منقول - الرواية التونسية..

على الرغم من مرور أكثر من قرن على ظهور أول رواية تونسية - وهي رواية "الهيفاء وسراج الليل" لصالح السويسي القيرواني التي نشرت تباعا بمجلة "خير الدين" سنة 1906 - فإن العدد الجملي للروايات التونسية قد تجاوز اليوم الأربعمائة رواية. وهو عدد قليل نسبيا إذا علمنا أن الروائي الفرنسي بلزاك وحده، مثلا، قد ألف في القرن التاسع عشر أكثر من مائة رواية، يضاف إلى ذلك انخفاض أرقام السحب بوجه عام، إذ العدد الأكثر تداولا في سحب الروايات بتونس هو ألف نسخة ما عدا بعض الروايات التي أدرجت في أوقات ما ضمن برامج التعليم الثانوي. و لمجرد المقارنة في هذا الباب نشير، على سبيل المثال، إلى أن رواية "ذاكرة الجسد" للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي قد صدرت منها إلى حد الآن أكثر من عشرين طبعة تجاوزت مجتمعة الخمسين ألف نسخة. وهو الكم نفسه تقريبا من النسخ التي سحبت من مائة وثمانين رواية تونسية. لكن ضعف حضور الرواية في الدورة الثقافية ليس كميا فحسب بل من جهة العناية النقدية أيضا. ذلك أن ثلاثة روائيين فقط استقطبوا فعلا اهتمام النقاد هم محمود المسعدي (صدر في شأنه قرابة الثلاثين كتابا) والبشير خريف (أطروحة مرحلة ثالثة وعدة ندوات صدرت إحداها في كتاب) وإبراهيم الدرغوثي (تم تناول أعماله الروائية في خمسة كتب فردية وجماعية) ، مع الإشارة إلى أن الروائي، بخلاف الشاعر أو الناقد أو الكاتب المسرحي، لا وجود له خارج عملية القراءة. وذلك لاستحالة وقوفه أمام الجمهور لقراءة رواياته.

إن هذه الهشاشة لوضع الرواية التونسية تفسّر أوّلا بطول فترة المخاض التي استغرقت قرابة نصف قرن، من سنة 1906 تاريخ صدور الرواية الأولى (وقد نشرت كما ذكرنا متسلسلة في مجلة) إلى الاستقلال (تاريخ ظهور أول رواية في كتاب وهي بعنوان "ومن الضحايا" لمحمد العروسي المطوي). ولعل أنسب المعايير التي يمكن اعتمادها في تحديد المراحل الكبرى للرواية التونسية معيار الشكل المادي الخارجي والمعيار الزمني اللذان يتكاملان هنا ويتحدان. وباعتماد هذين المعيارين تلوح لنا مرحلتان اثنتان متباينتان:

الأولى هي مرحلة صدور الروايات متسلسلة في الصحف والمجلات. وهي تتفق مع مرحلة ما قبل الاستقلال.
الأخرى هي مرحلة صدور الروايات قي كتب مستقلة. وقد انطلقت سنة 1956 بقيام دولة الاستقلال.

مرحلة البدايات في عهد الاحتلال

تتسم هذه المرحلة بغياب كلي للرواية التونسية عند باعة الكتب، مقابل حضور الروايات الشرقية (صدرت مثلا في المشرق العربي سنة 1900 تسعون رواية) والروايات الناطقة بالفرنسية الوافدة من البلد المستعمر. ووضع كهذا لم يكن ليساعد بديهيا على أن يكون للرواية المحلية وجود فعلي مؤثر. ذلك أن تناثر فصول الرواية الواحدة في عدة أعداد من جريدة أو مجلة من شأنه أن يحدّ من إقبال القراء على مطالعتها أي من انتشارها. لذلك فإن دراسة الرواية التونسية في هذه المرحلة لا يكون الغرض منها إلا تأريخيا. يمكن تقسيم هذه المرحلة إلى مرحلتين:

الأولى هي مرحلة الترجمة والاقتباس والتدرب على الفن الروائي والأخرى مرحلة الابداع في كتابة الرواية.
مرحلة الترجمة والاقتباس والتدرب على الفن الروائي

لقد اكتشف التونسيون كغيرهم من العرب الرواية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالاطلاع على بعض الروايات الغربية. فأقبلوا على ترجمة عينات منها وإن كانت قليلة للغاية.وثمة اتفاق على أن أول رواية ألفت بتونس هي، كما قلنا، "الهيفاء وسراج الليل" (1906) لصالح سويسي القيرواني (1841 - 1971) . أما أول رواية ترجمت فهي "خاتم عقد بني سراج" لرني دي شاتوبريان (René de chateaubriand) وقد نقلها إلى العربية محمد المشيرقي (1885 - 1946) سنة 1909 وفي الفترة نفسها اقتبس إبراهيم بن شعبان (1892 - 1930) رواية من شريط سينمائي عنوانها "فظائع المقامرة" (1910).

ولقد ألف صالح سويسي روايته لتحقيق غرضين: الأول وعظي وهو حث الشباب على التحلي بالطموح إلى تحصيل المعارف والاخر إيديولوجي وهو الدعوة إلى تحقيق الوحدة الاسلامية. وتلت هذه الرواية رواية "الساحرة" لالصادق الرزقي (1874 - 1939) التي نشرها متسلسلة بين سنتي 1910 و1915 وجاءت مجتمعة في أربع وعشرين صفحة. ولئن ارتبطت بالبيئة التونسية مكانا فإن أحداثها تدور في العهد الحفصي. وهو ما يجعلها تصنف ضمن الاتجاه التاريخي. ولعل أول رواية ارتبطت بالواقع التونسي زمن التأليف رواية "طوماس" لسليمان الجادوي (1881 - 1951) التي نشرها بجريدة "مرشد الأمة" سنة 1910. وقد اتخذ عنوانا لها اسم مدير فرنسي شغل خطة مدير للمدرسة الصادقية، تلك التي كانت من أهم ينابيع الوعي الوطني في عهد الاحتلال. وقد غلب على هذا الأثر السردي النقد الصريح للسياسة الاستعمارية المنتهجة في القطاع التربوي والدعوة إلى مواجهة المحتل.

وضمن هذا الاتجاه النضالي ألف سليمان الجادوي نفسه رواية ثانية عنوانها "دي كرنيار" - وهو زعيم غلاة المعمرين بتونس - لكنه لم ينشر منها سوى فصول قليلة بجريدة "أبونواس". وفي الفترة ذاتها ظهر اتجاه آخر اختار تأكيد ارتباط الإيالة التونسية بالسلطنة العثمانية. وذلك بتمجيد بطولات الأتراك في تونس وإذكاء الحنين إلى عهد ما قبل الاحتلال الفرنسي. وقد تجسد هذا التيار في روايتين لمحمد الحبيب (1902 - 1980) الأولى عنوانها بسالة تركية والأخرى بعنوان وطنية الأتراك قد استوحاهما فيما يبدو من زيارة أداها إلى الأستانة. وخلاصة القول في هذه المرحلة أن فكرة كتابة نصوص سردية مطوّلة وإن بدأت تترسخ في الوسط الأدبي التونسي فإنها لم تقترن بمعرفة دقيقة لمقومات الرواية الفنية. لذلك غلبت على تأليفها العفوية وغاب فيها أو كاد الهاجس الفني. وهو ما تجسد في افتعال الأحداث وهيمنة السارد المطلقة على الشخصيات والصياغة البدائية المفرطة وتبسيط الحبكة وكثرة الاستطرادات والتعاليق وغياب الاضمار والايحاء. وكل هذا متأت من عدم وعي المؤلف الفروق الشاسعة بين الحكي الفني من جهة والتأريخ والخطاب الوعظي أو السياسي أو الفكري من جهة أخرى (للمزيد من التوسع انظر: محمد صالح الجابري، القصة التونسية نشأتها وروادها، مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله، تونس 1977 - عزالدين المدني"علامات عَلى طَريق القصّة وَالروايَة بتونس" مجلة الموقف الأدبي، العدد 82 دمشق - 1978 محمد الجابلي "جذور التحول الاجتماعي وآفاقه في الرواية التونسية"، موقع نادي القصة) .
مرحلة تشكل الوعي الابداعي

لقد بدأ الوعي بأن الحكي فن قائم الذات وليس عملية تأريخية أو مطية لالقاء خطبة وعظية أو سياسية، في القصة القصيرة لدى جماعة تحت السور وخاصة منهم علي الدوعاجي بدءا من أوائل الثلاثينات بمجلة "العالم الأدبي". فلئن كان للنص السردي ضرورة أبعاد سياسية أو اجتماعية أو حتى أخلاقية أو صلة بالتاريخ فإن التعبير عنها لا يكون مباشرا بل إيحاء. وهو ما يقتضي الجنوح إلى تكثيف الدلالات الحافة، مع الحرص على إمتاع القارئ بالومضات المربكة ومراوغته بالأحداث والمواقف المفاجئة. ويعدّ علي الدوعاجي أوّل من نحا في القصّ هذا المنحى، مع استلهام موضوعاته من الواقع اليومي. ولئن لم يكتب - على الأقل فيما وصلنا - الرواية، وإن كان محمد فريد غازي نسب إليه رواية عنوانها شارع الأقدام المخضّبة عدّها عملا فنيا متميزا فإن نصّه جولة بين حانات البحر المتوسط - وهو يدخل في باب الرحلة - يقيم الدليل على تمتعه بنفس طويل يسمح له بكتابة الرواية مع الارتقاء في إنشائها إلى درجة فنية عالية بفضل أسلوبه النقدي المرح وقدرته على المباغتة وتوفقه إلى التقاط الموحي من الحركات والسكنات والمواقف.

وفي سنة 1944 أخذ محمود المسعدي في نشر أجزاء من عمل سردي طويل وسمه ب "حدث أبو هريرة قال" كتبه سنة 1939 جمع فيه بين أساليب السرد التراثي وطرق قضايا وثيقة الصلة بعصر المؤلف وبيئته ارتقى في معالجتها إلى درجة عالية من العمق والتميز. ولن يصدر هذا الأثر كاملا إلا سنة 1973. وهكذا فإن مرحلة ما قبل الاستقلال وإن لم تظهر فيها أي رواية في كتاب - وهو ما جعل هذا الجنس الأدبي ضعيف التداول في الدورة الثقافية - فقد تشكلت فيها بوجه عام بذور أبرز الاتجاهات التي ستظهر بعد الاستقلال وهي الرواية الوطنية والرواية الواقعية والرواية التاريخية التي ستضاف إليها بدءا من الثمانينات الرواية الواقعية الجديدة والرواية التجريبية ورواية الواقعية السحربة. وهي كلها اتجاهات منقولة عن الغرب وأمريكا اللاتينية.
مرحلة ما بعد الاستقلال

إن سنة حصول البلاد على استقلالها هي عمليا التاريخ الفعلي لظهور الرواية في تونس لأنها السنة التي صدرت فيها أول رواية مطبوعة في شكل كتاب ثم توالت الروايات على نحو محتشم إلى بداية الثمانينات إذ لم تظهر حتى سنة 1980 سوى ثلاث وأربعين رواية ثم تكثف نسق صدور الروايات. فظهرت في عشرية واحدة من 1981 إلى سنة 1990 ثلاث وخمسون رواية ثم من سنة 1991إلى سنة 2000 مائة وخمس وثلاثون رواية ومن سنة 2001 إلى سنة 2009 مائة وثمان وخمسون رواية.

هذا الكم من الروايات وإن لم يكن ضخما مقارنة بما يصدر في بعض الأقطار المشرقية فإنه لم يدرس إلى اليوم دراسة شاملة يُحسم فيه على نحو موضوعي بين ما هو متميز وما هو عادي وما هو رديء. فكل ما نظفر به في هذا الشأن هو محاولتان تصنيفيتان جديتان للأستاذ محمود طرشونة اعتمد فيهما معيار ثنائية: التقليد والتجديد، مدرجا في الخانة الأولى الرواية الوطنية والرواية التاريخية والرواية الواقعية. أما في الخانة الثانية فقد صنف ضمن محاولته الأولى (2001) الرواية الذهنية والرواية اللغوية ورواية توظيف التراث والرواية العجائبية والرواية النفسية ورواية الواقعية الجديدة (بانوراما الرواية التونسية، مجلة عمان، العدد 74، أوت 2001 ص ص 8 - 11) وفي محاولته الثانية (2008) رواية العجيب ورواية الغريب والرواية النسائية (على الرغم من إقراره بعدم وجود أدب نسائي) والرواية المهاجرة (المشهد الروائي التونسي الان، منتدى إنانا.) وهناك محاولة أخرى مخطوطة لمحمد القاضي.والاختلاف البيّن بين محاولتي طرشونة نفسه يدل على مدى صعوبة التصنيف في هذا الباب.

فعلى الرغم من الجهد التأليفي الذي بذله صاحب المحاولتين فإنهما يثيران جدلا طويلا لا يتسع له المجال هنا. لكن نكتفي بالتساؤل عن الفرق بين عربي ينقل عن بلزاك وثان عن كافكا وثالث عن روب قرييي ولماذا عدت رواية توظيف التراث حداثية والحال أن "فينيلون") Fénelon (كتب فيها روايته "مغامرات تيليماك" في القرن الثامن عشر ورواية العجيب رواية تجديدية في حين أن كافكا) Kafka (ألف فيها روايته "التحول" سنة 1915 وكيف نعتبر الرواية النفسية جديدة وقد ألف فيها) Stendhal (روايته "الأحمر والأسود" في القرن التاسع عشر؟ ولعلّ أسلم طريقة في التصنيف اعتماد التجارب الفردية أولا. ولما كانت التجربة يشترط فيها توفّر حدّ أدنى من التراكم فإن هذا المعيار يشرع لنا أن نقصي في القسم الأساس من هذا البحث محاولات أصحاب الرواية الواحدة والروايتين إلا إذا اكتسبت الرواية شهرة واسعة بفضل تعدّد طبعاتها. فكيف يلوح لنا المشهد الروائي في تونس باعتماد هذا المعيار؟
الرواية لدى ذوي التجارب المنتهية وشبه المنتهية

نقصد بأصحاب التجارب المنتهية كتاب الرواية الذين توفّاهم الأجل وبأصحاب التجارب شبه المنتهية الأحياء الذين انقطعوا عن إصدار الروايات منذ عدة سنوات. إن أبرز ممثلي الصنف الأول محمد العروسي المطوي باعتباره مؤسسا، إذ هو كما قلنا صاحب أول رواية نشرت في كتاب وخير ممثل من جهة أسلوب الكتابة لروح المرحلة التي عقبت قيام دولة الاستقلال. فمن الطبيعي أن تبني الدولة الوطنية الوليدة مشروعية وجودها على الماضي النضالي الذي خاضه قادتها وأن تنصرف في الوقت نفسه إلى تشخيص مظاهر التخلف الموروثة عن عهد الاحتلال لمقاومتها والقضاء عليها. وهذا ما جعل المطوي يمزج بين اللونين التاريخي والواقعي، متخذا من الوطنية غرضا في رواياته الثلاث : ومن الضحايا (1956) وحليمة (1962) والتوت المر (1967) . لكن الروائي الذي حظي بإجماع النقاد والباحثين هو، بلا شك، البشير خريف الذي وإن كتب أيضا في اللونين التاريخي في روايتيه "برق الليل" (1961) و"بلاّرة" (1992) والواقعي في روايتيه : "حبك درباني" التي صدرت متسلسلة بمجلة "الفكر" (1958 - 1959) ثم في كتاب (1980) و"الدقلة في عراجينها" (1969) فقد ارتقى في مراسهما إلى مستوى فنّي عال تجسد في قدرته الفائقة على التقاط الموحي من الأحداث وأوصاف الشخوص والأشياء وإرباك القارئ بالومضات الخاطفة وإمتاعه بفيض من روحه الجريدية المرحة في نطاق رؤية نقدية عميقة متماسكة تنزع إلى النمذجة والكونية باتخاذ الأبطال - وجلهم من النوع القمري المضاد - أنماطا بشرية مستمدة من الواقع التونسي لا محالة لكنها تناضل كل في مجالها من أجل التمتع بالحرية في محيط تهيمن عليه قوى المنع والاحباط.ومن الروائيين الأوائل الذين نحوا منحى خاصا في السنوات الأولى من الاستقلال محمد رشاد الحمزاوي في روايته "بودودة مات". فقد انزاح عن التيار الغالب وقتئذ وهو تمجيد نضال الحزب الوطني ضد الاستعمار ليصور الأوضاع المتدهورة في الريف التونسي انطلاقا من أنموذج وهو مسقط رأسه تالة. ويتأكّد لديه هذا الاتجاه في روايته الثانية "سفر وهذر" (1995) التي يجسد فيها ما يسميه أدب المحنة.

ومن هذه الزمرة أيضا مصطفى الفارسي (1931 - 2009) الذي ألف روايتين يفصل بينهما ربع قرن من الزمن هما "المنعرج" (1964) و"حركات" (1978) اللتان لا تكاد إحداهما تمت بصلة إلى الأخرى. فالأولى مَدَارُهَا على الاشادة بالعمل والنضال، تمشيا مع المناخ العام الذي ساد في فترة بناء الدولة الوطنية الوليدة. وقد صنفها بعضهم ضمن الواقعية الاشتراكية. أما الثانية فهي رواية تجريبية بناها على حكاية - مرتكز بطلها بوهيمي يدعى قحطور ثم انطلق منها ليحدث تداخلا شديدا بين أنواع شتى من الخطابات أبرزها الخطاب التاريخي والخطاب اللساني والخطاب الفلسفي وأجناس سردية متنوعة منها الأسطورة والمسرحية والخاطرة الأدبية والأقصوصة.

وينتمي إلى هذه المجموعة نفسها محمد صالح الجابري الذي انشغل في رواياته الثلاث بمحورين : نضال العمال في القطاع المنجمي وتحديدا بمنجم زمرا بالرديف أيام الاحتلال الفرنسي (يوم من أيام زمرا، 1968) وقدرة المدينة على اجتذاب الريفي وإغرائه وإفقاده القيم السامية التي تربى عليها في محيطه الأصلي (البحر ينشر ألواحه، 1975) وصعوبة التكيّف مع التحوّلات الاجتماعية نتيجة الانشداد إلى العادات المتوارثة (ليلة السنوات العشر، 1982). وهي، كما نرى، محاور متباعدة لا يكاد يجمع بينها جامع.

وهكذا يمكن القول إن هذا الجيل المخضرم الذي عاش في عهد الاحتلال وتحمّس لقيام الدولة الوطنية الوليدة قد أدّى الدور المنوط بعهدته وهو تصوير المجتمع التونسي الذي عانى طويلا من ويلات الاستعمار وأضحى يتطلّع إلى غد أفضل. لذلك اختار شكلي الرواية التاريخية والرواية الواقعية الأنسب إلى التعبير عن همومه وشواغله. لكن إذا استثنينا البشير خريف الذي نذر حياته كلّها لفن السرد فإن الآخرين توزّعت شواغلهم على أجناس مختلفة وهي الشعر والنقد والخاطرة الأدبية وأدب الطفل والكتابة المسرحية والحال أن الروائي الحقيقي هو الذي يتفرغ لهذا الفن تماما. وإذا انزاح عنهما مؤقّتا فإلى فنّ سردي آخر هو الأقصوصة.
الرواية لدى ذوي التجارب الجارية
المواصلون لعمل جيل التأسيس

إنّ جلّ ذوي التجارب الجارية في الكتابة الروائية هم من الأجيال الأدبية التي ظهرت بعد الاستقلال. وقد انطلقت محاولات الأكبر سنا منهم قي نهاية الستينات. ومن الطبيعي أن يتأثر بعض هؤلاء بالجيل المؤسس فيواصلوا السير في الطريق التي عبدها. وأبرز هؤلاء من حيث الكمّ ومن جهة التخصّص عبد القادر بالحاج نصر ومحمد الهادي بن صالح والناصر التومي. فعبد القادر بالحاج نصر أصدر إلى حدّ الان اثنتي عشرة رواية أولاها "الزيتون لا يموت" (1969) وآخرها "حي باب سويقة" (2009) . أما رواياته الأخرى فهي: "صاحبة الجلالة" - "زقاق يأوي رجالا ونساء" - "الاثم" - "امرأة يغتالها الذئب" - "قنديل باب المدينة" - "مقهى الفن" - "ساحة الطرميل" - "جنان بنت الري" - "عتبة الحوش" - "ملفات مليحة". هذه الروايات تتوزّع على لونين هما اللون التاريخي مثل رواية "الزيتون لا يموت" التي استوحى موضوعها من أحداث 9 أفريل سنة 1938 و"جنان بنت الري" التي تدور أحداثها في عهد المشير أحمد باشا في القرن التاسع عشر واللون الواقعي مثل روايات "الاثم" و"زقاق يأوي رجالا ونساء" و"امرأة يغتالها الذئب". وأما محمد الهادي بن صالح فقد نشر خمس عشرة رواية هي: "في بيت العنكبوت" (1976) - "الجسد والعصا" - "الحركة وانتكاس الشمس" - "سفر النقلة والتصور" - "الناس والحجارة" - "كلب السبخة" - "من حقه أن يحلم" - "ألق التوبة" - "عودة عزة المغتربة" "الغربان تأتي من الغرب" - "بيت لا يعرف الدفء" - "الأبنية الهشة" - "تراب على أعتاب الليل" - "راحة المجنون" (2010) وينتمي معظم هذه الروايات إلى اللون الواقعي النقدي. فمؤلفها يستمد أبطاله في الغالب من الفئات المهمشة لكن المتطلعة إلى مواقع عالية في الهرم الاجتماعي فتتمنى مساعيها في النهاية بالاخفاق، إلا أن الكاتب لا يصور فشلها لغاية التشفّي بل ليحتجّ بشدّة على طبيعة النظام الاجتماعي الذي حكم عليها بالقبوع في أسفل الهرم وسد في وجهها كل المنافذ لمنعها من مبارحته.وأما الناصر التومي فقد بلغ عدد رواياته إلى اليوم الخمس روايات هي "ليالي القمر والرماد" (1979) و"النزيف" و"الرسم على الماء" و"رجل الأعاصير" و"الصرير". وقد راوح فيها بين النمطين التاريخي والواقعي، مركزا عنايته في جلها أيضا على تصوير الواقع المتردي الذي تتخبط فيه الفئات المهمشة المقهورة.ويمكن أن نضيف إليهم البشير بن سلامة الذي جاء إلى الرواية متأخرا فنشر أربع روايات من النوع التاريخي تدور أحداثها في العهد الحسيني عناوينها "عائشة" (1982) و"عادل" (1991) و"علي" (1995) و"الناصر" (1998) .وهناك أسماء أخرى سارت في هذا الاتجاه نفسه منها يحيى محمد ومحمد المختار جنات وعمر بن سالم. لكن بعضها انقطع وبعضها تقطع عطاؤه وبعضها الاخر اقترن بمراس جلّ أنواع الكتابة. وإذا كان جيل التأسيس قد اختار الرواية ذات الحبكة الواضحة المتألفة من الأوضاع الخمسة : الوضع الابتدائي وتدخل القوة المحولة ودينامكية الأحداث وتدخل القوة المعيدة للتوازن والوضع الختامي لأن ثقافته الروائية الغربية (روايات بلزاك وفلوبير وستندال وزولا وقوركي وتولستوي خاصة) أو المشرقية (روايات جرجي زيدان ويوسف السباعي وطه حسين ونجيب محفوظ وحنا مينة) تقف عند ذلك النمط من الكتابة الروائية فإن هؤلاء - وقد احتكّوا بالتجريبيين واطّلعوا على أساليبهم في الكتابة - قد تُفسّر متابعتهم للمؤسّسين بحرصهم على التواصل مع المتلقي اقتناعا منهم بأنه لا يزال للكاتب اليوم دور داخل المجتمع. لكن تكاثر المحللين النفسيين والاجتماعيين من خريجي الجامعات ووصول تحاليلهم إلى مختلف الشرائح عبر المحطات الاذاعية والقنوات التلفزية قلّصت من هذا الدور إلى حدّ بعيد إن لم نقل وضعت له حدا نهائيا. وهو ما يجعل الرواية من هذا القبيل فاقدة عمليا لأي دور.
المنزاحون عن عمل جيل التأسيس

لقد تطورت الرواية في الغرب تدريجيا منذ أواخر القرن التاسع عشر. فابتدع فودور دوستوفسكي (Fedor Dostoïevski)أسلوب الحوارية في روايتيه: "الجريمة والعقاب" (1866) و"الأحمق" (1868) وفي القرن العشرين أسس مرسال بروست (Marcel Proust) طريقتي التداعي والارتداد إلى الماضي في روايته "في البحث عن الزمن الضائع" (1913) ثم فرانز كافكا (Faranz Kafka)(الرواية العجائبية في روايته "التحول" (1915) ثم جيمز جويز) (James Joyce) (أسلوبي المونولوغ الداخلي والالصاق في روايته "أوليس" (1922) ثم وليام فولكنار (William Faulkner) الدراما النفسية مع تشعير السرد في روايته "الضجيج والغضب" (1930) ثم واصل الروائيون الجدد في فرنسا وخاصة ميشال بوتور (Michel Butor) وناتالي ساروت (Natalie sarraute) وآلان روب قرييه (Alain Robbe - Grillet) بداية من سنة 1942 تدمير الحبكة بتحويل الرواية إلى مغامرة لغوية. فاتخذوا شخصيات من الأشياء الجامدة واستخدموا على نحو مكثّف تيار اللاّوعي وتعدّد الرواة للحدث الواحد.

ولكن المؤسسة التربوية في الغرب ظلت طويلا متحفظة في شأن هذه الألوان المتمرّدة من الكتابة السردية. فاستمر الاقبال على الرواية الكلاسيكية حتى سبعينات القرن الماضي. ولم تبدأ في شق طريقها إلا بعد أن حولت بعض الروايات التجريبية إلى أفلام. وليس ثمة شكّ في أن أوّل رواية تجريبية عربية منشورة هي "الانسان الصفر" (ديسمبر 1968) لعزالدين المدني التي وصفت بأنها "قصّة" والحال أنه صدرت منها ثلاثة فصول ولم تكتمل بعد. فكيف تتألف أقصوصة من ثلاثة فصول ولا تزال فصول منها لم تكتب؟ هذه الرواية مدارها على الكلمة أو إن شئنا على اللغة. ولابراز هذا الجانب قلّص الكاتب من الحدث بأن اختزل الحكاية في سرقة البطل - وهو مفرد في صيغة الجمع: أنا وأنت وهو - خبزة ومحاكمته بسبها في اليوم نفسه وايداعه السجن. فمضى في عملية بحث طويلة عن منزلته في المجتمع عبر الخطاب الديني والخطاب السياسي السائدين.

ولقد فرض التناص مع الخطاب الديني خاصة أن وسمت اللغة وسما عميقا بطابع تراثي إلى جانب انفتاحها على العصر الماثل في استخدام تيار اللاوعي والحوار الداخلي. ولقد تلت "الانسان الصفر" رواية أخرى للمدني عنوانها "العدوان" نشرت أجزاء منها تباعا ب"العمل الثقافي" سنة 1969 ولم تصدر كاملة إلا سنة 1992. على أن هذا الكاتب وإن كان تاريخيا مؤسّسا فإن مجموع أعماله ترجح الكفة لصفتين أخريين له هما الكاتب المسرحي والقصاص لا الروائي. ومثله حسن نصر الذي يبقى قصاصا مهمّا قبل كل شيء رغم نجاح روايته "دار الباشا" (1994) .

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كلّ التقنيات الجديدة في القصّ التي استحدثها أولئك الكتاب السرديون الغربيّون قد طبقها القصّاصون الطليعيّون التونسيّون على نطاق واسع بين سنتي 1962 و1972. وقد واصل بعضهم تطبيقها بعد ذلك التاريخ منهم عزالدين المدني وسمير العيادي ومحمود التونسي ورضوان الكوني وأحمد ممّو وإبراهيم الأسود وإبراهيم بن مراد وسالم ونيس (انظر في ذلك: محمد صالح بن عمر، اتجاهات القصة الطلائعية في تونس، دار إشراق للنشر، تونس 2008) . أما الروائي التونسي الذي مارس الكتابة الروائية التحديثية ونال إجماع النقاد فهو إبراهيم الدرغوثي الذي صدرت عن تجربته إلى حدّ الآن خمسة كتب منها كتابان جماعيان أسهم في أحدهما عدة نقّاد من أقطار عربية أخرى.ولعل الذي يبرر هذا الاهتمام النقدي المكثف أن الدرغوثي توفّق إلى استحداث طريقة خاصة في الكتابة تقوم على توظيف التراث الشعبي المحلي بالجنوب الغربي التونسي إضافة إلى التراث العربي في مماحكة السائد وخاصة الثالوث المحرم: الجنس والسياسة والدين. ويتجلى ذلك واضحا في رواياته "الدراويش يعودون إلى المنفى" (1992) و"القيامة الان" (1994) و"شبابيك منتصف الليل" (1996) و"أسرار صاحب الستر" و"وراء السراب قليلا" (2002).

وإذا استثنينا هذين الكاتبين : المؤسس والمستقطب لعناية النقاد فإن باقي الكتاب يتوزعون شكليا على ثلاثة أصناف خارجية عامة لا فنية خاصة أولها الذين جاؤوا إلى الرواية من القصة. ومن هؤلاء محمد الباردي الذي أصدر في قرابة الثلاثين عاما بانتظام عدة روايات هي "مدينة الشموس الدافئة" (1981) "الملاح والسفينة" (1983) "قمح إفريقيّة" (1988) "على نار هادئة" (1997) "حوش خريّف" (1997) "جارتي تسحب شارتها" (1998) "الكرنفال" (2003) و"حنة" (2010). والمتأمل في هذه الروايات يلاحظ أن المؤلف جرب الواقعية شبه التسجيلية والواقعية النقدية والتجريب. ومن هذا الصنف العام رضوان الكوني الذي بدأ قصاصا ثم نشر ثلاث روايات هي "رأس الدرب" (1994) و"صهيل الرمان" (1998) و"عيد المساعيد" (2005) اختار فيها لون الواقعية الجديدة بجعل شخوصه تنتمي إلى واقع بعينه معلن هو الواقع التونسي والأحداث تدور في أطر مكانية وزمانية واضحة معلومة لكن مع اتخاذه الشخوص والأحداث التي يرويها على لسان البطل أو سارد مستقل عنه مطايا للتعبير الضمني عن مواقفه من القضايا التي يعالجها (العمالة للمستعمر، النزوح إلى العاصمة، قضية حرب الجلاء عن بنزرت، الظلم) ومع التجديد في المستوى الحكائي بتكثيف الحوار الداخلي والبحث عن طرائق مستحدثة في تقديم زاوية نظر السارد مثل القراءة في فنجان في رواية "عيد المساعيد". ومثله محمود طرشونة الذي أصدر ثلاث روايات في خمس سنوات هي "دنيا" (1994) و"المعجزة" (1996) و"التمثال" (1998) . والمتأمل في هذه الروايات الثلاث يلاحظ انتقال المؤلف من الرواية الواقعية النقدية في روايته الأولى التي صور فيها تدهور الواقع المحلي في سبعينات القرن الماضي إلى رواية العجيب في الثانية التي جعل فيها هيكلا عظميا يعود إلى لحياة بمعجزة هي الحب وكذلك في الثالثة التي يروي فيها تحول تمثال إلى بشر سوي. ومن القصاصين الذين تحولوا إلى كتابة الرواية أيضا محمد الحبيب السالمي الذي تصور معظم رواياته "جبل العنز" (1988) "صورة بدوي ميت" (1990) "منها متاهة الرمل" (1994) و"حفر دافئة" (1999) "عشاق بية" (2012) و"أسرار عبد الله" (2005) آلام الغربة والاحساس بالزوال والتدهور المستمر لوضع الانسان في العالم، مع التنقل الدائم بين عالم الاغتراب في باريس والعالم الأصلي في ريف القيروان بأسلوب يجنح إلى الالتصاق بالواقع وتحاشي التداخل والغموض اللذين يترتبان عادة على التجريب.

وتستوقف المطلع على المدونة الروائية التونسية كذلك روايات ظافر ناجي الذي بدأ قصاصا ثم ألف ثلاث روايات هي "أرخبيل الرعبب" (1994) و"حفيف الريح" (2001) و"حاجب المقام" (2003) . وهي تنتمي إلى اللون التجريبي إن كليا وإن جزئيا. وذلك ماثل في استخدام صاحبها الاستبطان وتعدّد الأصوات واستثمار فوضى الأشياء، مع الحرص على النقد الاجتماعي والسياسي.

ومن هذا الصنف حسن بن عثمان الذي بدأ أيضا قصاصا. ففي رواياته "برومسبور" (1998) و"ليلة الليالي" (2000) و"شيخان" ، (2002) ينشئ بخلاف رضوان الكوني عوالم يطغى عليها منتهى التدهور إلى حد العبثية: مع الامعان في السخرية والتشفي. فبطل برومسبور سيسي الكاتب مثلا يتخلى في النهاية عن مبادئه لينخرط في التيار السائد المقر بضرورة الانصياع للأقوى وعدم وجود مبرر للنضال من أجل المبادئ السامية. وبطل شيخان الشيخ الزيتوني الشاب يخفق في مهمته الاصلاحية داخل القرية بعد أن أطاح بالشيخ العجوز. ويدرك التمرد ذروته في رواية "ليلة الليالي" التي يطلق فيها الكاتب العنان لهتك المستور وتعرية المناطق المخفية من الواقع. وينتمي إلى هذه المجموعة حسونة المصباحي مؤلف روايات "هلوسات ترشيش" (1995) و"الاخرون" (1998) و"وداعا روزلي" (2008) و"رماد الحياة" (2009) التي تكشف مجتمعة عن ذات قلقة متمردة ميالة إلى التنقل الدائم بين الأمكنة والبيئات الحضارية والاجتماعية مع الحضور الدائم للمهاد الأصلي في ريف القيروان وانجذاب الرؤية القوي نحو الاستثنائي من الشخوص والأحداث. وكذلك شأن مسعودة بوبكر التي بدأت قصاصة ثم نشرت سلسلة من الروايات هي "ليلة الغياب" (1997) و"طرشقانة" (1999) و"وداعا حمورابي" (2003) و"جمان وعنبر" (2006) و"الألف والنون" (2009) . وهذه الروايات تدور حول قضايا شديدة الاختلاف منها : الشذوذ الجنسي وحرب الخليج ساعة اندلاعها كما عاشت أحداثها عائلة من الشمال الغربي التونسي والارهاب. ومن هؤلاء عبد الواحد براهم الذي بدأ قصاصا في الخمسينات ثم تحول إلى الرواية في بداية القرن الجديد. فأصدر "حبّ الزّمن المجنون" (2001) و"قبّة آخر الزّمان" (2003) و"بحر هادئ، سماء زرقاء" (2004) و"تغريبة أحمد الحجري" (2006 . وهي تنتمي إجمالا إلى اللونين التاريخي والواقعي. ومدارها على القيم الأصيلة التي تربى عليها المؤلف والتي بدأت تعصف بها تيارات وافدة من هنا ومن هناك. ومن الصنف نفسه أيضا أبوبكر العيادي الذي اتجه في رواياته "لابس الليل" (2000) و"مسارب التية" (2001) و"أندلسيات" (2002). إلى تصوير الذات والحياة والواقع دون الانحباس في اتجاه سردي بعينه. ومن هذه الفئة كذلك حفيظة القاسمي التي لفتت الانتباه خاصة بروايتها المتعددة الأجزاء "رشوا النجم على ثوبي" ذات الطابع الوجودي الرمزي والنبرة الصوفية الشعرية.

ومن هذه الزمرة أيضا عباس سليمان الذي تتسم أعماله الروائية بالميل إلى معالجة قضايا العولمة وانعكاسها على الواقع العربي والتونسي المحلي ("النّسيان" 2003 و"أيّام إضافيّة أخرى" 2007 و"سفر التّيه" 2008 و"جحيم في الجنّة" 2009) . وينتمي إلى هذا الصنف نفسه مصطفى الكيلاني الذي لم يفتأ يراكم منذ الألفية الأولى من هذا القرن العناوين الروائية بعد أن بدأ قصاصا. فإذا استثنينا روايته "مرايا الساعات الميّتة" 2004 التي اختار أن تكون في لون الخيال العلمي، فإن رواياته الأخرى ("نزيف الظلّ" 2001 و"آخر الأجراس" و"بدء الخطر" 2005 و"كازينو فجّ الريح" 2009) تتراوح بين التجريب والواقعية الجديدة وتتداخل فيها الهموم الذاتية والوجودية والانشغال بكوابيس الواقع المتأزم.

وثمة صنف آخر هو كتاب الرواية الذين جاؤوها من الشعر لعل أبرزهم حافظ محفوظ وعبد الجبار العش. فالأول في رواياته "ارتباك الحواس" (1996) و"حارس الملائكة" (1998) و"مكعب الحكمة" (2003) و"حورية" (2005) يتخذ الشخوص والأحداث رموزا لرؤى فكرية وفلسفية وجودية منها عزيز العبادلي في حارس الملائكة وودياس الكراولي في ارتباك الحواس. وهذا الطابع الذهني المجرد فسح للمؤلف المجال لتوظيف العجيب والغريب والأسطورة على نحو مكثف مع كسر الحواجز القائمة بين السرد والشعر. ومن هذه الفئة فضيلة الشابي التي تميزت بغزارة إنتاجها الشعري. فقد أصدرت روايتين يغلب عليهما الطابع الفلسفي الوجودي ويتكثف فيهما العدول من صور وإيحاء ورموز وإيقاع داخلي ("الاسم والحضيض" 1992 و"تسلق الساعات الغائبة" 2000) . أما عبد الجبار العش فعلى تنوع المحاور التي تدور حولها رواياته "وقائع المدينة الغريبة" (2001) و"إفريقستان" (2002) و"محاكمة كلب" (2007) وهي المآزق التي يتخبط فيها الفكر العربي المعاصر والمسألة الأصولية والدكتاتورية في إفريقيا والقضاء في العالم الثالث - فإن بينها جامعا قويا هو رؤية المؤلف النقدية للواقع العربي والافريقي الذي بلغ درجة من التدهور جعلته يتجاوز الخيال. وهو ما يبرر لجوءه المكثف إلى العجيب والغريب.ومن الصنف نفسه فتحية الهاشمي التي أصدرت ثلاث روايات: "حافية الروح" (2005) و"منه موال" (2006) و"مريم تسقط من يد الله" (2009) وقد اتسم أسلوبها بالجرأة في تعرية المسكوت عنه وخرق المحظورات مع تنويع الخطابات وتكثيف التناص. ومن هؤلاء محمد علي اليوسفي الذي يغلب اللون التجريبي على رواياته "توقيت البنْكَا" (1992) و"شمس القراميد" (1997) و"مملكة الأخيْضَر" (2001) و"نهر الخيانات" (2002) و"دانتيلا" (2005) و"عتبات الجنة" (2007) حيث تطالع القارئ أساليب شتى من الكتابة السردية منها استثمار الذكرى والأسطورة والتراث الشعبي في معالجة قضايا الواقع الغوص في أغوار الذات الانسانية.

وهناك صنف ثالث من الكتاب عرفوا منذ البداية بكتابة الرواية منهم فرج لحوار. وذلك في سلسلة من الروايات وسمها ب"الموت والبحر والجرذ" (1985) و"النفير والقيامة" (1985) و"طقوس الليل" (2002). ومما صنف فيه هذا الكاتب انتماؤه إلى ما سمي مدرسة محمود المسعدي. ومثل هذا التصنيف يثير التساؤل عن مدى خصوصية التجربة عنده لأن الشرط الأول للابداع هو التميز. وإذا تجاوزنا هذا التصنيف وجدنا شواغل فرج لحوار سياسية وحضارية في المقام الأول لا وجودية عامة مثلما هو الشأن عند المسعدي، كما أنه يستخدم الرموز بكثافة في التشهير ببؤر الزيف والتدهور في الواقع. ومن الذين بدؤوا روائيين ثم واظبوا على النشر صلاح الدين بوجاه الذي أصدر منذ أواسط الثمانينات عدة روايات منها "مدونة الاعترافات والأسرار" (1985) و"التاج والخنجر والجسد" (1992) و"حمام الزغبار" (1992) و"راضية والسيرك" (1998) و"سبع صبايا" (2005). وهذه الروايات تكشف عن هاجس فني تجريبي قوي يتجسّد في التناص مع التراث الفصيح والدارج وتفجير أشكاله السردية والمزج بينها وبين خطابات عصرية مع تكثيف الرموز وتحميلها دلالات تتصل بالواقع المعيش في العصر الحديث.ومن المحاولات اللافتة في هذا الباب روايات آمال مختار التي تجنح إلى إقحام بطلاتها وأبطالها في مآزق متولدة عن المسافة الشاسعة بين أحلامهن والامكانات الضئيلة المتاحة لتحقيقها على أرض الواقع. وهو حال البطلة سوسن بن عبد الله في روايتها "على نخب الحياة" (1993) وكذلك "بطلة الكرسي الهزاز" (2003) الأستاذة الجامعية التي تعرضت إلى الاغتصاب مرارا في طفولتها. ثم انتقلت في روايتها الثالثة "المايسترو" (2006) إلى اتخاذ أبطال لها ذكور وإلى معالجة القضايا الوجودية.

ومن الكتاب الذين تميزوا بلون خاص من الكتابة الروائية الهادي ثابت الذي كاد يتخصص في روايات الخيال العلمي. وذلك في رواياته "غار الجن" (1999) و"جبل عليين" (2001) و"لو عاد حنبعل" (2004) . لكنّه انتقل إلى لون آخر بعيد عنه كل البعد في روايته "القرنفل لا يعيش في الصحراء" (2004) . ومن المحاولات الأخرى الجديرة بالاهتمام روايات محمد حيزي التي وسمها بمسافات الغبار أو "تفاصيل للفجيعة والرّماد" (تونس 1995) و"ذاكرة الملح" (تونس 1996) و"طفل ذلك القاع" (تونس 1997) والتي اختار فيها اللون الواقعي مع توظيف الاستبطان والتحليل الموسع في تصوير أوضاع الفئات المهمشة وتعرية تناقضات الواقع السائد. ويعد المحسن بن هنية حالة فريدة من حيث إنه راوح منذ البداية بين كتابة الجنسين السرديين معا وبغزارة لافتة. أما رواياته في حد ذاتها فتعكس هموما شتى شديدة التباين من جهتي القضايا المعالجة والصياغة الفنية بل حتى اللغة ("ثبات" 1998 و"أضغاث" 1999 و"الزمن ورؤوس الحية" 2000 و"على تخوم البرزخ" 2003 و"مرافئ الجنون" 2001 و"المستنقع أو التحليق" 2006). وإذا غضضنا النظر عن شرط الكم الكافي على الرغم من أهميته، إذ من الصعب وصف صاحب عنوان واحد أو عنوانين بأنه روائي إلا في حالات نادرة فإننا لا نعدم أصواتا روائية مهمة أو واعدة من مختلف الأجيال اقترن بعضها بروايتين اثنتين أوحتى برواية واحدة منها هشام القروي ("أعمدة الجنون السبعة") وعروسية النالوتي ("مراتيج" 1986 و"تماس" 1995) وصالح الدمس ("الرواية" 2000 و"حلم التفاح" 2009) وإبراهيم بن سلطان ("وتزهر الجبال الصّلدة" 1996 و"وردة السّراب"2001) ومحمد رضا الكافي ("خيط أريان" 1987 و"القناع تحت الجلد" 1990) ومحمد الجابلي ("مرافئ الجليد" 2004 و"أبناء السّحاب" 2010) وزهير بن أحمد ("تاج العمود" 2006 و"مدن تجري من تحتها الأفكار" 2010) والحبيب المرموش ("غروب الشرق" 1995 و"ريح الوقت" 2007) وبسمة البوعبيدي ("موسم التّأنيث" 2006 و"رائحة الخوف" 2009) ونور الدين العلوي ("ريح الأيّام العاديّة" 1998 و"مخلاة السّراب" 2010) وجلول عزونة ("العار والجراد والقردة" 1993) ومحمد آيت ميهوب ("خيوط الرمل" 1994) وحافظ الجديدي ("القبو والمطرقة" 1996) وفاطمة الشريف ("عذراء خارج الميزان" 1999) وكمال الزعباني ("في انتظار الحياة" 2004) وكمال الرياحي ("المشرط" 2006) وفضيلة المسعي ("معسكر الحب" 2007) وفوزي الديماسي ("زنيم مرة أخرى" 2008) ومنيرة الرزقي ("قليل من الرغبة " 2009) . فهذه الروايات وان عكست هموما شديدة التنوع منها النفسي العاطفي والذهني الوجودي ومنها الاجتماعي والسياسي وإن تراوحت بين الواقعية الجديدة والتجريب الخالص فإنها تشترك في تأكيد حقيقة ثابتة وهي أن عهد الكتابة الروائية النمطية قد ولى بلا رجعة وبأن كل عمل روائي ينبغي أن يستمد صياغته الفنية من طبيعة موضوعه. هذه في تقديرنا أبرز التجارب في حقل الفن الروائي بتونس. وهناك طبعا أسماء أخرى. لكننا لم نتوقف إلا عند الأبرز واللافت للنظر.
الرواية التونسية الناطقة باللغة الفرنسية

يعتبر الروائي وأستاذ الآداب الفرنسية علي العباسي أن الأدب التونسي المكتوب باللغة الفرنسية عامة يثير أسئلة خصوصية يمكن اختزالها كالاتي:
سؤال الهوية

إن السمات الطاغية دون أدنى شك على الأدب التونسي عموما هي اللسان العربي والهواجس المحلية والاقليمية التي تنزله منزلة أساسية ضمن الآداب العربية وكذلك التيمات والاشكاليات الجوهرية والفنية التي تشي ببعده الانساني ككل الآداب في العالم. ولكن هوية الأدب التونسي تشمل المدونة الناطقة بالفرنسية التي نشأت في بداية القرن العشرين ثم مرتّ على الأقل بثلاث مراحل وهي مرحلة التأسيس ومرحلة الانتشار ومرحلة البحث عن الذات. وهي فترات قصيرة نسبيّا (حوالي قرن من الزمن) تجعل من هذا الأدب ظاهرة فنية في طور التأصّل وفرض الذات، مع ما يشوب ذلك من صعوبات شكلية مثل التعامل مع لغة أجنبية وصعوبات أنتروبولجية متصلة بالانتماء والهوية وصعوبات تواصلية مثل ندرة القرّاء بلغة موليار.
سؤال القيمة الأدبية

غياب المقاييس الموضوعية في تقويم الفنون والاداب عمومًا وجدّة الأدب التونسي الناطق بالفرنسية في السياق العربي وقاعدة السوق التي تجعل من الكتاب سلعة تخضع للعرض والطلب ككل السلع وتحول دون انتقاء نهائي لقائمة تمثل الكتاب المستخدمين للغة الفرنسية في تونس. فلو اعتمدنا مثلاً (1) مقياس التراكم و (2) ومقياس الانتشار على مستويي المطالعة والنقد و (3) مقياس انتماء الكاتب إلى المجتمع التونسي بالولادة على الأقل، لما ظفرنا خلال قرن (من 1910 إلى 2010) بأكثر من 100 أثر جدير بالاهتمام. وهذا ما يجعلنا نعي بتواضع المدوّنة الأدبية التونسية الناطقة بالفرنسية ومحدوديتها كماًّ وكيفاً، بحكم كونها جديدة في تاريخ الأدب التونسي ولا تزال في طور النشأة بوجه عام.
سؤال الجنس الأدبي

لئن اتسم الأدب التونسي الناطق بالفرنسية في البدايات بطغيان السّرد (من أوائل القرن العشرين إلى تاريخ الاستقلال 1956) والشعر والشعر السردي في الفترة الثانية (من ستينات القرن العشرين إلى الثمانينات) فإن الفترة الثالثة منحت الأجناس السردية وخاصة منها الرواية الأولوية المطلقة. ويمكن قراءة هذه السّمة الأجناسية الطاغية بطرائق شتى نذكر منها يُسْر مقروئية الرواية عموما مقارنة بالشعر والمسرح، في محيط اجتماعي يعتمد العربية اللغة الأمّ ومنها عزوف الناشرين عن نشر الشعر والمسرح باللغة الفرنسية.
سؤال الجوهر

نشأ الأدب التونسي الناطق بالفرنسية محتشما في لغته، مقلّدا في أسلوبه الواقعي، متواضعا في أغراضه. ثم اختار تصاعديّا وبداية من فترة الاستقلال، القطع مع المدرسة الكولونياكية ومع اللغة الكلاسيكية. ومرّ إلى مرحلة البحث عن الابداع شكلا وجوهرا بترسيخ الكتابة في سياق فني متجدد خلال السبعينات وفي سياق سياسي متحوّل محليّا وعالميّا.وعمومًا يمكن اعتبار المبتدئين من الكتاب التونسيين الناطقين بالفرنسية - وهم قلّة - كتّابا محافظين أمثال : محمود أصلان ("عينا ليلة السوداء" 1940) والهاشمي البكوش ("ليبقى إيماني" 1958).ويمكن اعتبار الجيل الموالي - وهو يشمل الأكثرية بين تاريخ الاستقلال ونهاية المرحلة البورقيبية - جيل النهضة: صالح القرمادي وعبد الوهاب المدب وألبار مامي والهادي بوراوي والطاهر البكري ومجيد الحوسي ومصطفى التليلي وعبد العزيز قاسم وفوزي ملاح وأنور عطية وهالة الباجي ونينة مواتي وكلود خياط ومنصف غشام وشمس نظير وسعاد قلوز وغيرهم... ويمكن اعتبار الجيل الثالث (من الثمانينات إلى التاريخ الحالي) ، جيل الشكّ ومحاولة التجديد : فوزية الزواري وآمنة بلحاج يحيى وعائشة إبراهيم وسحنون مختار وعلي عبّاسي وعبد العزيز بلخوجة وحافظ الجديدي وفرج لحوار وغيرهم... والملاحظ أنّ السمات العامة والطاغية لدى الأجيال الثلاثة - وهي على التوالي التقليد والخرق والحيرة والشك ومحاولات التجديد - هي نفسها التي تسم تاريخ الاداب عمومًا وتاريخ الأدب الغربي خاصة، ذلك الذي يؤثر ولو نسبيّا في كتابة المبدعين التونسيين المستخدمين للفرنسية، فيؤثّرون هم أيضا، على الأقل نسبيا، في مسار الأدب التونسي بأن يبوّئوه مسارا متجانسا مع التطور الطبيعي للأدب العربي والعالمي.
ببليوغرافيا

تأليف جماعي، تاريخ الأدب التونسي الحديث والمعاصر، بيت الحكمة، قرطاج، تونس، 1996.
الجابري محمد صالح، تاريخ القصة التونسية نشأتهاوروادها، دار بن عبد الله، تونس، 1977.
جماعي، تاريخ الأدب التونسي:العصر الحديث والمعاصر، قرطاج، بيت الحكمة،1993.
السعدي أبو زيان، أضواء على الأدب التونسي، دار العمل للنشر والتوزيع، تونس، 2006.
في الأدب التونسي المعاصر، دار بن عبد الله، تونس، 1974 .
طرشونة محمود، من أعلام الرواية في تونس، مركز النشر الجامعي، تونس،2002 .
نقد الرواية النسائية في تونس، مركز النشر الجامعي، تونس،2002.
القاضي محمد،دراسة في الرواية التونسية،دار سحر، تونس، 2005.
الكيلاني مصطفى، مختارات من الرواية التونسية، بيت الحكمة، قرطاج، تونس، 1990.
من أدب الرواية في تونس،الشركة التونسية للتوزيع، تونس،.1988
Abaza Mohamed,l’évolution du roman tunisien, 1965-1982, thèse de 3 eme cycle,lyon III,1892.
Fontaine Jean,Bibliographie de la littérature tunisienne contemporaine en arabe1954-1996,Tunis,éd IBLA,1997
Écrivaines tunisiennes,Tunis,éd Gai Savoir,1990
Études de la littérature tunisienne 1984-1987,Tunis,éd Nawras,1989
Historie de la littérature tunisienne par textes,tome I:des origines à la fin du XIIe siècle,Le Bardo,éd Turki,1988
Historie de la littérature tunisienne par textes,tome II:du XIIe Siècle à l' indépendance,Tunis,éd Sahar,1994
Historie de la littérature tunisienne par textes,tome III:De l'indépendance à nos jours,Tunis,éd Cérès,1999
la littérature tunisienne contemporaine,Paris,éd CNRS,1990
Propos de littérature tunisienne,1881-1993',Tunis,éd Sud,1998
Regards sur la littérature tunisienne,Tunis ,éd Cérès Productions,1991
Vingt ans de littérature tunisienne 1956-1975,Tunis,éd Maison tunisienne de l’édition,1977
Ghazi Férid,Le roman et la nouvelle en Tunisie,MTE,Tunis,1970

* منقول عن الموسوعة التونسية المفتوحة
الرواية التونسية - الموسوعة التونسية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى