممزوجا ببنج شديد المفعول يستعمل عادة للتخدير في العمليات الجراحية، وكيف قام ذلك الكلب، وجرى والدم يسيل من عنقه المقطوع إلى النصف. وكيف عاش بعنق أعوج أكثر من عام. وكيف هددني أكثر من مرة، وجرى ورائي، وبال على أثوابي وأنا أستحم في الترعة. وغازل كلبتي ولم يقع في الفخ الذي نصبته له بين فخذيها وهي مازالت جروة لم تبلغ بعد. ولم يمت إلا بعد أن مرت على جمجمته عجلات القاطرة، وهو ينبح ويجري أمامها فوق سكة الحديد .
التقت نظراتنا مدة دقيقة، والكلبة تتلوى وتعوي، وأنا أهدهدها تارة، وأفتل حبل المسد تارة أخرى. ثم أفرجت عنها .
جرت في كل الاتجاهات كالهارب اليائس من النجاة، المحاصر داخل دائرة بدون منافذ. ثم عاد إليها صوابها، فوقفت مهتاجة - جميلة في عيون الكلاب - تفوح من جسدها الأملس السمين رائحة الحب الحادة. وجرت الكلاب نحوها مجنونة. وتقاتلت فيما بينها وهي تغرز أنيابها في اللحم الطري. وجرى دمها من الجراح الفاغرة أفواهها، وهي لا تكترث لكل ذلك .
والكلب الأسود يراقب المشهد من بعيد بعين حمراء .
والكلاب المهتاجة تقفز في وقت واحد بين فخذي كلبتي. تركبها للحظة، ثم تسقط عاوية، نائحة، مزمجرة. والكلبة ترفض الجماع، وتغلق أبواب الرحمة في وجوه الجميع. وأنا، كالكلب الأسود، أراقب من ناحيتي المشهد المثير للضحك والشفقة والسخط، وأترقب ساعة الصفر. وحبل المسد يتلوى بين أناملي. والأنشوطة تستوي كأحسن ما يكون .
ثم فجأة لعبت قي رأسي فكرة. مرت خاطفة مرور البرق في السماء وذكرتني بما كنت أفعل في زمن الصبا، حين كنت وصبيان الحي نلتقي بكلب وكلبة وقد اشتبكا مؤخرة إلى مؤخرة. كنت أستل من جيبي سكينا ومبردا وأقف أمام الكلب الذي أسكرته اللذة. الكلب الذي يرفض ترك قرينته بعد الركل بالأرجل، والخبط بالحجر ما بين العينين. وأشحذ السكين إلى أن يقدح الشرر، ثم أمسحها على مؤخرة الكلب، وبضربة خاطفة أقص ذكره من الجذر .
في العادة، تكون المفاجأة حادة، فلا يفيق الكلب من الخدر اللذيذ إلا حين تعوي الكلبة وتفر، وأير المفجوع في رجولته مغموسا في فرجها. وأرى الكلب وهو يتلوى من الألم، ويعض مكان الجرح وقد تفجر دما. ثم ينطلق في عدو مجنون إلى نهايته .
قلت: لا. لقد جربت هذه اللعبة، ولن أكررها الآن مع كلبي الأسود.
إن حساب هذا الكلب أكبر من جرح بين فخذيه ..



- 2 –

الختان

كان عمري أقل من سنتين، حين انحبس البول في مثانتي صرت أتلوى من الألم، وأصبح لون بدني في زرقة سماء الصيف. وانتفخت مثانتي حتى صارت في مثل كرة المضرب. وركبتني الحمى، فامتنعت عن الأكل وعن الرضاعة .
وأعولت نساء الدار : الأخوات والعمات والخالات .
وافتقدت يومها حنان أمي .
طلب رجل من أبي أن يصحبني إلى المستشفى ليقص الطبيب قلفتي، فلا دواء لمرضي إلا الختان. زمجر أبي وهدد الجميع بالطرد من المنزل إن هم عادوا إلى مثل هذا الكلام .
قال: كيف أترك كافرا نصرنيا يطهر ولدي وان كان طبيبا وركب حصانه الذي سار به خببا، وذهب يبحث عن عبد المؤمن الطهار .
حين عاد أبي إلى الدار كانت الشمس تودع الكون. وكنت في الرمق الأخير .
لم أدر كيف فتح الرجال فخذي لينجز الشيخ شبه الضرير مهمة قص القلفة وهو يقرأ الفاتحة ويستعيذ بالله من الشياطين .
ولم يكتف مقص الشيخ بالقلفة فقط ، وإنما قص معها نصف الذكر أيضا. حينها فار الدم، وانساب مع البول على وجه الشيخ ولحيته الطويلة.
كان الخليط سخنا، مالحا، نتنا عكر جو الغرفة، وملأها قرفا .
وأغمي علي، والشيخ يضمد الجرح، ويضع فوقه مزيجا من السواك والطمي والتراب المستورد من زاوية سيدي عبد القادر الجيلاني إلى أن صارت عانتي كدسا من التراب الممزوج بالدم والبول .
كانت الزغاريد التي انطلقت ساعة القص قد خمدت بعدما سمعت النسوة الخبر المؤلم. وكان الشيخ عبد المؤمن قد هرب من الدار راجلا دون أن يزدرد من الكسكسي ولحم الخروف .
وظل حصانه في ساحة المنزل يحمحم ويضرب الأرض بحوافره .
وجاءت أمي. وضعتني في حضنها، وطارت بي إلى السماء السابعة .
حين أفقت، عند منتصف الليل، كان البول قد عاد إلى الانحباس، فعدت إلى الصياح والأنين كلما زاد ألم الجرح في عذابي .
في الصباح، ما عاد أبي يحتمل صياحي، فوافق على اصطحابي إلى المستشفى. أركبوني عربة يجرها حمار. ورافقتني واحدة من زوجات أبي. تلك التي ما عاد يطأها لكبر سنها ولزهده فيها .
سار الحمار وئيدا ليقطع بنا مسافة عشرين كيلو متر خلال نصف يوم.
عندما وصلنا المستشفى ألبس أبي عجوزه نقابا، وتركها تحت الحائط، كومة من السواد. وساقني أمامه. دببت دبيب النمل، منفرج الساقين. وهو يراقبني، ويرفض حملي في حضنه أو مد يد المساعدة، إلى أن نهره الطبيب أمام باب العيادة :
هل قلبك من حديد أيها الرجل ؟
حين وضعني الممرض على طاولة العمليات، ورمى الخرق الملوثة بالدم الذي تخثر وأنتن، صاح، ثم أغمي عليه وهو يرى دودا صغيرا يدب فوق الجرح .
وجاء الطبيب، فوجد الذكر مقصوصا إلى النصف، فجن جنونه، وصار يرطن بفرنسية امتزجت بكلام عربي مكسور .
سب الطبيب أبي. وسب الطهار والطهارة والمتطهرين. وجاءت سيارة الأمن ...
بقيت في المستشفى نصف شهر إلى أن برأ الجرح. وخرج أبي من السجن فرفض النظر في عورتي وهو يردد كالمجنون: ما هذا الطفل بولدي .
ولم يكلمني إلى أن مات .



- 3 -

يوم وضعت حبل المشنقة في عنق أبي الهول

... وتستمر المسرحية أمامي. أبطالها كلاب شبقة، ورجل مجنون يشاركهم فصول اللعبة. والكلب الأسود يتحدى الجميع بسكونه وصبره إلى حين تلتقي نظراته بنظرات الحنان والرجاء في عيني الكلبة، فيتقدم نحوها في هيبة سلطان يحتفل بتتويجه .
وتفر الكلاب من أمامه، ولا يبقى فوق الركح سواهما .فيتقدم نحوها، يتشممها ، ثم يدور حولها، ويرفع قائمته الخلفية، ويبول في وجهي. ويعود إلى شم الكلبة. ويبدأ طقس الغرام. يعضها من عنقها عضا خفيفا وهي تهر وتعوي. وأنا أدري إن كان عواء اللذة أم الألم. ويبول الكلب في وجه العالم، والكلبة تترجى الوصال، وهو يمانع، إلى أن تركبه، فيعوي عواء حادا فيه تهديد ووعيد. وتخاف كلبتي فتعود إليه ذليلة. وأنا والكلاب الأخرى كونا دائرة قرب الركح. وتضيق الدائرة، وتضيق إلى أن رأيته يستل سيفه ويغمده بين فخذي الكلبة بلطف وحذق وهو يرهز رهزا خفيفا مدة طالت في نظري دهرا، ثم يهبط على الأرض ومؤخرته تضرب مؤخرتها، وريقه يسيل... تركتهما هكذا وذهبت... كومت الحطب كدسا كبيرا، وسكبت فوقه قليلا من البنزين، وأشعلت النار. طقطقت أعواد الزيتون الجافة، وارتفع اللهب أحمر وأزرق. وبدأت أدق الطام طام كما في أفلام الهنود الحمر، وأرقص، ثم تجردت من ثيابي. رميتها فوق اللهب، ورقصت حولها وهي تشتعل إلى أن سال عرقي غزيرا. والكلبان المشدودان إلى بعضهما بالعروة الوثقى، يرقبان المشهد. رأيت في العيون البراقة هزءا ممزوجا بالخوف، فقلت: لن أفوت هذه الفرصة. أجذت الأنشوطة، وتقدمت نحو الكلبين المتشابكين بدون فكاك. اقتربت منهما بخطى ثابتة، والكلب الأسود ينظر في عيني. رأيت رجاء في عيني كلبتي، فكدت أعود وأسكب ماء باردا على نار جهنم. إلا أنني تذكرت الكلب الأسود وهو رابض فوق صدري، وقد تحول إلى قبر. رأيته يبول على شاهدة القبر، ويعود ليربض من جديد فوق الصدر، فوق القبر، كما يربض أبو الهول. وسمعت هريره الخافت من جديد .
التفت إلى نار الله الموقدة وقلت: لأشوينك فيها يا ابن الفاعلة. رأيت عينيه المفزوعتين يداخلهما الرعب، وأنا أقترب منه، وأمسح على مؤخرته السمينة... وهبطت على قلبي السكينة حين وضعت الأنشوطة حول رقبته. ونظرت في وجهه، فاختلطت علي الوجوه. وجه أبي يتكرر آلاف المرات، ويختلط بوجوه الكلاب التي تدور حولي وتعوي. وتتظخم هذه الوجوه، وتكبر إلى أن صارت في حجم أبي الهول. قلت: ستموت ميتة الكلاب يا أبا الهول. أنت، أيها الذي جعل العالم يضحك على ذقوننا دهرا كاملا. وجررت الحبل كما يجر الساقي حبل الدلو فوق بئر الماء. استطال عنق الكلب، وارتفعت القائمتان الأماميتان، ثم المؤخرة المربوطة بالعروة الوثقى إلى مؤخرة الكلبة، فبطنها، فقائمتاها الأماميتان. وخرج لسان الكلب، وجحظت عيناه حتى انفلقتا .
وسال بوله تحت شجرة التين وهو يتخبط في الفضاء ما بين السماء والأرض، ويحرك قوائمه وكأنه يسبح في بحر متلاطم الأمواج. ثم بدأت حركته تخف وتخفت إلى أن همد، ومد لسانه طويلا، أزرق .
تركت الحبل يسقط، فسقطت الكلبة أولا، ثم تلتها جثة الكلب الذي بدأ يتحول رويدا رويدا إلى بني آدم... إلى أن استوى إنسانا كاملا .
أهويت بالسكين على عروق الرقبة النابضة بخفوت، ففار الدم غزيرا ، وسال فوق الحشائش، ثم تخثر فوق التراب .
جررت الجثة كما هي، وأنا لا أدري إن كنت ذبحت كلبا في صورة إنسان أم أنني ذبحت إنسانا وقد تحول إلى كلب ورميت بالجثة فوق النار الملتهبة، وجريت إلى الوادي أتطهر من هذا الرجس .
ثم انخرطت في بكاء محموم ....


- 4 -

أبي يعشق روائح الند والبخور خاصة في بيت نومه .

في كل المنازل كان الرجال يعاشرون امرأة واحدة .
زوجة أحلها الشرع والقانون ، ولا يتعدون لثانية أبدا آلا بوفاة أو طلاق. فقد حرم رئيس الجمهورية السابق المجاهد الأكبر فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة تعدد الزوجات في تونس بمرسوم رئاسي صدر بالرائد الرسمي للجمهورية، وصادق عليه مجلس الأمة الموقر بإجماع أعضائه، وباركته الدول المتقدمة ومجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. وصفق له المغفور له - كمال أتاتورك - في قبره .
أما في منزلنا، فقد كان أبي يعاشر من النساء الشيء الكثير. جرب الحضريات، كما جرب بنات البادية. وبنى بالتونسيات كما بنى بالطرابلسيات، اللاتي هربن مع أهاليهن من أهوال حرب الطليان. وجمع في المنزل ما لا يحصى ولا يعد من المغربيات اللاتي سكن مناجم الفوسفاط واقتنى من الجزائريات من بنات القبائل خاصة، اللاتي جئن مصاحبات للرجال والأبناء في قطارات الشركة، طلبا للرزق والأمان. فسكن في الأحياء الفقيرة، في مدن ولاية قفصة الحالية. وبما أن مردود العمل في المناجم كان ضئيلا فان الأهل كانوا يفرطون في بناتهم، ويعرضوهن على كل طالب قرب، خاصة إذا كان الطالب ميسور الحال.
كان أبي يردد في كل المناسبات: الرب من فوق سماواته السبع مكنني من أربعة، وما ملكت يميني، أنكحهن أنى شئت، فكيف يحرمني العبد من ذلك؟
ودخل السجن في هذا الأمر أكثر من مرة .
كان يتحايل على القانون وعلى الشرع. كأن يطلق الواحدة، ويبعث لها بورقة الطلاق الممهورة بختم المحكة الشرعية، ثم يراجعها سرا على أيدي جماعة من المؤمنين، كما في عهد الصحابة. ويولم لهؤلاء الجياع، فيأكلون الكسكسي ولحم الخرفان السمينة، ويعود أبي إلى فراش زوجته وكأن شيئا لم يكن .
في تلك السنين البعيدة، وأنا صغير، خطرت ببالي فكرة لا أدري من أين جاءتني. كنت أظن أن المرأة تلد زوجها. وحيرتني كثيرا حالة أبي. فعندما بدأت أعي الحياة، كان بمنزلنا امرأة من قبائل الهمامة، وواحدة من الفراشيش، وطرابلسية، وواحدة بربرية من تيزي وزو .
كانت الأمور تختلط كثيرا في رأسي. فمن من هؤلاء النسوة ولدت أبي؟ وكنت في الغالب أرجح البربرية لأنها أصغرهن وأجملهن. وكان أبي يقربها كثيرا. وكنت أخجل حين أراه يقرص خدها، فيحمر وجهها خجلا وتقول له:
- الصغير يراقبنا يا رجل. فتفلت من بين شفتيه سبة، ويقذفني بما في يده ، فأهرب وألبد وراء الهمامية التي كبرت وترهل جسدها حتى صارت لا تقدر على المشي إلا بصعوبة، فتحتضن في الابن الذي لم تنجب وتقول: ألم أنصحك بعدم الاقتراب من ذلك الوحش. إلا أنني كنت أخالفها دائما، فأعود إلى المراقبة، ويعود غلى السب والشتم .
كان ينام كل ليلة في بيت واحدة من زوجاته. فإذا كانت ليلة المرأة الهمامية، كان يشخط ويثور في وجوهنا لأتفه الأسباب، فنكرهه لذلك، ونتمنى له الموت الذي لم يأت. وحتى يجيء الموت، كنت وبقية إخوتي الذكور ننتقم منه بطريقتنا الخاصة، فنزرع فراشه إبرا ومسامير نلتقطها من الشارع أو من أمام مستودعات شركة الفسفاط. ونذهب إلى النوم باكرا لتهاجمنا الأحلام المزعجة. فنراه وقد تحول إلى حيوان بري كبير له وجه إنسان وجذع أسد. وفي الوجه فم واسع له أنياب حادة كأنياب الكلب. وعلى كامل الجسم مسامير وابر. وتظل تلك الأحلام تلازمنا إلى أن نفيق في الصباح ، فيحكي كل واحد منا لإخوته ما أفزعه في الليل الفائت، فنحس وكأننا حلمنا حلما واحدا .
أما ليلة البربرية، ففيها يختلف الأمر كثيرا. يذهب أبي إلى الحمام في العشية. يأخذ معه الثياب النظيفة ويملأ قلبه بالفرح والانشراح. يقضي ثلث الليل الأول خارج البيت ولا يعود إلا عندما تكف الأرجل على ارتياد الحوش. يأتي محملا بالهدايا: الحلاوة الشامية واللوز المحمر وثمار الفصول: عنبا وبطيخا، وموزا وبرتقالا وتفاحا. ويتزوج الطفلة وكأنها عروس زفت إليه في تلك الليلة. تكون البنت قد ذهبت إلى الحمام منذ القائلة، وتزينت بألطف زينة، ورشت سريرها بالعطور، وأشعلت كانونا ورمت فوق الجمر بخورا، وأحرقت أعواد الند. كان البيت يتحول في تلك الليلة إلى سوق للعطورات. وكان أبي يبدو في الصباح الموالي مذهولا، وكأنه فقد عقله يقرأ الأشعار الغزلية، ويتنهد. ثم حين يعود إلى الرشد يذكر المجنونة ويبكي ...


* ابراهيم درغوثي
شبابيك منتصف الليل
فصل من رواية
.

تعليقات

أعلى