أحمد محمد الحوفي - البلاغة العصرية واللغة العربية.. تأليف الأستاذ سلامة موسى -1-

لم يكد يفرغ الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات من دفاعه المنصف المجيد عن البلاغة حتى أخرج الأستاذ سلامة موسى هذا الكتيب. ولقد يتوسم قارئ اسمه أنه محاولة موفقة لتجديد البلاغة العربية، أو نقد ونقض لبعض أسسها القائمة، لكنه إذا ما أتمه دهش من انقطاع الصلة بين العنوان والمعنون، فليس فيه تجديد ولا نقض، اللهم إلا الدعوة إلى أن تجاري لغتنا عصرنا، وتماشي حياتنا، وهي دعوة قديمة قال بها عبد العزيز الجرجاني وعبد الكريم النهشلي وغيرهما، وإنما نثر المؤلف في بحثه سوانح عنت له في نشأة اللغة، وعلاقتها بالمجتمع، وضرر اللغة، والتفسير الاقتصادي للغة، والفصحى والعامية الخ، فمن المغالطة أن يسمى كتيبه بهذا الاسم، ومن المغالطة أن يعقد فصلا عنوانه (فن البلاغة) ولا شيء فيه من فن البلاغة، فهل من البلاغة العصرية ألا تدل الكلمات على مسمياتها المعهودة

كرر في بحثه الدعوة إلى الأسلوب التلغرافي (وكذلك نحن نتبع الأسلوب التلغرافي، ونتخير الكلمة التي تحمل المغزى فضلاً عن المعنى) ص 19

فماذا يريد به؟ أن يكون الأسلوب خالياً من الروعة والبراعة والجمال والموسيقى، فلا يمتاز من أسلوب الخطاب المعتاد المتداول في الشئون اليومية. يريد ألا تتفاوت الموضوعات والمناسبات وأقدار الأدباء والقراء، يريد (الاشتراكية) في اللغة كما قرر في مواضع أخر، ويتجافى ما تقرره البلاغة وعلم النفس من أن الأسلوب صدى لما في نفس منشئه، فالانفعال القوي لا يعبر عنه إلا أسلوب يلائمه قوة. والانفعال الهادي لا يوائمه إلا أس يشاكله دقة، واللغات كلها تعيا أحياناً عن تصوير العواطف بكلماتها الوضعية، فلا مندوحة للأديب من اللجوء إلى الخيال وأفانين الجمال.

وإذا كان هذا رأيه الذي طالما دعا إليه، فلماذا لم يأخذ نفسه به؟ ما له لا يلتزم الأسلوب التلغرافي الذي يدين به؟ ثم ما له لجأ إلى تكرير المعاني في هذا الكتيب؟

على أنا إذا آثرنا الأسلوب التلغرافي فقد جحدنا ما خلفه أدباء العالم كله من تراث فني. ولخير إذاً للزيات والعقاد والجارم وبرناردشو وأندريه موروا وإضرابهم أن يحطموا أقلامهم، أو يغيروا أساليبهم، وهيهات هيهات!

وليس من الصواب الفصل بين الأسلوب والمعنى، فهما جزء واحد، وهما معاً قسيمان في إثارة القارئ ومجاوبته للأديب، أو شعوره بالمتعة الفنية، وهما معاً شريكان في التعبير عن خلجات الأديب وعواطفه، والأسلوب التلغرافي لا يحقق كل ذلك.

ولذا عرف بوفون الكتابة الجيدة بأنها (التفكير الجيد والشعور الصادق والإبانة الممتازة مجتمعة معاً) وفي رأي بوفون أيضاً أن (متانة الأسلوب ليست إلا ملاءمته لطبيعة الموضوع، وهي تتولد تولداً طبيعياً من معنى الموضوع نفسه)، وهكذا كان بوفون فحماً عندما يكتب في التاريخ الطبيعي، وسهلاً يستخدم الألفاظ الشائعة في رسائله إلى أصدقائه المقربين

والأستاذ سلامة يناقض نفسه إذ يقول في ص 17 (ويمكننا أن ننظر إلى اللغة النظر الفني فننشد بالكلمات والجمل رفاهية ذهنية لا تؤديها الدقة العلمية) وفي هذا رد على دعوته إلى الأساليب التلغرافية، إذ الرفاهية الذهنية ليست إلا ثمرة للروعة في التعبير، والإبداع في التصوير، والفحولة في التفكير.

(ثم انظر إلى ما ورثنا من المجتمع العربي القديم بشأن المرأة فقد ألغى هذا المجتمع المرأة من الحياة الاجتماعية إلغاء يكاد يكون تاماً، أما نحن فقد (رددنا الاعتبار) للمرأة المصرية؛ ولكن ما زلنا نستعمل الكلمات القديمة فنقول (أم فلان) أو (حرم فلان) ولا نذكر الاسم، مع أن الاسم جزء من الشخصية وإهماله هو سنة للمرأة. . وإهمالنا لاسم المرأة هو تراث لغوي قديم يحمل إلينا عقيدة اجتماعية يجب أن نكافحها) ص 49

وليس في هذا شيء من الحق، فإن الإسلام قد رفع من شأن المرأة، واختصها القرآن الكريم في كثير من المواضع بالخطاب، ومنحتها الشريعة حقوقها كاملة، وبحسبنا أن الشريعة الإسلامية لم تحرمها التصرف في مالها الخاص أو الميراث إذا تزوجت، ولم تجعل لزوجها سلطاناً على مالها، مع أن القانون الفرنسي ما زال يعتبرها ناقصة الأهلية، فيتصرف زوجها في مالها كما يتصرف المولى أو الوصي في مال القاصر، وليس لها حق التقاضي إلا بإذن زوجها.

ثم أن الشريعة الإسلامية منحت المرأة حرية اختيار زوجها، وأجازت أن تكون العصمة بيدها. وقد ضرب الرسول عليه الصلاة والسلام أرقى المثل في إعزازها والحدب عليها ورد الاعتبار لها بأفعاله وأقواله، وطالما تغنى الشعراء بحبها والزلفى لها، وطالما أسهمت في الحركة الأدبية والعلمية والسياسية بنصيبها، وطالما سمى الرجال بأسماء أمهاتهم وبناتهم، فليس بصواب أن المجتمع الإسلامي - ودينه الإسلام - انتقص حقوق المرأة وحقر من شأنها كما ادعى الأستاذ

وهل تناسى الأستاذ أن أوربا بعد ذلك العصر كانت تسوم المرأة الذلة والهوان؟ وأن أوربا كانت تتجادل في حقيقة المرأة أإنسان هي أم شيطان؟

ولا تحقير للمرأة في أن نطلق عليها (أم فلان)، وإنما فيه تكريم لها ومسرة واعتراف بالفضل، إذ أنجبت، وأدت وظيفتها الأولى في الحياة. ولا تحقير لها في أن نكني عنها بحرم فلان؛ لأنها في عصمته ورعايته وحمايته، وهي تعلم أن الزواج شرفها وحليتها وأملها، وهل المجتمع الغربي المعاصر يحقر المرأة؟ وإلا فلماذا يطلق عليها مسز فلان وليدي فلان ومدام فلان؟ ومن لطائف برنادرشو في ذلك أن سيدة قالت له: إن الرجل قد سلب المرأة حقوقها، فقال لها: بل سلبته هي كل شيء حتى اسمه

- 4 -

(يجب أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة، وأن تكون مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلاً من مخاطبة العواطف) ص 56

وهذه فكرة عاسفة تهدم أساس الشعر والنثر والفنون الجميلة عامة؛ لأن الفنون وليدة العواطف، واستجابة لنوازع نفسية لا صلة للمنطق بها، ولو أنا أخضعنا كثيراً من النصوص الأدبية التي تروقنا للمنطق لوجدناها هباء.

فكلنا نعجب بقول المنخل اليشكري:

وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري

ونطرب لقول جميل:

لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد

ويروعنا قول المتنبي:

تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم

وكان حالها في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم

ويهزنا قول شوقي:

وجواهر التيجان ما لم تتخذ ... من معدن الدستور غير صحاح

وأي منطق في هذا؟

لو أنا اتخذنا المنطق وحده دعامة للأدب لانقلب إلى حقائق جافة لا خيال فيها ولا جمال ولا سحر، ولكان أحرى به أن يسمى علماً لا أدبا؛ لأن خصيصة الأدب في لغات العالم كلها أن معانيه خيالية، وليس معنى هذا أنها بمعزل عن منطق الحياة، أو فيها خلط واضطراب، وما زال العالم يكبر ما خلفه هوميروس واليونان من تراث، وأي منطق في أبطالهم وأعمالهم الخوارق وهم آلهة وأنصاف آلهة؟

- 5 -

(لغتنا لا تماشي المعارف العصرية؛ لأنها قضت شبابها تلابس مجتمعاً أرستقراطياً حربياً عقيدياً) ص 77 (يجب أن تكون لغتنا متمدنة تتسع للتعبير عن نحو مائة وعشرين علماً وفناً لم يكن يعرفها العرب الذين ورثنا عنهم لغتنا) ص 20

أما أن لغتنا متخلفة عن ركب الحياة العصرية فهذا حق، ولكن الوزر علينا؛ لأن اللغة لا تنمي نفسها، وإنما ينميها المتكلمون بها، وقد ركدت حياتنا أحقاباً طوالاً انزوينا فيها عن العالم المتجدد، فلما أفقنا وجدنا في لغتنا قصوراً عن مجاراة الحياة المتجددة، فعلينا أن ننميها بالاشتقاق أو التعريب

وأما اتهام اللغة بأنها وليدة مجتمع أرستقراطي حربي ديني فلم تعد صالحة لحياتنا - فجرأة ودعوى باطلة، فلم تكن الأمة الإسلامية في العصر العباسي الذي يقصده المؤلف أرستقراطية حربية دينية فحسب، وإلا فبأية لغة ترجم المسلمون تراث اليونان والفرس والهنود والنبط؟ أتتسع اللغة العربية للتعبير عن فلسفة أفلاطون وأرسطو والتعليق عليها وشرحها ثم تتهم بأنها لغة مجتمع أرستقراطي حربي ديني فحسب فليست صالحة لنا؛ وبأية لغة ألف المسلمون في الفلسفة والجغرافيا والفلك والرياضة والمنطق والأخلاق والكيمياء والبلاغة الخ. . . الخ

وبحسبي أن المؤلف قد ناقض نفسه بقوله: (إن اللغة خدمت المجتمع العباسي أجل خدمة، وقامت بشئون حياته) ص 75

ومن عجب أن يطالب بإلغاء كلمات الحرب من لغتنا؛ لأن مجتمعنا سلمي؛ ص 77 فأي سلام هذا الذي يحلم به؟ وأين اللغة التي تخلو من كلمات الحرب حتى نجرد لغتنا منها؟ أو ليس من الحق أن تتهم اللغة بعد قرن إذا ما جردناها من كلمات الحرب بأنها كانت لغة قوم أذلاء مستضعفين؟

- 6 -

(وإذا كان اللورد هوردر الطبيب الإنجليزي ينصح لكليات الطب في بريطانيا بتدريس كتاب جيفونز في المنطق في السنة الأولى من الدراسة الطبية فإننا أحوج إلى مثل هذه النصيحة في دراسة اللغة العربية في كلية الآداب أو في دار العلوم) ص 16

والعجب من مؤلف ينصب قلمه للإصلاح المزعوم أو الموهوم ثم يتجنى أو يغفل، كأنه لا يعلم أن المنطق القديم والحديث يدرس بدار العلوم دراسة تفوق الحد الذي يتطلبه الأستاذ.

- 7 -

(أبناء دار العلوم هم الذين تخصصوا في اللغة، وتخصصهم حرمهم من دراسات بشرية عدة، فضاقت آفاقهم وتحجرت لغتهم. . . وهم يخشون التغيير لأسباب اقتصادية وطبقية) ص 14

أما أنهم هم الذين تخصصوا في اللغة وأدبها فهذا حق، وأما أن تخصصهم حرمهم من دراسات بشرية عدة فهذا باطل، ذلك أنهم يدرسون مع اللغة التي تخصصوا وحدهم في دراستها كما يقول الأستاذ ثقافات أخرى منها علم النفس والتربية والتاريخ والشريعة والمنطق والأدب، والأدب المقارن والعبرية والسريانية والإنجليزية والاقتصاد والاجتماع. . . الخ الخ. . . وقد درسوا في تجهيزية دار العلوم برنامج المدارس الثانوية وزادوا عليه التفسير والحديث والفقه ولو اطلع الأستاذ على مناهجهم واستيعابهم لها وشغفهم بالبحث والدرس لغير رأيه، أو لوجد من الخير له ألا يهاجم به إن كان له في الإصرار على الانتقاص الظالم أرب.

وأما أن المتخرجين في دار العلوم يخشون التغيير والتجديد لأسباب اقتصادية وطبقية فهذا افتراء وضغن، فليسوا يعادون التجديد حرصاً على وظائفهم أن تزايلهم كما يزعم؛ لأنهم دائماً في طليعة المجددين، لكن على أن التجديد إصلاح وبناء ودعم، لا اعتساف وثرثرة وهدم، ثم هم قد درسوا الرياضة والتاريخ والجغرافيا في مدارس المعلمين والمدارس الحرة فبرعوا، واستحقوا تقدير الرؤساء، ونالوا إعجاب الطلاب، ولم يخطر لأيهم أن يقاوم تجديداً في اللغة لأنه يؤثر صالحه كما يتهجم عليهم الأستاذ، وإلا فما بالهم يجددون في منهج دار العلوم ويستقدمون أساتذة ليسوا من أبنائها؟ وما بالهم دعوا إلى إنشاء المجمع اللغوي منذ ثلاثين عاماً؟

- 8 -

ولم ينفد بعد تجنيه على دار العلوم، فيقول (ودار العلوم للمسلمين، وهذه نظرة تربط بين اللغة والدين. . . فاللغة عند زكي مبارك وابن عرب والحكومة المصرية ليست لغة الديمقراطية والأتومبيل والتلفزيون بل هي لغة القرآن وتقاليد العرب) ويخيل لي أن هذا مفتاح ضغنه على دار العلوم، فلماذا يختص بها المسلمون؟ أليس في هذا حرص على اللغة العربية لأنها لغة الدين؟ نعم دار العلوم للمسلمين، لأن المسلمين ما زالوا يرون حفظ القرآن الكريم والحديث الشريف غذاء اللغة ومعينا للأدب، وما زالوا يحرصون على سلامة اللغة وبقائها ليبقى الدين ويبقى القرآن الكريم. وأي ضير في أن يكون للغة علاقة بالدين؟ أيريد الأستاذ أن يتهاون أبناء دار العلوم باللغة فلا إعراب ولا فصاحة ولا تحرز من أن تفشو الكلمات الأعجمية وإن استطعنا وضع معانيها من لغتنا العربية كما صرح بذلك في كتابه حتى يصبح القرآن غريباً في هذه اللغة وهو منها الروح الملهم والمدد الذي لا يغيض؟ أم يريد ألا يدرس أبناء دار العلوم دينهم ولا يعلموا فيما بعد تلاميذهم؟ - 9 -

وقد كان نابليون يصف الأدباء بأنهم تجار الكلمات، ولأبي تمام شطرة من بيت كثيراً ما تذكر هي:

(السيف أصدق أنباء من الكتب)

والواقع أن أبا تمام لم يقل كلمة هي أبعد عن الصحة والحقيقة من هذه الشطرة لأن السيوف لا تتحرك إلا للكلام الذي سبقها. . .) ص 88

فهم أن أبا تمام يفضل الحرب والقسوة على الثقافة، كنابليون ولكن الحقيقة أن الشاعر يريد كتب المنجمين الذين أرادوا أن يعوقوا المعتصم عن فتح عمورية، والتنجيم خرافة، فلا تثريب على الشاعر ولا وجه للومه، والشاعر يقول في القصيدة نفسها:

والعلم في شهب الأرماح لامعة ... وفي الجديدين لا في السبعة الشهب

مشيراً إلى خرافة المنجمين.

(يتبع)

احمد محمد الحوقي المدرس بالسعدية الثانوية


مجلة الرسالة - العدد 624
بتاريخ: 18 - 06 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى