إبراهيم محمود - مناقب المؤخرة

قد أكون صائباً في مستهل كلامي، وهو أن مجرد تهجئة قارئ ما لهذا العنوان، سرعان ما يتحسس مؤخرته، أو يستحضرها بصورتها أمامه، وما إذا كانت " سليمة " من الطعان أم لا. سوى أنني على بيّنة تامة، أن حالة من التلبُّس المؤخراتية تداهمه. ولكي أكون أكثر وضوحاً، فإنني أعلمه، وأعلِم سواه، أنني أنا نفسي أملك مؤخرة كغيري، وهذه بداهة، سوى أنني حين أشير إلى أن مجرد تهجئتها يهِبني أو يولّد لدي شعوراً معينا، فهذا تأكيد على نقطة محورية أريد تسميتها هنا، نقطة أجدها مهمة، كثيراً، ما يغفَل عنها، أو يجري التعتيم عليها لأكثر من سبب، وأن نوعية هذه الحالة لا بد أن تتلون بخاصيات الزمان والمكان، العمر والجنس والثقافة، سوى أن إبقاء المؤخرة كلمة صامتة، معتَّماً عليها هنا وهناك، يبقيها عرضة لمكاشفة معرفية أكثر.
إذ كيف أمكن للمؤخرة تاريخياً، أن تعرَف بقائمة من الدسائس، الشبهات، الغوايات، والتلبسات؟ وهي في هجرة وارتحال في الاتجاهين، محمَّلة بأنواع من التصورات بين الرجل والمرأة، ذلك ما يستحق عناء البحث، أو على الأقل إماطة اللثام عما يمكن النظر فيه ومساءلة موقعه !

السؤال العالق :
ماالذي يخيف في المؤخرة، لحظة رؤيتها أو الإشارة إليها، أو كتابتها باسمها؟ لا بد أن هناك رهاباً" فوبيا " ما على تمام الصلة بمأثرة موقعها في الجسد، وتحميلها ما لا يحمَّل خارجاً !
ثم ماذا يعني أن يمرر أحدهم يديه على مؤخرته" على ردفيه "، وينظر يميناً- شمالاً، تحديداً حين يكون شاباً، أما الفتاة فلها وضعية لافتة أكثر في عملية التمرير: الإشارة المرسلة للخارج، أو حين يُرى الأول، وتبعاً للمكان، وكذلك الثانية، وطريقة التمرير ونظرتها المحيطية.
أرى أن المؤخرة هذه تشكل الفِناء الخلفي للجسد، ولكنها في بعض الحالات تشكّل القلعة الأمامية له. ثمة تحول/ ارتحال دلالي له مهماز إغرائي، جمالي من نوع خاص موصول بخزّان هائل من التصورات والتخيلات ذات العلاقة بخريطة الجسد، وطريقة وضع إحداثياته جنسانياً.
في الحالتين ثمة التهيب مما يمكن أن يجري خفيةً. فالمعروف، هو أننا غالباً ما ننظر أمامنا، كما لو أننا بالمفهوم الجسدي، لسنا أكثر من " أمام ". وراء هذا الإهمال أو التناسي، أو الغفل من التسمية، يمكن التأكيد على مدى سوء إدارتنا لجسدنا بوصفنا أماماً لا خلفاً، ولا يتم هذا الترتيب إلا من منظور جنساني عالي المستوى، حيث إن الأمام هذا يعرّفنا بالذكورة، وحتى بالنسبة للمرأة فإنها تصوَّر أماماً، كما لو أن الصدر والبطن مجرد مداخل إلى جسدها.
يمكن الذهاب أبعد مما أشيرَ إليه، على مستوى سيميائي، وهو أننا نرغب في رغبة تتطابق وما نحن تواقون إلى رؤيته، رغبة تتمثل في أن نرى من يرانا، أي حيث يكون تقابل، أو تواجهٌ ما، كما لو أن نظرة الآخر القويمة، الاستقرائية اللعوب أحياناً، والماكرة أحياناً أخرى، والفضولية في جوانب منها أحياناً ثالثة، تعرّي فينا ما لا نرغب في إظهار، وهو ما يخفى علينا خلفاً . ذلك يفصح عن مدى تحركنا بمعايير إنمائية للجسد، ضمن مسارات، وممرات آمنة للجسد كما يخيَّل!
لكن نظرة شاملة إلى كلية الجسد، وتعقّب نقاط الخلل في مثل هذا التسويق لمفهوم الجسد، وهذا التلفيق لحقيقته، تضعنا في مواجهة ما هو كارثي، وهو أن المؤخرة متنحاة، أو خارج نطاق الرعاية والعناية من خلال ما يطرَح عنها، أو من خلالها، دون معرفة أن مكمن الخطورة فيها.
فليس الفرج " المسمّي للاثنين " ليس أول الجسد، وإن كان يتقدمه، والمؤخرة ليست آخر الجسد، وإن كانت تتخلف عنه. الاتجاه يمارس تشويشاً، جرّاء خطأ في التسمية، يستند أساساً إلى تركيب ثقافي لبنيان الجسد، وتحديد إحداثياته المرئية والخفية من خلال مفهوم المسموح والمحظور، لتكون المؤخرة صاحبة القدح المعلَّى، وإن كانت الدالة الكبرى على مفارقات الجسد قيمياً .
ولو أننا أمطنا اللثام عما هو خفي في هذا المأخوذ بذكورته، لتبين لنا أنه شديد الخوف على ذكورته، وبالمقابل من مؤخرته، وأن استغراقه في الاهتمام الذكوري " الأمامي " يترجم ما هو تراتبي مخلّ بالنظام الفيزيولوجي نفسه فيه، وهو ما يعصف بمفهوم سلطة الجسد عامة، وكيف يتم اختزالها في جانب محدد منه، كما لو أن المؤخرة في مقام اللامسمى الجسدي .
لكن علينا ألا ننسى الإسراع إلى لزوم التأكيد على مكمن الخطر من هذا اللامسمى بالذات، أي ما يحسب له الرجل حساباً في قرارة نفسه، وإن أولى " أمامه " القيمة الاعتبارية الرئيسة.
فالمؤخرة التي تتحمل تبعات اطراحه، وهذا التهميش لها، تغدو هدفاً مرصوداً من قبل الآخرين، وهو ما يمكن تبينه على مستوى الملفوظ اليومي قبل الملامسة الفعلية. أي من خلال عبارات ينال بها الشاتم من المشتوم، وهو يعنيه في مؤخرته " بالنيل منه مؤخراتياً "، وكيف تصبح المؤخرة في موقعها المنتهك هذا بديلاً عن " أمامي " المرأة " المؤخرة وقد صارت فرجاً، والراكب صار مركوباً، وهو ما يمثّل تجريداً أعظمياً لكينونته الذكورية وبتراً لها .
إن الحديث عن " أخلاقية " المؤخرة غير المعترَف بها، تعكس تاريخاً طويلاً أو تليداً من مدى غبن المؤخرة بالذات، أعني بذلك، متى الاستهتار بها، من خلال هذا التشويه لمقام الجسد .
في عبارة " ولُّوا الأدبار " يمكن تلمس علاقة خفية مكانية: لحمية شديدة الارتباط بالدور الذي تؤديه المؤخرة واقعاً، وهو العائد إلى إشهار الهزيمة، فالدبر مؤخرة، أي ما يتأخر علن الجسد، على مستوى التوصيف والتعريف موقعاً، وما الهزيمة إلا الاعتراف بحصول انتهاك وشيك للجسد من الخلف، وهو ما يتهدد به الرجل، ذلك التهديد الذي كثيراً ما نعلم بأمره في إطار العلاقات التنابذية أو التشاتم البيني بين رجلين أو أكثر، حيث تكون المؤخرة هي نقطة ضعف الرجل، أو وهي في معرض الشتم، أو حيث تكون مرصودة من قبل المهدّد .
لا تعود مناقب المؤخرة، وهي في بعض من أوجهها مريحة للرجل، في طرح الفضلات الزائدة، أو في إبقائها خفية، وهي بمظهر بارز تأكيد فحولة أمامية: مؤخرة صلبة لها صلة مباشرة بما يتباهى الرجل، أي عضوه من موقع الرجولة المعترَف بها هنا وهناك. سوى أنها لا تستر عورته التي لا يعبأ بها كما ينبغي، وهي تحمَّل بتصورات ثقافية تعنيه وليس طبيعتها، إنما تشكل خرقاً لنظامه الذكوري، في الأوقات العصيبة حين يشعر بالمهزومية أو الاندحار.
وفي الوقت الذي يجري اغتصابه أحياناً، أو توصيفه بما هو أنوثي، أي تجريده من ذكورته، وما في ذلك من إخصاء وتعديم صفته الجنسية، يجري تحويل جسده إلى آخر مضاد لما كان عليه بمقدار تعرضه لخروقات الآخر المتغلب عليه، أو من يسيطر عليه .
أن تكون المؤخرة عمياء أو في حكم العمى، فليس لأنها لا " تبصر " وإن كانت العين مغايرة لها اتجاهاً، إنما هو حكم قيمة محوَّل من خلال محورة جنسانية " الأمام " واستبدال المواقع، ولهذا، فإن التحكم بالجسد من " الخلف " يكون بمثابة امتلاك الجسد، وبناء عليه، ينبني شعور مضاعف بالخوف الخفي لدى صاحبه، مما هو غافل عنه، وهو ما يستنزف قواه الحية عملياً .
إن الاعتراف بالمؤخرة كمؤخرة، كجهة رئيسة في الجسد، لا يمكن له أن يتم إلا من خلال التحرر من عقدة الذكورية التي لازمته أزمنة طويلة، ليعيش سوية جسدية، حيث يتساوى لديه الأمام والخلف/ الوراء، وهذا ما يستحيل تحقيقه في ضوء المعيش اليومي هنا وهناك !
ذيل للمقال: في معرض الكتاب العربي ببيروت، لعام 2011، حيث صدر كتابي " جنازة المؤخرة: في مائة وواحد وعشرين نصاً " عن الدار العربية للعلوم، بيروت ، 2010، استوقفتني فتاة في مقتبل العمر، وقد عرفتني مؤلفاً له، وسألتني مباشرة : استاذ ابراهيم، هل لك أن تقول لي لماذا ألَّفت " جنازة المؤخرة "؟جاوبتها في الحال، وقد استملحت سؤالها وجرأتها: حبَّاً في المقدَّمة. فانفجرت ضحكاً !

إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى