مليكة مستظرف - جراح الروح والجسد.. جزء من رواية

دخلت خديجة بطنها ممتدة أمامها كقنبلة موقوتة ستنفجر في أية لحظة. تبعتها كوثر ثم أمينة.جاءت زوجة أبي, نظرت اليها نظرة ذات مغزى فصعدت الى الطابق الثاني و تركتنا وحدنا. لم نجتمع من زمن طويل على صينية شاي. و نحكي همومنا و أحلامنا. كنت أحس بالغربة معهن . آلاف من المسافات الضوئية تفصل بيننا. في بعض الاحيان لا يكون المرء في حاجة للسفر بعيدا لكي يحس بالغربة , يمكننا أن نحس بها و نحن بين أهلنا و في بلدنا. كيف أبدأ حديثي معهن؟
- سأدخل في الموضوع مباشرة دون مقدمات أو مؤخرات.
قالت خديجة :
- أعرف لماذا جمعتنا اليوم. الحكاية فيها عريس اليس كذلك؟
شعرت بالغيظ. دائما تحاول الظهور بمظهر العالمة العارفة بكل شيء.
- الحكاية أبعد ما تكون عن الزواج.
- اذن ما هو هذا الأمر المهم الذي استدعيتنا لأجله؟
- لو تصمتين فقط و تسمعين؟
وضعت يدها على فمها بتأفف.
- هكذا أفضل.
صمتّ لحظة استجمعت قوايا وقلت:
- سأسافر الى فرنسا.
وقفت أمينة :
- وهل وافق أبي؟
- لهذا جمعتكن, لكي تقنعنه بضرورة سفري.
نهضت خديجة بعصبية وقالت:
- أنا لست موافقة على سفرك.
- لماذا؟
- لست موافقة و كفى.
- أنت ترفضين لمجرد الرفض ليس الا. ثم أنا لا أستشيرك فقرار سفري اتخذته منذ زمن و سأسافر أنا أقول هذا من باب العلم بالشيء فقط.
بهدوء سألت كوثر:
- لماذا قررت السفر؟ ألن تكملي دراسة الحقوق؟
نظرت خديجة بغباء و سألتني:
- هل تدرسين الحقوق؟
ضحكت بمرارة:
- رائع! حتى أنك لا تعرفين ماذا أدرس.
أضافت أمينة:
- احصلي على الاجازة وبعدها لها رب مدبر حكيم.
قلت باصرا:
- بل سأسافر و الآن.
- اذن سافري .ما شأننا بالأمر؟ قالت خديجة بلا مبالاة.
- شأنك أنك أختي و أنا أتحدث معك لكي تساعديني على اقناع أبي.
- الا أبي - أنت تعرفين لسان أبي و عصبيته و أنا حامل و لن أتحمل كلامه.
- و أنتما؟
طأطأتا رأسيهما علامة علىالتملص و الرفض. أحسست بعصة في حلقي. فتحت باب الغرفة و قلت:
- يمكنكن الانصراف.
وقفت خديجة اضعة يدها على بطنها:
- هل تطرديننا؟ انه بيت أبي , ندخله و نخرج منه متى أردنا.
- هل من الضروري أن يسمع العالم صراخنا و خصامنا كلما التقينا؟ ابقي أو انصرفي هذا أمر يخصك.
- هذا البيت بنيته بعرقي و جهدي ب…
استفزتني, نكأت جراحي:
- بنيته بعرقك و جهدك؟ حسب علمي لم تكوني موظفة . بل لم تدرسي أبدا.فعن أي جهد و عرق تتكلمين بالضبط؟
اصفر وجهها.صمتت و اخذت تبكي . شلالات من الدموع كعادتها:
- نسيت؟ منذ ولدت و انا كنت لك أما . أشتري لك الملابس, الادوية , الاطباء.. كم أنفقت عليك أنت بالضبط.
- لا لم أنس ابدا. كما لم أنس كم تركتني في الحديقة وحدي , و كم أخذتني الى تلك الشقة المتعفنة و شقق أخرى كثيرة. تقفلين علي الباب و تنصرفين لمجونك. و لم أنس كذلك ضربك لي و اهاناتك المتكررة و سجني داخل المرحاض المظلم المملوء صراصير فئران وعفاريت.كيف لي أن انسى كل هذا؟ أنت لم تكوني أما لي أبدا, كنت جلادي لسنوات وأشفق على هذا الطفل القادم لن تستطيعي أن تكوني أما له.
أخذت أمينة تنظر لكوثر بذهول . صرخت فيهما:
- يكفي تمثيلا.لما هذه الدهشة المرتسمة على وجهيكما؟ كأنكما لا تعرفان شيئا. ألم تكونا تعلمان أن لكما أخت قحبة؟
صرخت حديجة من خلال دموعها:
- أجل قحبة.كنت أريد المال الكثير , الكثير جدا. كنت أريد أن البس كالناس, آكل كالناس. كنت أريد هذه الدنيا بطولها وعرضها. ووالدك كان شحيحا. لو الأمر يعود اليه للبسنا جميعا ثيابا مرقعة.
- وزوجك كذلك شحيح. بل أكثر شحا من أبي فكيف تتصرفين؟ هل ما زلت تذهبين لتلك الشقق؟
- سأقول لك كل شيء لكي ترتاحي. لم أعد أذهب لتلك الشقق لأن الزبائن أصبحوا يأتون الي في شقتي وزوجي يعلم, انه واجة فقط. أنا أصرف على البيت وأنا من اشترى له محلا تجاريا.
شعرت بالدوار. ماذا أسمع؟ هل يعقل هذا؟ نظرت الى كوثر و أمينة أحاول أن أقرأ أثر المفاجأة على وجهيهما. لا أثر. كأن المسألة عادية جدا. أو كأن خديجة ألقت عليهما تحية الصباح.
سألتهما:
- هل سمعتما؟ هل..
قاطعتني خديجة بعد أن مسحت دموعها:
- انهما تعرفان كل شيء. و أساعدهما على تحمل أعباء الحياة. كل واحدة تأخذ راتبا شهريا.
عرق بارد يلف جسمي. دوار عنيف. جريت الى الحمام.تقيأت كل شيء. يا الهي! اذا كانت الحياة بهذه القسوة فكيف يكون الجحيم؟ مصيبة لو كان كل شيء يتم بعلم أبي.استجمعت قوايا و قلت:
- سيكون شيئا رائعا لو كنت تفعلين ما تفعلين بعلم ابي.
- لا تكوني غبية أبي لا يعلم شيئا.
- ولماذا لا يعلم؟ يأتيك هو الآخر بزبائنه وتنضم اليك كوثر و أمينة و زوجته و عوض أن أسافر الى فرنسا نفتح شركة لبيع اللحم الرخيص. فنحن قوم لوط.
- قولي ما يحلو لك , سأذهب.
- قبل أن تذهبي اريد أن أسألك :هل والدتي رحمها الله كانت تعلم بالأمر؟
- رحمها الله لم تكن تعلم شيئا, كانت تصدق كل أكاذيبي.
تنهدت بارتياح.جلست على كرسي و قلت لهن جميعا:
- الآن ازداد اقتناعي بضرورة السفر, لو أستطيع تغيير جلدي و عظامي و حتى هذا الدم الذي يجري في عروقي لما ترددت لحظة واحدة. سأسافر لكنني سأعود لأجل دعاء ابنة الهام,لأجل هذا الطفل الذي سيولد لكي لا ترتكبي جريمة في حقه هو الآخر. قبل أن أنسى من يكون والده؟
لم تجبني, خرجت و صفقت الباب وراءها.
لم يبق الكثير على سفري. كان لا بد من اواجهه بنفسي . لست في حاجة لوساطة أحد. لم أعد أحتمل الحياة في هذا الوسط الموبوء. جاء أبي نظر الي ثم قال:
- ماذا بك؟ كنت تبكين؟
- نعم
- لماذا؟ ماذا حدث؟ خصومة مع زوجتي؟
- لا.
- ماذا اذن؟ تكلمي.
- أبي .. لا أعرف بماذا أبدأ حديثي.
- تكلمي ماذا حدث؟
- لقد قررت السفر.
- ألم تنسي حكاية الرباط و الصحافة بعد؟
- هذه حكاية قديمة , الجديد هو أنني سأسافر الى فرنسا.
- يبدو أنك لست في وعيك.
- بل لم أكن ف وعيي مثل الآن. كل شيء جاهز: تذكرة السفر, التأشيرة و حتى حقيبتي, لم يتبق سوى موافقتك.
- جهزت الجواز و التذكرة و التأشيرة وحتى الحقيبة و أنا هنا في دار غفلون.
- كنت أعرف أنك سترفض ففعلت ذلك خلسة.
- و تريدين وضعي أمام الأمر الواقع.فيلم هندي هذا أم مصري؟
- فيلم مغربي.أرجوك أبي أن توافق لا أريد أن أسافر وأنت غاضب مني.
- أتريدين أن تتحديني؟ أن تخرجي عن طوعي؟ افعلي ما بدا لك. لكن لن أدفع لك فرنكا واحدا.
- لا أريد نقودا..أريد موافقتك.
- و أنا لست وافقا.
غدا على الساعة العاشرة صباحا سأسافر.
- اذن احملي حقيبتك واخرجي الآن في هذا الليل.
- أبي ارجوك لماذا تعقد الأمور؟
- أنت من يعقد الأمور. اذا كنت تريدين السفر لأجل الدراسة فالبلد مملوءة جامعات. الا اذا كنت تنوين السفر لأجل شيء لآخر.
- شيء آخر مثل ماذا؟
- كل الفتيات اللواتي يسافرن للخارج زنديقات.
يا الاهي لا يستطيع التفكير أبعد من مؤخرته.
- أبي أكررها للمرة الألف: اذا كنت أريد العيش على سجيتي فلست في حاجة للسفر .سأفعل كل ما أريد و أنا هنا بقربك و أنت في دار غفلون.
صمت . كان يدرع الغرفة جيئة و وذهابا ثم قال:
- كل أخواتك مهديات مرضيا الا أنت.
استفزني:
أبي لا تكرر على سمعي هذه الجملة ثانية أكرهها.
- رائع انك تصرخين في وجهي. طبعا (حطيت عصاتي أصبحت نتضرب بيها). اسمعي احملي حقيبتك و اخرجي الآن لا تنتظري حتى الغد.
- لست جادا أبي.
- لم أكن جادا كاليوم أبدا. واعتبري أنه لا أب لك.
- لماذا كل هذا؟ أليس من حقي السفر؟
- هل هذا ما علموكم في المدارس؟ تحدي اهاليكم؟ تحدي أهاليكم؟ تريدين لوي دراعي؟ من السهل علي جدا تمزيق جواز سفرك و كل الأوراق و أقفل عليك البيت لا دراسة ولا هم يحزنون. وأزوجك لأول كلب يطرق الباب. لكنني لن أفعل لأني مللت رؤية وجهك العكر. و الآن أخرجي اذهبي عند أولئك الذين ملأوا رأسك بالكلام الفارغ.

لبست ملابسي , حملت حقيبتي وصورة أمي لا يمكنني أن أتركها خلفي وحيدة. أخذت سيارة طاكسي و ذهبت الى بيت الهام. فتحت الباب , توقعت أن أجدها كالمعتاد نائمة على سريرها . لم تكن متواجدة. البيت في منتهى الفوضى : علب جعة فارغة , أواني متسخة. رتبت السرير , غسلت الأواني و ناديت دعاء من عند الجارة. أعطيتها قليلا من الحليب والبسكوت. جاءت الجارة و هي تطرقع العلك , سألتها:
- ألم تأت الهام؟
- لم تأت. لابد أنها نايمة في العسل عند أحدهم. ياريت واحد من أصحاب الدشداشة. أتعرفين لو ذهبت مع واحد من أصحا ب الخليج فستكسب في الليلة ما تكسبه في البار ف ثلاثة أشهر, أيديهم سخية يبعثرون الأموال هنا وهناك. وأكل و شرب و هدايا. هل تعرفين كلثوم بنت حادة؟ لا أنت لا تعرفينها. الهام تعرفها كانت جميلة, ياه! طويلة وعريضة و شعرها أشقر و طويل يصل حتى ما تحت مؤخرتها كشعر الخيل , وبيضاء كالقشدة و لها عينان سبحان من سواها وخلقها. قبل أن تصل سن الرشد والخطاب يقفون على باب بيتها طوابير. هي لا تشبه أمها ابدا أمها سمراء ممكن أنها تشبه والدها نعن لا نعرفه. ما علينا المهم ان أمها كانت ترفض كل المتقدمين لابنتها, الى أن أتتها خديجة العورة .الا تعرفينها؟ لقد غادرت الحي , هي قوادة. أتتها بواحد من الامارات, لديه سيارة سوداء طولها متران و لديه سائق . يقولون أنه أمير و الله أعلم. كان كبيرا في السن . حوالي الستين. الرجل لا يعيبه الا جيبه, و البنية كلثوم عمرها سبعة عشر سنة رآها الرجل وجنّ عليها. لاتصدقين اذا قلت لك أنه أعطاها في المهر فيلا لا يخرجك منها الا سكرات الموت.الفيلا أكبر من حينا هذا كله. يلزمك سيارة لتنقلك داخل الفيلا.عاشت معه سنتين في الجنة وأخذت معها أمها. و لما مات أخذ اخذ أولاده كل شيء حتى الفيلا التي تسكنها و الحلي التي تملكها باعتها لكي تعالج نفسها من مرض ما.جميعة تقول أنها مصابة بالزهري لكن لا.. لو كانت فعلا مصابة بالزهري لما احتاج الأمر أن تبيع كل هذه الحلي. المسألة أكبر يمكن مصابة بالسيدا. ياه تأخرت الهام كثيرا!
(يا الهي متى تصمت هذه المرأة؟). كنت أنظر اليها و أتساءل ان كان هناك زر في مكان ما من جسم المرأة أضغط عليه فتصمت الى الأيد.
- ها هي الهام .صرخت المرأة.
نظرت جيدا, كانت هي..لكن ثيابها ممزقة, كدمات زرقاء على وجهها شعرها أشعث. أدخلتها الى البيت.ماذا حدث؟ تبعتنا المرأة و أقحمت نفسها و هي تضرب صدرها الممتلئ بيدها و تطرقع العلك. تبحث عن حكاية ترويها لأهل الحي. جلست الهام على حافة السرير و هي تبكي بهيستيريا و حرقة:
- أولاد الكلب.. يلعن ابوهم.. الله ياخذ فيهم الحق.
و تنخرط في نوبة بكاء عنيفة. لا أجرؤ على سؤالها. تتولى المرأة سؤالها:
- ماذا حدث يا أختي؟
تمسح الهام دموعها. أنتبه الى فمها جيدا.. لا أثر لبعض الأسنان في فكها السفلي. علامة استفهام كبيرة مرتسمة في رأسي. أشحت بيدي على وجهي كأنني أطرد ذبابة سوداء كريهة. جلست الهام نزعت ملابسها و قالت:
- أنظري .. أولاد الزانية ماذا مفعلوا بي؟ أنظري لظهري وفخذي.. لا أستطيع الجلوس مؤخرتي تؤلمني.
ندوب زرقاء و بنفسجية تملأ ظهرها و كامل جسمها . دماء متجمدة على بعض الجروح. لم أستطع النظر اليها طويلا , لم أستطع الكلام, احتبست الكلمات في حلقي كأنني ابتلعت لساني :
- ماذا حدث؟ سألتها المرأة متلهفة لمعرفة كل الأخبار السيئة. ثم أردفت و عيناها تلمعان بلهفة :
- هل أمسكوك في الكوميسارية؟ أخذوك للدار الحمراء؟ لا يضرب أحد مثل هذا الضرب الا هناك. لكن لماذا؟
- عندما كنت أداوم في البار , انتبهت لشخص يجلس في أحد الأركان لا يرفع عينيه من علي. لم أره من قبل في البار, فنحن هناك نعرف بعضنا البعض .
تنخرط في البكاء من جديد ثم تضيف :
- ولد ز.. الله يوريني فيه يوم , يا ربي أنا أمة تحت سماك أمنيتي أن أراه و الكلاب تمزق لحمه قطعا قطعا و يستغيث و لا من مغيث. لا..لا..أريد أن تسحقه شاحنة الزبال تمحقه أرضا فيختلط لحمه و عظامه مع الأزبال و يسيل دمه مع البالوعات..
تنزع تلك المرأة السمينة غطاء رأسها :
- الله ياخذ فيك الحق يا ولد الحرام.. الله يجعلك مثل ثور الوحل ما ان ترفع قدما حتى تغرق الأخرى .. الله يعطيك..
تلتفت الى الهام و تسأل:
- ما اسمه حتى أدعي عليه؟
- قال اسمه محمد. كان يرتدي بدلة وربطة عنق بالأسود و قميصا أبيض و حذاء أسود يلمع. يحمل مفاتيح كثيرة في يده و شعره ممشوط بعناية يلمع هو الآخر. عندما عرض علي الذهاب معه قلت : لما لا؟ على القل واحد نظيف بدل هؤلاء الصعاليك الذين يملأون المكان. و ما سآخذه منه سأشتري به حذاء لدعاء و كيلو لحم. ذهبت معه في سيارته المرسيدس البيضاء. لم يكن يتكلم كثيرا, بل لم يكن يتكلم قط. أخذني الى خارج المدينة, لا أعرف أين بالضبط. عندما سألته لم يجبني. اشعل سيجارته و صمت. ساعتها شعرت بالخوف وتمنيت لو أعود. لكن الليل! خفت أن يتركني في الشارع.ليته تركني لكان أرحم. ربما الكلاب الضالة لم تكن لتفعل بي ما فعل بي ابن ال…ذهبنا الى فيلا في طور البناء, الطابق السفلي مكتمل لكن لم يصبغ بعد. أكياس الاسمنت مرمية هنا وهناك والرمل والمسامير. رفضت ات أنزل جذبني من شعري بعنف وأدخلني الى الداخل, صرخت, قاومت لكن لا من مغيث.الأرض خلاء و الظلمة: تمد ايديك تقطع.أنا ر شمعتين وأمرني أن أنزع ملابسي و عندما رفضت مزقها فوق جسمي وربطني الى أحد الأعمدة وشرع يمارس علي الجنس بطريقة غريبة. لم يكن وحده, فجأة خرجوا من الظلام كالعفاريت , كالجرذان. كانوا أربعة ربما أكثر, لم أتبين ملامحهم و لن أعرفهم حتى لو التقيتهم ثانية. مارسوا علي كل أنواع التعذيب من اهانة و ضرب و أخذوا نقودي. تصوري! أتيت من هناك سيدي رحال أظن لست متأكدة.. تصوري من سيدي رحال الى المدينة القديمة.. أحس أنني قطعت نصف الكرة الأرضية على قدمي. أحس أ ن الله يصر اصرارا عجيبا على تعذيبي. و لدت و لا أعرف لي أبا قط, اسم بنت الحرام يلتصق بي كالوشم. خالي و أخي اغتصباني منذ المهد, أمي الوحيدة التي كانت سندي في هذه الديا تموت وتتركني أنا و طفلتي في عالم كله ذئاب و حيوانات و ماذا بعد؟
تسكتها المرأة:
- استغفري الله المؤمن مصاب.
تصرخ الهام في وجهها:
- من يدلك على ايماني؟ من قال لك أنني مؤمنة ؟ جبهتي لا تلامس الأرض الا اذا انكفأت على وجهي من شدة السكر. الصوم أجوع فقط كالآخري. تركت لكم الايمان و كل شيء فقط أريد أن أرتاح. أن أضع رأسي على الوسادة و أنام. لقد حملت الهم مبركرا.
تقف المرأة و تستأذن لكي تنصرف:
- سأذهب الله معك.

(هؤلاء المكبوتون موجودون في كل مكان: في البيت, في الشوارع , في محلات البقالة , في سوق الخضار و حتى في الحافلات. يستغلون الزحام و الغفلة ليفرغوا مكبوتاتهم الحيوانية في ضحاياهم من النساء الغافلات الشابا ت أو العجائز. بعض العجائز تعجبهن اللعبة و يتظاهرن بالغفلة و عندما تنتهي اللعبة يصرخن في احتجاج . رأيتهن كثيرا في الحافلات…)
تقول الهام و هي ما زالت عارية :
- أعرف لن تنام حتى تنشر الخبر في كل المدينة القديمة وتزيد وتنقص حسب هواها و تضخمها حتى تصبح بالحجم الذي يرضيها.
كنت أنظر الى جسم الهام الشائه , واخيرا نجحت في الكلام قلت لها:
- سأذهب للصيدلية و أشتري بعض الأدوية لعلاج جراحك.
أوقفتني باشارة من يدها:
- لا تفعلي. جراحنا تشفى وحدها لسنا في حاجة لدواء الصيادلة.
ثم نظرت لحقيبتي وقالت:
- ما الأمر؟ خصومة مع زوجة أبيك؟
- بل مع أبي.
- ماذا حدث؟
صمتت لحظة و قلت لها:
- سأسافر الى فرنسا.
بدت للحظة كتمثال شمع:
- كيف؟ متى؟ لم تخبريني بشيء.
- لم أخبر أحدا بالأمر.
صرخت في وجهي و الدموع تملأ وجهها:
- أنا لست أي أحد. أنا أختك , صديقتك.أحكي لك كل شيء. تعرفين حتى ما بداخل مصاريني, تجلسين معي , تأكلين و تخفين عني أمرا كهذا, بل ربما كنت تنوين السفر بدون وداع , انك مثلهم غدارة و خائنة للعشرة.
لم أرها بهذا الشكل أبدا. ضممتها الي وقلت:
-ليست قسوة بل حب. خفت فراقك, خفت لحظة الوداع. انك لا تفهيمين ما أحس به نحوك. لا تعاتبيني أرجوك, يكفي ما سمعته من أبي.
مسحت دموعها و قالت:
- متى قررت السفر؟
- اقترحت علي جوزيان السفر لانشاء جمعية تعنى بضحايا التحرش الجنسي من الأطفال.
- هراء! هل تظنين نفسك ستصلحين الكون أنت وجوزيان؟
- أنا و جوزيان و الآخرون . لا بأس من المحاولة
- لست مقتنعة بالفكرة, لكن فرنسا جميلة. اذهبي هناك و اعملي في أي شيء: نادلة في مطعم..أي شيء.. ما دمت بعيدة عن هنا. و عندما تجمعين مالا كثيرا عودي و افتحي حانة. ستصبحين ثرية.
- هذه أحلامك انت الهام. أنا سأنشئ جمعية و أدرس ألا تفهمين؟
- فعلا يبدو أننا أصبحنا نتكلم لغة مختلفة.
- الهام. لماذا لا تتركي هذا العمل؟ لأجل دعاء. فكري بها عندما تكبر.
أشعلت سيجارة . كانت يداها ترتعشان و تتحسان من حين لآخر أماكن الأسنان المكسورة.حاولت أن تتكلم بهدوء:
- سأترك العمل حاضر. لكن قولي لي أين سأعمل؟ في الشركة التي تركها أبي ؟ أم في المصنع الذي تركته أمي؟ قبل أن تقولي أنت و غيرك اتركي هذا العمل أعطوني البديل, أم تحسنون الكلام فقط؟ هل تنوين حل مشاكل الناس الذين يأتون جمعية المستقبل بالكلام؟ الهضرة ما تعمر خضرة.
- أقصد…
أسكتتني باشارة من يدها و قالت:
- خذي دعاء لتنام بجانبك هذه الليلة. لا أستطيع ضمها الي. جسمي متألم و اطفئي الضوء.
أطفأت الضوء . ضممت دعاء , قلت لالهام:
- سأكتب لك كثيرا و من يدري؟ قد أجد حلا و أرسل اليك لكي تلحقي بي.
صمت ثقيل يلف المكان و بعدها قالت :
- ستكتبين مرة و اثنتين و بعدها ستأخذك الحياة. ستنسين الهام و دعاء و و كل الأيام الجميلة.
- سترين أنني لن أنساك..لن أنسى دعاء.. لو كانت ابنتي…
دفنت رأسي تحت الوسادة وبكيت.
صباحا حملت حقيبتي , عانقتها , ضممت دعاء الي, أعطيتها بعض النقود كانت تفيض عن حاجتي. نجحت في حبس دموعي و انصرفت.
في المطار , جلست أنتظر الطائة. كنت أشعر بشعور غريب : الخوف من المستقبل , المجهول ربما. احساس بالمرارة في حلقي . أنظر في كل الوجوه عساني أرى وجه أبي. لو يأتي ؟ لو يرضى عني ؟ دخلت المرحاض, غسلت وجهي من آثار الدموع ..خرجت و….رأيته, انه هو أبي.! عانقته . لأول مرة أحس بدفء ذراعيه. احساس رائع ..رائع. انتبهت لنفسي كنت أبكي بصوت مسموع. لم أكن وحدي , حتى أبكي كان يبكي. يا الهي! هل هو يبكي مثلنا؟ عانقته ثانية لأشبع من حضنه. لم يعانقني أبدا قبل الآن. قال لي بعد أن مسح دموعه:
- سافري يا ابنتي و قلبي راض عنك.
- كيف اقتنعت بفكرة سفري؟
-أنا لم أقتنع بشيء. أخاف عليك أولاد الحرام. الدنيا خايبة آبنتي. كنت أريدك أن تتزوجي و تنجبي و تتركي الدراسة ووجع الدماغ. المرأة مكانها في البيت و الأولاد…. لكن رأسك صلبة. افعلي ما بدا لك ..سافري .
عانقته بقوة , بقوة. كم أنت رائع يا أبي! لو أشعرتني بالحب قبل الآن كانت تغيرت أشياء كثيرة في حياتي.
نظر الي ثانية وقال:
- سأطلق سراح زوجتي. قررت هذا منذ مدة لكن بالأمس عندما غادرت البيت تكلمنا كثيرا, و اتفقنا على كل شيء. سأطلقها و أعطيها مبغا من المال و تعود الى قريتها.
- ربما هذا أفضل لك و لها.
- سترسلين لي رسائل كثيرة؟
- أجل و سأحكي لك أشياء كثيرة.
أدخل يده في جيب سرواله و أخرج سلسلة ذهبية:
- هذه آية الكرسي, ضعيها حول عنقك حتى تحفظك.
قبلت يده و جبهته. ضمني اليه ثانية و ذهب.


مليكة مستظرف
جراح الروح والجسد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى