دراسات في التراث ابن خلدون - اللغة ملكة صناعية.. ( المقدمة )

اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان، للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة، للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة، والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.
فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله، وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولاً، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم، هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال.
وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم، ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم، وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضًا، فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى، وهذا معنى فساد اللسان العربي.
ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم.
وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم، وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الأعاجم بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.

ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم.


والسبب في ذلك: أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية، لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة، إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً.
مثل أن يقول بصير بالخياطة: غير محكم لملكتها، في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن تدخل الخيط، في خرت الإبرة، ثم تغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، وتخرجها من الجانب الأخر بمقدار كذا، ثم تردها إلى حيث ابتدأت، وتخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على وصفه إلى آخر العمل، ويعطي صورة الحبك والتنبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها، وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئًا.
وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه، وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما، وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية، إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه.
وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل.
وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو في مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي.
وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية.
فمن هنا يعلم: أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة، وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيرًا بحال هذه الملكة، وهو قليل واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له، قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته، وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة.
ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة، وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية من ذلك، إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب وكلامهم، فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو يتنبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه، وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها ممن سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنطبع النفس بها، وتستعد إلى تحصيلها وقبولها.
وأما من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب، إلا إن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه، فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكلية، وكأنهم لا ينظرون في كلام العرب، وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان، وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علماً بحتاً وبعدوا عن ثمرتها، وتعلم ما قررناه في هذا الباب، أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدر الأمور كلها، والله أعلم بالغيب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى