سوف عبيد - مدخل إلى قصيد "الومضة" في تونس

ورد في لسان العرب قولهم أومض أي لمع
وأومض له بعينه أومأ

وفي الحديث ورد ـ هلّا أومضتَ إليّ يا رسول الله

أي هلّا أشرت إليّ إشارة خفيّة من أومض البرق وومض . وأومضت المرأة أي سارقت النظر

قال الشاعر ساعدة الهُذَلي في الغزل

تَضْحَكُ عَنْ غُرِّ الثَّنَايَا نَاصِعٍ = مِثْلِ وَمِيضِ الْبَرْقِ لَمَّا عَنْ وَمَضْ

وقال نصر بن سيّار يُحذّر بني أميّة

أرى تحتَ الرّمادِ وميضَ جَمر = ويُوشكُ أن يكونَ لهُ ضِرامُ

وأقول إنّ الوَمضة من الشّعر هي القطعة منه في إيجاز وعُمق

فهي اِقتصاد في المبنى ووفرة في المعنى

وقد أضحى قصيد الومضة منذ الثلث الأخير من القرن العشرين هاجس العديد من الشّعراء في تونس ولعل الشعراء صالح القرمادي والحبيب الزناد والطاهر الهمامي ثمّ عزوز الجملي يمكن اعتبارهم من رواد هذا الشكل الجديد في المدوّنة الشعرية العربية .

ومن الشعراء اللاحقين بعدهم لا مناص من ذكر سالم اللبّان الهكواتي الذي كتب في هذا النوع الشعري معتمدا على تقنيات الهايكاي الياباني وله فيه رأي بالإضافة إلى مدونته الكبيرة والمهمّة وقد أدرجنا بحثها في كتابنا ـ حركات الشعر الجديد بتونس ـ الصادر سنة 2008 والذي يمكن قراءته وتنزيله من موقعي

حركات الشّعر الجديد بتونس ـ 2008 | سُوف عبيد

ولا شك أن الجيل الجديد الذي ظهر في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين قد اِستفاد من إنجازات سابقيه في كتابة هذا الشكل الحديث من الكتابة الشعرية الذي يعتمد خاصة على الإيجاز والمباغتة وتناول الجوانب الدقيقة والبسيطة من زوايا مختلفة وخفية في مواضيع الحياة العامة أو الطبيعة والشّجون الذاتية ولا شك أن هذا المنجز الشعري الجديد يحتاج إلى تناول من جوانب عديدة حيث أمسى يمثل جزءا كبيرا من المدوّنة الشعرية الحديثة

فهذا القصيد الذي يعتمد الإيجاز والتركيز والمباغتة مُستلهَم في جانب كبير من سماته من تعريب الآداب العالمية وخاصة من نصوص قصائد الهايْكايْ اليابانية غير أن البيت الشعريَّ العربي القديم في اِستقلاليته يمكن أن يكون هو أيضا من بين المراجع العديدة لهذا النوع الجديد من الشعر وسواء كانت هذه القصائد قد ظهرت ضمن تسميات مختلفة مثل ـ ومضة ـ هيكة ـ لمحة ـ توقيعة ـ برقية ـ أو غيرها فإنها تُمثل إضافة نوعية جديدة في مسيرة الشعر العربي لذلك يجدُر بنا أن ننبري لها بالرّصد عسى أن نقف على بعض خصائصها وصفاتها في المعاني والمباني

1 ـ برقيات مهرّبة ـ للشاعر الحبيب المرموش

ـ برقيات مهرّبة ـ هي مجموعة من ثلاثين نصا شعريا وردت ضمن المجموعة الشعرية للأديب الحبيب المرموش الصادرة عن دار الجسر الصغير سنة 2013 والحبيب المرموش صاحبُ مدوّنة متنوعة في الكتابة فقد نشر في القصة القصيرة والرواية والشعر إضافة إلى مساهاماته الأخرى في الصحافة ممّا يؤكد تضلعه في أساليب النثر والنّظم ممّا يجعل من هذا النص عملا ذا مصداقية أدبية

برقيات مُهرّبة ـ هو العنوان الشامل للنصوص الشعرية الثلاثين الواردة ضمنَه والعنوان وارد كذلك ضمن المجموعة الشعرية ـ سينيوريتا ـ والكلمة تعني نوعا من السّمك الصغير الذي يقوم بتنظيف الأسماك الكبيرة من الزوائد فيه أو العالقة به وبهذا المعنى لعل الشعر لدى الحبيب المرموش إنما يعمل على إزالة الأدران العالقة بالوجدان وتطهيرهة

وـ برقيات ـ توحي بمعنى السرعة واللّمح وبلوغ المدى البعيد مع التخفّي وفي أسلوب الإيجاز والاِقتضاب في المعنى أيضا وقد تعتمد البرقية الرمز والتشفير من ناحية اخرى

أما كونها ـ مُهرّبة ـ فالمسألة تتطلب إيضاحا خاصا وقد تعرّضت المقدّمةُ لهذه المسألة حيث كتب سالم اللبّان الهكواتي قائلا: هنا يَحُقّ طرح السؤال؟ مهربة من أين؟ متى؟ إلى أين؟ وما الداعي لتسريبها؟ وتهريبها؟هل في محتواها ما يكتسي صبغةً اِستعجاليةً تجعل منها برقياتٍ أو صبغةً سريةً تُبرّر تهريبَها من رقابة ما؟ أمْ هي مُهربة من آليات الإنشاء التي درج عليها الشاعرُ؟

إنها أسئلةٌ دقيقةٌ ووحدها القراءةُ العميقةُ كفيلة بالإجابة بما يُشفي الغليل او بالقليل من الإجابة

ومن الآن نقول إننا نستبعد الهاجس المُخابراتي والأمني في هذه البرقيات فجدير بنا ان نقرأ مثل هذا العنوان قراءةً إبداعية مَحضة لنقفَ فيه على مُكونات التشويق والغرابة والمفاجأةِ والخروج عن سياقات النصوص الشعرية الأخرى التي تَضمّنتها المجموعةُ الشعرية

لابأس إذن أن نتوقّف عند سمات العناوين الواردة في هذه البرقيات الشعرية وهي ـ سكران ـ لقاء ـ عزاء ـ ولادة ـ اكتشاف ـ عادة ـ فراشة ـ قطاف ـ عناء ـ ذكرى ـ حلم ـ حنين ـ قبلة ـ نون ـ يقظة ـ تحول ـ رجاء حيرة ـ نسيان ـ نزوة ـ زهور ـ وحيدة ـ عبث ـ ألفة ـ لوعة ـ احتراق ـ سقوط ـ ذكريات ـ عنوسة ـ أمنية

فجميع العناوين كلماتٌ مفردةٌ وبدون تعريف وهي في صيغة أسماء للمصدر في أغلبها بحيث أنها تفيد الإطلاقَ والتعميمَ والتجريد وهي تُعبّر عن الحال والوجدان في أكثرها مثل ـ سكران ونسيان وعناء ووحلم وتحول ورجاء وأمنية وغيرها

ماذا يمثل العنوان؟

أحيانا يكون مبتدأ والقصيدةُ كلها بمثابة الخبر مثل قصيدة ـ سكران ـ

كان يمشي ويصطدم بالجدران
حاولت مسكه فقال ساخرا
اعرف طريقيجيدا انا الظلام

أحيانا يكون العنوان مضادا لمضمون القصيده وعكسه تماما مثل قصيدة ـ لقاء ـ

عندما وصلتُ متأخرا عن موعدها
قلت له آسف جدا أيها النقهى الممتلئ
بغيابها

وكقصيدة ـ عزاء ـ

وحدها القهوة السوداء
ظلت تترشف فرحتي
قطرة قطرة

وقد يكون العنوان مُشتقّا من كلمة في القصيدة مثل قصيدة ـ ولادة ـ

عندما رأيتك تذكرت
كل شيء...كل شيء
إلا تاريخ ميلادي

ومثل قصيدة ـ قطاف ـ

أنت التي قطفت وردة روحي
وتركت شوكها الدامي
ينبت في جروحي

وكذلك في قصيدة ـ عناء ـ وـ قبلة ـ ونون ـ ويقظة ـ

وقد يكون العنوان مستنبطا من معنى القصيدة مثل قصيدة ـ سقوط ـ

رقة الخريف المرمية على الرصيف
لم تختر نهايتها ولم تمهل الريح
لحظة للاعتذار

وكذلك في قصيدة ـ رجاء ـ

رَبِّ هَبْ لي
من يُرتّب أثاث
قلبي

ويكون العنوانُ أحيانا الأساسَ الذي تُبنى عليه القصيدةُ وهو المدارُ الذي تدور عليه كقصيدة ـ عُنوسة ـ

تعبتُ تعبت
من يدلني على قلبي
أمنحه مفاتيحه الصدئة

و قصيدة ـ عناء ـ

أنت طائر حُر وانا
زهرة خرساء
أعاني من الظلمة والضياء

فالعناوين في هذه القصائد ذاتُ دلالاتٍ واضحة أحيانا وتبدو أحيانا في حاجة إلى بحث دقيق للوقوف على التفاعل الخفيّ بينها وبين مَتن القصيدة وهي على كل حال تُؤدى إضافةً واضحة إلى القصيدة بحيث يصبح العنوان جزءا مُهما منها بل قد يكون الكلمةَ المفتاحَ أحيانا

لِشكل الحُروف ولتوزيع الأسطُر على الورقة أثرٌ واضح على القراءة وتسليط المعنى وتكثيفه أو شحنه بإضافاتٍ متنوّعة لدى القارئ إضافةً إلى النُقط على السّطور وغيرها من علامات الاِستفهام والتعجّب والمَطاط والفواصل وغيرها بما تُضفيه من إبراز واِنتهاء واِستئناف وفصل ووصل إلى غير ذلك من الإيحاءات والحَوافّ

والملاحظات في هذه السّياق حول القصائد الثلاثين أو هذه القصيدة المتعددة الفقرات أو التموّجات هي ملاحظات كثيرة من بينها سِمَةُ الثلاثية الواضحة فكل قصيدة وردت في ثلاثة أسطر وكل ثلاثِ قصائدَ في صفحة ممّا يؤكد القصدية في اِتّباع هذا النّسق

إن تشكيل الكلمات على نمط هذه الأسطر يُفضي إلى قراءة مُعينة إذا نحن التزمنا بنسق في الوصل والفصل بين الجُمل فقصيدة ـ عناء ـ مثلا قد وردت على هذا النحو

..أنت طائر حرّ وأنا
..زهرة خرساء
...أعاني من الظلمة والضياء
هل نقرأ ـ أنتَ ـ أو ـ أنتِ ـ

وهل نقرأ السطرَ الأول باعتباره موصولا بالسطر الثاني أو منفصلا عنه؟

وهل يمكن اِعتبارُ السّطر الأول جملتين بتضمين النقطتين لمعنى اِفتراضي

ولقد تعرّض بعضُ المفسرين للقرآن إلى أهمية بعض مواضع الوقف والفصل والوصل في الآيات وبيّنوا الفرق الواضح في المعاني عند كل قراءة كما عرض ذلك الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عند تفسيره لأول سورة البقرة

إن تشكيل النص على الورقة يكتسي أهميّةً ربما تُضفي على المعنى إضافات مُهمةً لذلك من المُستحسن أن نُوليَهُ أهميةً دقيقة بالإضافة إلى ضرورة الشكل لبعض الكلمات أو الحروف على الأقل لإبلاغ المعنى المقصود بعينه

ويتسنى لنا أن نلاحظ من جهة أخرى أن هذه القصائد تبدأ بقصيدة فيها حال الظلام وتنتهي بقصيدة فيها الظلام أيضا حيث يقول في القصيدة الأولى ـ سكرانـ

كان يمشي ويصطدم بالجدران
:حاولت مسكه فقال ساخرا
...أعرف طريقي جيدا انا الظلام

أما القصيدة الأخيرة فهي بعنوان ـ أمنية ـ ومن ضمن كلماتها ـ الليل ـ الذي يوحي بالظلام حيث يقول

تتمنى الوسادة الناعمة التي
أضع رأسي كل ليلة على صدرها
أن أحس بها

فالظلام نجده في القصيدة الأولى بصريح الكلمة ونجده أيضا في آخر قصيدة مُضمَّنا في كلمة ـ ليلة ـ فما الأبعاد التي يُمكن أن يُوحي بها الظلام في القصيدتين؟ مع العلم أن كلمةَ الظلام ومُرادفاتِها مبثوثةٌ في بعض القصائد الأخرى...إننا حين نلاحظ مثل هذه الملاحظة نرُوم أن نتلمّس الخيط الرابط بين مختلف القصائد وهل توجد هندسة مدروسة في ترتيب القصائد مثلا؟ وما العلاقة بين القصيدة الأولى في الاِفتتاح وبين القصيدة الأخيرة في الختام؟

وبوسعنا أيضا ان نتتبّع خيطا دقيقا بين بعض القصائد المتتالية مثل القصائد الأربع الأولى التي تبدو بينها علاقةُ اِسترسال وتواصل وبعضها يُفضي إلى بعض... وكذلك الأمر بين القصائد السابعة والثامنة والتاسعة

فهل يُمكن أن نعتبر هذه القصائد فقراتٍ أو مفاصلَ ضمن قصيدة واحدة؟

الحبيب مرموش في هذه النصوص قد سار على درب جديد في الشعر يعتمد على اللّمح والإيجاز والتركيز واقتناص الحالة النفسية أوالمشهد او المناسبة وبهذه المواضيع الصغيرة او اللقطات الهامشية يجعل منها مناسبات كبيرة بما ينفُث فيها من شجَن وعُمق فتستحيل إضافة نوعية في مسيرة الشعر العربي ويبدُو أن الشاعر قد أضحى من ٍالغاوين لهذا النوع الطريف من النّسج فنشر على منواله في ديوانٍ له جديدٍ بعنوان ـ يشتاقُني الرّحيل ـ نُصوصا أخرى تحت عنوان ـ رسائل مهرّبة ـ ولعل الصّلاتِ تلوح وثيقة بينها وبين هذه ـ البرقيات المُهرّبة ـ مثلما تبدُو من ناحية أخرى واضحة في ذاكرة القافية من صدى البيت الشعري القديم كقوله في إحدى البرقيات وهي بعنوان ـ قطاف ـ

أنت التي قطفت وردة روحي
وتركت شوكها الدامي
ينبت في جروحي

غير أن الحبيب المرموش يترك الشعر ينساب مُنثالا طليقا ومُنفتحا على الخيال وقابلا لكل اِحتمال مثل قوله في برقية ـ ولادة ـ

عندما رأيتك تذكرت
كل شيء...كل شيء
إلا تاريخَ ميلادي
فكأن اللقاء بينه وبينها أصبح بدء التاريخ

2 ـ هَيْكات ـ الشاعرة سيرين بن حميدة

ومن الأقلام الشابة الجديدة أيضا نتوقف عند قلم الشاعرة سيرين بن حميدة التي يبدو أنها اِنخرطت في النسج على منوال هذا الشكل الطريف والظريف من الشعر الجديد والذي أدرجته بوضوح ضمن شعر الهايكاي ذي المرجع الياباني مثل قولها في هَيْكتها

الهيكة الأولى ـ حبيبان

بدرٌ خجول
عناق حميميّ
البحر والسّماء

هي لوحة ذات عناصر ثلاثة هي البدر والبحر والسماء جعلت منها تعبيرا عن عناق حبيبين فأوحت بمعاني البهجة والجمال من خلال البدر وبالرّفعة والصفاء من خلال السماء وبالعمق والمدى من خلال البحر فأصابت الغرض بكلمات معدودات لذلك أرى كلمة ـ خجول ـ زائدة فكان يمكن حينئذ الاِستغناء عنها أو بالتعبير عن الخجل بصورة أخرى .

الهيكة الثانية ـ لقاء

ذاكرتي اِعشوشبت
أزهار قلبي تفتّحت
لمحتك من بعيد.

الجملة الاِسمية الأولى والجملة الاِسمية الثانية وقد تلتهما جملة فعلية أسلوب أضاف شحنة معنوية واضحة وحققت الومضة الباهرة.

الهيكة الثالثة ـ

صحراء قاحلة
سراب ماء زلال
حياتي بدونك!

هي ثلاثة أسطر من دون عنوان وأرى فيها الكثير من الزوائد فالصحراء قاحلة بطبيعتها والسراب من خيال الماء والماء زلال فالكلمات من جنس بعضها فهي هيكة ولا هيكة.

الهيكة الرابعة

خلسة لمحتكَ ...
من بين ثنايا الماء...
أُصبتُ بنزلة حبّك.

لا أدري ! إضافة ثلاثة نقط إلى السّطر الأول والثاني ماذا يضيف إلى المعنى لذلك يجب حسن التصرف في مسألة التنقيط عامة كي لا تكون سَبَهْللا خاصة وأنّ الهيكة على قدر كبير من الحبكة والطرافة إذ رأت الطيف في الماء فوقعت في حبه حبا مباغتا جارفا وقد نجحت إلى أبعد الحدود في قولها ـ أصبت بنزلة حبك ـ أوّلا لأنه تعبير جديد في الشعر العربي وثانيا لأنه مستنبط من الواقع اليومي وثالثا لأن ـ نزلة البرد ـ من مجال الماء الذي رأت فيه صورته فمرحى لها أنها لم تر وجهه مباشرة وإلا كانت أصيبت بما هو أكثر،،، وهذه الهيكة تذكرني بلقاء الشاعر المعتمد بن عباد بفتاة عند النهر بينما كان في نزهة مع الشاعر ابن عمار وتذكرني بالشاعر علي اِبن الجهم في قوله

عيون المها بين الرصافة والجسر = جلبن الهوى من حيث أري ولا أدري

ألا يمكن أن يكون هذا البيت هيكة عربية؟

الهيكة الخامسة

كلّ يوم،
أُؤجّل نسيانك
إلى الغد ..

هذه من جديد القول في غرض التذكر واِِستحضار الأحبّة وهو غرض زاخر لدى أغلب الشعرالعرب قديما وحديثا وقد أفلحت هذه الهيكة في تناول المعنى بأسلوب مبتكر وذلك بأن قلبت المعادلة فركزت على تأجيل النسيان لتأكيد التذكر.

الهيكة السادسة

ضبع وحمار وحشيّ
اِحتفلا ذات يوم
في العرس الإنتخابيّ!

تندرج هذه الهيكة في الشّعر ذي المقصد السياسي ولكن في نبرة تهكمية نقدية واضحة مثل الهيكة الموالية

في الطّريق العامّ،
اِحتضن كتابًا ...
فسُجنَ بتهمة: البغاء الثّقافي!

إنها هيكة تعبّر عن الجدب الثقافي السائد بصورة جعلت حمل الكتاب جريمة يعاقب عليها القانون فبالبساطة وصفت حالة معقّدة في المجتمع.

الهيكة الثامنة ـ لسعة

قبلة حارقة
خدّ متورّد
بعوضة هاربة.

ثمّة مخاتلة للمنلقّي الذي يذهب به الظن أنها قبلة ولكنه عند السطر الأخير يُسحب من تحته البساط ليدرك بعد فوات الأوان أنها لسعة بعوضة وهذه الهيكة تذكّر بقصيدة بشّار بن بُرد التي يصف فيها إحدى مغامراته ويختمها بقوله

قولي لهم بَقّة لها ظفر = إن كان في البقّ ماله ظفر

الهيكة المعلّقة

هي مجموعة من الهيكات المتوالية كتبتها سيرين بن حميدة تصف حادثة مصرع الأميرة ديانا وهي لعمري أسلوب جديد وطريف اِعتمدت فيه على إبراز مراحل ذلك الحدث لقطة لقطة من خلال هيكات متلاحقة فتمكنت إلى حد كبير من تطوير أسلوب الهيكة التي كانت في الأصل تصور الحدث في تفصيله أو الحالة في خفاياها او المشهد في دقته لتجعل من الهيكات سلسلة مترابطة ـ تماما مثل مراحل المعلقة الجاهلية ـ للتعبير عن حدث متشعّب وجَلل...أوَ ليس الشعر تجاوزًا للزمان والمكان وتواصلا بين الثقافات...!

كش ... الأميرة ماتت
* باباراتزي

ليلٌ أسخمُ.
سيّارة ملّتِ الوقوف
بها شبح وضوء قاتل

* مراقَبةٌ

عيْنا قنّاصٍ ...
مع أميرة باسمة ترحلُ...
وعاشقٍ ثريّ.

* مضمار

طريقٌ هادئة
استنفرتها صرخةٌ قارعة
اِستغاثت ... هبّت عاصفة

* "فلاش"

في عُمْق اللّيل
غشى الأبصارَ
جِهارُ الحقيقة !

* حادثٌ

في النّفق الطّويل،
روحٌ يحاول الإمساك بـ ...
خيط الحياة!

* رحيلٌ

جنازة ملكيّة.
أميران يبكيان،
كنزهما تحت التّرابِ.

إنّ الشاعرة سيرين بن حميدة قد اِستوعبت خصائص قصيدة ـ الهيكة ـ ومضت نحو التجديد فيها.

3 ـ بجناح واحد أطير ـ للشاعرة سُونيا عبد اللطيف

الشاعرة سونيا عبد اللطيف في ديوانها الصادر عن دار الاتحاد للنشر بعنوان - بجناح واحد أطير - يندرج لا محالة في هذا الشكل الجديد من الشعر الحديث وهي لئن نشرت عددا قليلا من نصوصه ضمن مجموعتها الأولى - امرأة استثنائية - إلا أنها في هذه المجموعة الثانية قد جعلتها بتمامها وكمالها ضمن شعر الومضة وقد وقف الناقد الجزائري محمد بغورة الصديق والناقد الأردني هاشم خليل على بعض خصائص هذه الومضات من خلال المقدمتين منوّهيْن بمسيرة الشاعرة مما يؤكد أنها قد تجاوزت مرحلة الهواية لتأخذ مسألة الأدب بجدّ وعزم على المواصلة والإضافة ومبشّرة بقيم المحبة والوئام بين الناس حيث تقول في ومضة - حب في المزاد - ص55

لو يباع الحب في المزاد
لو يباع الإحساس بالإحساس
لاقتنيت منه دون حد
لكل الناس

وكأنّ هذا الطموح الجميل وهذا الحلم الإنساني الصافي يبدو لها صعب المنال أو يحتاج إلى زمن طويل فلا مناص لها من الانتظار حيث عبرت برمز أهل الكهف في ومضة أخرى بعنوان - انتظار - ص73

أهل الكهف
في انتظاري
وأنا
لم أبعث بعد
من رمادي

وقد جعلت قصة أهل الكهف حاملة للتعبير عن طول اِنتظارها في هذه الومضة وقد ضمّنت من القرآن أيضا ومضةً أخرى هي - الجسد -حيث تقول ص89

في جيدها
حبل من مسد
.....
أضرم النار أبو لهب
......
في ذلك الجسد

وهنا لا بأس من الإشارة إلى مسألة دقيقة وذات أهمية ألا وهي مسألة وضع النقط وتوزيعها في النص الشعري فإن النقط في هذه الومضة هي حروف أخرى أو كلمات على القارئ أن يفك معانيها .

والشاعرة لم تعتمد على التضمين من النصوص القديمة فحسب وإنما نلاحظ تضمينها أيضا للكلام اليوميّ بما فيه من بعض الأمثلة الشعبية التونسية كقولها في ومضة - حماقة - ص10

زغردوا
في أذنها
عقدت منديلا
في خنصرها

ذلك ما يؤكد أن الشّاعرة في هذه المجموعة قد اِستقادت من مختلف النصوص قديمِها وحديثهِا فصيحِها وشعبيّها منتهجة البساطة في أبعادها العميقة والسهل الممتنع في دلالته الممتعة والبديعة بل قد وظّفت بعض المقولات لأدباء من مختلف أنحاء العالم وجعلتها اِفتتاحيات تقدّم بها أجنحة الديوان باِعتيارها فصول الدّيوان .

لابدّ من كلمة حول الغلاف باِعتياره أحد الأبواب التي تفتح على مضامين الدّيوان والغلاف لوحة للفنان والشاعر محمد القماطي قائمة على الأبيض والأسود من خلالهما تبدو وملامح امرأة وفي البياض ترفرف أجنحة حمراء فكأن اللوحة قصيدة تُلخص ومضات سونيا عبد اللطيف أوَليس الرسم هو الشعر أيضا...ولكنه شعر بالأشكال والألوان ...؟

***

أمّا بعد

إنّ هذا الشعر الجديد الذي وقفنا على بعض خصائصه لدى نماذج مختلفة من شعراء تونسيين لاحظنا أنه يعتمد على الإيجاز واللّمح والتركيز والإيحاءات المتعدّدة لذلك أعتبره إضافة إبداعية جديدة تثري مختلف الأشكال والأنماط والمضامين في تاريخ الشعر العربي وسيستقرّ مصطلح تسمية هذا النوع الجديد مع الزّمن سواء تحت اِسم ـ ومضة ـ أو لمحة ـ أو توقيعة ـ أو هيكة ـ أو غيرذلك ولكن لن يتمّ ذلك إلا بعد شَرطيْ التراكم الكمّي والنّوعي والتواصل والاِمتداد الزمني في ديوان الشعر العربي وخاصة إذا رشَح وصدر عن مواهبة حذق اللغة والتمكّن من الأدوات الشعرية الأساسية واِستيعاب المنجزات الشعرية العربية والعالمية الأخرى بل وحتّى الاِستفادة من الفنون الأخرى مثل الرسم والمسرح والسينما وإلا

باتت الكتابات فيه لغوًا خاويا وضربا من مخالفة السائد والمعروف لا غير…

ونلاحظ أخيرا أن هذا النوع الجديد من الشّعر يتطلب من ناحية أخرى قارئا على قدر كبير من الاِطلاع والمواكبة وعلى ذائقة تستوعب الاِجتهاد والتجديد...

إنّه شعر يكتبه القارئ أيضا..حيث يبدأ ومضةً وينتهي بُهرةً أو شُعاعًا!

كذلك هي هذه الومضات من جديد الشعر العربي في مختلف أنماطه وتسمياته ـ ليس تجديده في خروجه عن معاني الأغراض المعروفة وكذلك في مخالفته لإيقاعات التفعيلات والبحور والقوافي فحسب ، وإنما في اكتسايه لأساليب من المفردات والإسنادات والمجازات والإشارات وحتى في مستوى توزيع الكلمات والسطور على الورقة ليأتي بمعان وأحاسيس ويرنو إلى أبعاد ويعبّر عن معاناة ظروف أخرى ويصوّر وجدانات وأحاسيس لم يعشها السابقون...و تلك لعمري شرعية التجديد في كل عصر


سُوف عبيد ـ تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى