محمد محضار - رواية "خلف السراب".. الفصل الرابع

كانت أختي نادية فتاة خفيفة الظل ، تتميز بروحها المرحة وظلها الخفيف.، اشتغلت في بداية حياتها العملية، بضواحي المدينة ، لكن والدي استطاع أن يتدخل عن طريق بعض معارفه،وتم نقلها إلى داخل المدينة،ومنذ ذلك الحين أصبح موضوع زواجها واستقرارها يقض مضجع والدتي ،فهو تثيره أحيانا تصريحا ، وأحيانا أخرى تلميحا ، وكانت أختي تكتفي بالابتسام وترديد قولها المعتاد :" عندما يأتي النصيب نقول باسم الله وندخل القفص دون تردد" وكان والدي يعلق على الموضوع ضاحكا "أتمنى ألا تتزوجي رجل شرطة لأنك لن ترتاحي معه، لأن حياته كلها متاعب ومشاكل ".
ولأن علاقتي بنادية كانت قوية وعميقة، لم أتردد في قبول اللقاء مع الرجل الذي تتمناه شريكا لحياتها؛ رافقتها للقائه أحد مقاصف المدينة ..
كان فتى أختي شابا رقيق العود، متوسط الطول، أكرث الرأس، لا تخلو تقاسيم وجهه من وسامة. ما أن وقع بصره علينا أنا وأختي متجهين نحو مكانه في المقصف حتى قام مسرعا وتقدم صوبنا مستبشرا. مدّ نحوي يدا نحيفة وهو يبتسم، وأسرعت أختي تقوم بواجب التعريف:
-عبد الحق، أخي.. الطاهر..
ردّ هو بصوت متلعثم:
-تشرفنا...
قلت الكلمة نفسَها.. وجلسنا جميعا حول إحدى منضدات المقصف. جاء النادل، فطلبنا عصيرا. قال الطاهر، برنة يختلط فيها الخجل بالاضطراب، موجها حديثه إليّ:
-لا بد أن الآنسة حليمة حدثتكم عن رغبتي..
وقاطعته أختي ضاحكة:
-وقلت له إنك تريد أن تتزوجني..
قال هو:
-ما رأيكم، إذن؟
ابتسمتُ وقلتُ:
-الرأي رأيكما، ما دمتما متفاهمين؛ فأنا، شخصيا، أدعو لكما بالسعادة.
ردّ بصوت ينمّ عن الشعور بالغبطة:
-بالمناسبة، أرجو أن تفاتح السيد الوالد في الموضوع وتهيئ لنا جو الزيارة، أنا ووالدتي.
-لا مانع عندي في هذا.. سأقوم به على الرأس والعين.
جاء النادل بكؤوس العصير، فارتشفنا منها، واندفع الطاهر يحدّثني عن نفسه بأسلوب مرتبك، تحت نظرات أختي المركزة عليه وابتسامتها لا تفارق شفتيها. قال إنه موظف في وزارة الفلاحة ويسكن صحبة والديه وأخته الأرملة. قال، أيضا، إن أصدقاءه في العمل يحسدونه على حسن سلوكه وجدّيته في العمل وعلى حسن علاقته برئيس المصلحة.. استمر على هذا المنوال، حتى بعث كلامه الملل في نفسي. لمستُ عن قرب ضعف شخصيته، وقلت لنفسي: "لا بد أن هذه الصفة هي التي جعلت أختي تختاره دون غيره؛ فالمعروف عن بنات حواء أنهن يهمن بحب الامتلاك، وزوج من هذا النوع كفيل بأن يرضي غرورهن ويمنحهنّ فرصا متكررة لاستعراض عضلاتهنّ".
قاطعتْه أختي، من جديد، وهو منصرف إلى الحديث قائلة:
-أظنك ستجد فرصا أخرى، يا عزيزي، لتقص على أخي فصول حياتك.
رد مبتسما:
-طبعا.. لقد أصبحنا عائلة.
تركتُ أختي مع فارس أحلامها ومضيت، أنقر بخطوي الشارد صدر الرصيف الجامد. وفجأة، انتابني توتر شديد، وبدت لي كل الأشياء باهتة.. لم أعد قادرا على التركيز، وفقدتُ السيطرة على نفسي، وانطلقتْ داخلي صرخاتُ الوحش الجائع، وراحتْ تعلو وترتفع، وانحدرت حتى لامست الحضيض، وإذا بي عارٍ تماما من مسوح التكلف، وإذا بخلجات شبقية تتردد في أعماقي: ماذا حدث؟ لا أدري.. فكرتُ: ما أجمل جسد سامية الصارخ بالحياة، إنه شهيّ ولذيذ.. ولكنْ أين هي سامية الآن، في هذه اللحظة المتأزمة؟
تحسستُ بأناملي مفتاح شقة صديقي حميد في جيب بنطلوني. مضت مدة لم تطأ قدماي هذه الشقة صحبة فتاة، ما الذي يمنع من هذا اليوم؟ راحتِ الفكرة تكبر وتكبر حتى ملكت عليّ عقلي، ومرّ شريطٌ من اللقطات الجنسية التي خبرتُها من قبل بذهني. أدركتُ أن تصريف توتري لن يتأتى إلا عن طريق "الممارسة الفعلية"، وقلت لنفسي: "لأبحث عن امرأة أو فتاة تمتص جذوة رغبتي الثائرة وتجمد ثورة بركاني".
شارع مولاي يوسف يضيق بالمارة، المندفعين من الأزقة الفرعية، أو المتجمهرين حول واجهات المحلات التجارية أو بائعي السلع المعروضة على الرصيف.. والسيارات تمرّ وسط الطريق بصعوبة، والشرطيّ يرفع يديه في مختلف الاتجاهات، وصفارته تدوي باستمرار. قطعتُ إلى الرصيف الثاني عبر علامات المرور الخاصة بالراجلين. انحدرتُ عبر زقاق مولاي إدريس، المختنق بالسابلة. قادتني قدماي إلى "قيسارية الشرادي". كان روادها كُثرا، وأغلبهم من النساء. غرقتُ بين طوابير متحركة، وسمحتُ لعيني بتتبع الحسناوات المتجولات. غازلتُ إحداهن، فرمقتني بنظرات نارية. تركتُ القيسارية وعدتُ، من جديد، إلى زقاق مولاي إدريس، ثم إلى شارع مولاي إسماعيل.. دخلتُ إلى قيسارية أخرى في هذا الشّارع. صعدتُ إلى طابقها الفوقي. غازلتُ امرأة ناضجة؛ قالت لي: "اسمح لي، يا سيدي، راني مْزوجة".. ومضت إلى حال سبيلها. نزلتُ إلى الأسفل، ثم خرجتُ إلى إفريز الشارع مرة أخرى. مشيتُ بخطو متثاقل. "أحسست باليباب القاتل يتسلل إلى كياني، يقتل الابتسامة على شفتي، يسرق النضارة من محياي ويغرز إبر الكآبة في مسام جلدي"..
تناهى إلى سمعي، فجأة، وقع خطو نسائيّ خلفي؛ فأسرعت ألتفت. التقت نظراتنا، فخففتُ من سرعتي حتى تحاذينا وقلتُ بصوت مضطرب:
-مساء الخير..
ردتّ عليّ بصوت تخالطه بحة لذيذة:
-مساء الخير، يا سيدي..
مرّت لحظة صمت قصير، ونحن نمشي؛ قلتُ بعدها:
-هل أستطيع محادثتك؟
-تفضل، أنا أسمعك.
قلتُ، وأنا أشير إلى الحقيبة الصغيرة التي تحمل:
-يبدو أنّكِ كنتِ على سفر.
-تماما.. أنا لستُ من هذه المدينة، وقد نزلتُ لتوّي من الحافلة.
-لا بد أنك جئتِ لزيارة قريب لك.
ابتسمت وقالت:
-نعم، جئت لزيارة أختي، هل هناك من أسئلة أخرى؟
اضطربتُ.. لكنني تداركتُ الموقف، وقلتُ:
-في الواقع.. أريد أن أحدثك؛ لكنْ لا أعرف كيف أبدأ؟ ما رأيك لو نجلس في مقصف أو مقهى؟
ردّت:
-لا أستطيع.. أنت تعلم أن المدينة صغيرة، وألسنة الناس طويلة.. ربما يراني بصحبتك زوج أختي.
قلت بجرأة، وأنا أعلم أنني أرمي بآخر سهم في جعبتي:
-ما رأيك لو تأتين معي إلى الشقة؟
-الشقة!
-نعم.. هناك لن يضايقنا أحد.
-وأين تقع؟
-قريبة.. وإذا شئت ركبنا "تاكسي".
ظلّت صامتة لحظة، خلتها دهرا. ثم قالت:
-لا مانع عندي..
وركبنا سيارة أجرة إلى حيّ النهضة. وطيلة المسافة التي قطعنا، لم نتكلم.. وحين ترجّلنا، قلت:
-من الأحسن أن أسبقك واتبعيني من الخلف، حتى لا نثير الشبهات.
-كما تريد.
سرتُ وسارت خلفي حتى وصلنا باب العمارة. صعدتُ ثم صعدت. أدخلت المفتاح في قفل الشقة رقم 4، ودفعتُ الباب ودلفنا إلى الداخل. كانت الشقة غير مأهولة ولا يزورها صديقي إلا نادرا، وقد اكتراها فقط من أجل جلساته الخاصة.
سألتني الفتاة:
-هل تسكن وحدك؟
قلتُ:
-لا، أسكن صحبة والدَيّ.
تابعتُ، وأنا أشير إلى فضاء الشقة:
-هذه شقة صديقي الخاصة.
دخلنا إلى الصالون. وضعتْ حقيبتها على المنضدة، ثم خلعتْ جلبابها وعلّقته في المشجب. لاحتْ كسوتها مطرزة من حول العنق بـ"الدانتيل"، ومنفتحة على الصدر. ظهر ساعداها الغضان الطريان. جلستْ على الكنبة، ووضعت ساقا على ساق، فانحسر ثوب كسوتها وانكشف جزء من فخذيها. أكلت جسدها لحظة بأنظاري الجائعة، وقلتُ:
-سأنزل لأحضر مشروبا.
وهرولتُ مسرعا إلى الأسفل. ابتعتُ من البقال زجاجة "ليمونادة"، وعدتُ على أعقابي وقدماي ترتعدان. وضعتُ الزجاجة أمامها، وجلبتُ من المطبخ كأسين وجلستُ قربها. شربنا معا. قالت وهي تنظر إليّ بوجه مشرق وعينين دعجاوين:
- نظراتك تبدو شرهة.. هل أعجبتُك؟
قلتُ:
-إنك مثيرة..
قالت:
-حقا!؟
قلتُ:
-حقا.. ما اسمك؟
ابتسمتْ وقالت:
-السعدية.
-وأنا اسمي عبد الحق.
اقتربتُ منها، وتلامس جسدانا، وأسندتُ رأسي إلى كتفها. لم تعترض، فطبعتُ قُبلة على خدها، وطوقتها بذراعيّ
برقّة تفيض بالحنان، رحتُ أضمّها إلى صدري، وغابتْ أناملي تحت ثنايا ثوبها تتحسس جلدها الناعم. تسللتْ أطراف أصابعها إلى قفاي، تداعبُ شعيرات رأسي الخلفية. لفحتْ وجهي حرارة أنفاسها العابقة بالشذى، ثم انصهرتْ شفاهنا في قبلة محمومة.. إنها لحظة الرغبة، والحب طليق حر بيننا.. إنها لحظة التوحد والخلود الإنساني. قمتُ وقلتُ، وأنا أمد لها يدي:
-تعالي معي.
قامت، خاصرتُها وخاصرتني.. اتّجهت بها نحو غرفة النوم. جلستُ على حافة السرير؛ جالت بنظراتها في فضاء الغرفة ثم قالت:
- الأثاث رفيع القيمة.
قلتُ وأنا أبتسم:
-طبعا، فصاحبه مهندس في الفوسفاط وله إمكانات ضخمة.
ثم ضغطتُ على جهاز "الريكوردر"؛ فانساب لحنٌ دافئٌ. قامت الفتاة، فخلعتْ ثوبها، ثم اندسّت تحت غطاء الفراش، ونظرتْ نحوي كأنما تدعوني إلى الاقتداء بها. ولم أتوان عن تلبية ندائها الصامت. بعد حين، أصبحت بالقرب منها، ثم التحمنا، وانصهرنا في بوثقة واحدة، ولم أعد أذكر شيئا.. نسيتُ مشاكلي، بطالتي، سامية وطبقتها.. أصابني ما يشبه الخدر، وبدأتُ أشعر باللامبالاة نحو صروف الدهر. تبددتْ قسوة الحياة من حولي، وإذا بشمس الحقيقة تشرف في ذاتي.. "إنني أحيى وأعانق الوجود؛ أستوعب مفهوم الحياة وأنعتق من أغلال العدم؛ إيروس العظيم يزرع شرنقة الحب في ذاكرتي"..
تقطّع من الزمن ردح ونحن غارقان في نشوتنا. وعندما انتبهنا إلى نفسينا كان الظلام قد نشر عباءته واحتوى المدينة. قمتُ إلى الصالون وتركتها، ثم نزلتُ. ذهبتُ إلى سوق الخضر والفواكه، فاشتريتُ بعض ما تيسر، ثم مررتُ على الجزار فاشتريت ربع كيلوغرام من اللحم المفروم؛ ولم أنس الخباز وقفلتُ عائدا إلى الشقة. وضعت المشتريات في المطبخ، وقصدتُ الصالون. وجدتُها ترجّل شعرها.. سألتها:
-هل أخذت دوشا.
ردّت:
-نعم.. أنا أعشق النظافة.
كانت أمامها على المنضدة أدوات زينتها التي أخرجتها من حقيبتها. جلست بمواجهتها، أتأملها وهي تتزين. كانت بحق امرأة ناضجة الأنوثة وفائقة الجمال. عندما انتهتْ، دعوتُها إلى المطبخ، ومضينا نعدّ طعام العشاء.
تعشينا في الصالون، وأكلنا تفاحا، بعد ذلك، ثم شربنا الشاي. دخنتُ سيجارة، أما هي فقالت إنها لا تدخن. سألتني، وعيناها تومضان ببريق لذيذ:
-حدّثني قليلا عن نفسك.
قلتُ:
-ماذا تريدين أن تعرفي عني؟
-ما لا تستطيع أن تخبئه وتبقيه سرا.
مضيتُ أحكي لها عن نفسي، ومشاكلي، وبطالتي؛ حتى إذا فرغت، قلتُ وأنا أبتسم:
-والآن، جاء دورك، حدثيني عن نفسك..
قالت، وهي تسرح بنظرها نحو النافذة المشرعة على مصراعيها:
-أنا من مدينة تادلة، متزوجة منذ ثلاث سنوات.
قاطعتُها باندهاش:
-متزوجة!؟
-ماذا؟ هل تراك ندمت على كل ما جرى بيننا؟!
-لا أدري.. لا أدري.
قالت وهي تأخذ يدي بين راحتيها:
-زوجي يشتغل في فرنسا، وقد مرّت الآن سنة وثلاثة شهور على غيابه.. وأنت تعلم أن هذه المدة طويلة.. فكيف لامرأة شابة مثلي، حديثة العهد بالزواج، أن تصبر.. كل هذه المدة؟
سألتها:
-هل هذه هي المرة الأولى التي تضاجعين فيها رجلا غير زوجك؟
ابتسمت وقالت:
-وهل يهمك أن تعرف؟
-إذا لم يكن هناك حرج؟
-الواقع أنها ثاني مرة.. فمنذ ستة أشهر خلت، قضيت ليلة ممتعة مع رجل في الأربعين هنا في هذه المدينة تحديدا.. فأنا لا أستطيع أن أحرّك الساكن في تادلة، لأنني أقيم صحبة أم زوجي.
-إذن، فزيارتك لأختك اليوم لم تكن إلا ذريعة لإشباع رغبتك!؟
ضحكت وقالت:
-أنا أضرب عصفورين بحجر واحد، على كل حال.
فكرت: "الجنس، أحيانا، يصبح غلا يطوق عنق الإنسان ويجرفه إلى الهاوية".
اقتربت مني حتى حاذتني ووضعت شفتها على رقبتي، ثم أحاطتني بذراعيها وهمست بحنو:
-فيم تفكر؟
لثمتُ جبينها المضيء، وأجبتُ بصوت رقيق:
-لا أفكر في شيء..
-اسمع يا عبد الحق.. لا أريدك أن تندم على شيء.. وتذكر أنني سلّمتك نفسي برغبتي، لأنك تستحق.
ودرج الوقت هادئا. بدا الشارع عبر النافذة ساكنا، ما عدا من مواء بعض القطط الشاردة، الذي كان يسمع من حين إلى آخر. علقت بجو الغرفة شذرات من عبق عطر السعدية، ذي المفعول السحري على الخياشيم، ولاح محياها يومض بلمحات من سحر قوي. قلتُ، وأناملي تعبث بخصلات شعرها المنسدل على كتفيها:
-الليلة ليلتنا.. فلنعشها كيفما كانت الظروف.
ثم قمنا وأنا أطوّق خصرها اللدن، ومشينا نحو غرفة النوم، وتمطّتْ على السرير بغنج مثير. ضغطتُ على زر الأباجورة الصغيرة التي تعلو المنضدة المجاورة للسرير وأطفأتُ نور مصباح الغرفة العادي فانساب ضوء أحمر خافت يضاهي لون الشفق، وانسكبتْ ظلاله البهية على جسدها الرخو. تمددتُ إلى جانبها، ثم أخذتُها بين أحضاني وغرقنا في بحر الشهوة الحمراء.
تسربلتِ الأشياء أمام أنظاري بلون ورديّ فاتن. أخذتني نشوةُ أحلام جامحة، واختلجت في داخلي رعشات دافئة. اشتعل لهبُ من الشبق واللذة في أحشائي، وانحسرت براقع الزمان عن زخرف من الأماني الناطقة، وصبّت كؤوس المدام على موائد السحر الشائق. عانقتُ في جسدها الغضّ النابض بالحياة حرارة الوجود، وتجرعتُ من شفتيها التامرتين جرعات من العسل الصافي. قلتُ لنفسي: "ليذهب الضمير إلى الجحيم، ولتسقط القيم في قبو النّسيان.. ما الحياة إلا عبث، ولا داعيَ إلى التشبث بالمثاليات في عالم لا يعترف بها.. وعلى كل حال، لو لم أكن أنا الذي ضاجعتُ السعدية لكان غيري"..
مضى الوقت يقطع مشواره، وحلّ الفجر بأنسامه العذبة. تسرّبت إلينا من فجوة دفتي النافذة برودة لذيذة. أحسستُ بجفني يثقلان عليّ، فأسلمتُ نفسي لسلطان النوم وأنا أطوّق وسطها بذراعي..
فتحتُ عيني على أشعة الشمس تتسرب من النافذة، وتنعكس مباشرة على الفراش. كانت السعدية قد أفاقت، هي الأخرى، من النوم وألقيتُ نظرة سريعة على المنبه النابض فوق المنضدة. كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة. عندما أردتُ القيام، أمسكتِ السعدية بيدي وسلّمتني شفتيها، ودخلنا من جديد مضمار الفعل.
استحممنا معا، ثم أفطرنا. ارتدتِ السعدية جلبابها وحملت حقيبتها، ولما همّت بالخروج دسستُ في يدها بعض الوريقات المالية؛ لكنها انتفضت وعلت أساريرَ وجهها مسحة من الغضب وهتفت بي:
-إنك تهينني بهذا.. أنا لست عاهرة حتى أقبض الثمن!
-لم أقصد، لكنْ...
-أنا لست محتاجة.. زوجي يكفل لي عيشة مثالية.
قلت لنفسي، وعيناي متبثتان عليها: "ومع ذلك، تخونينه"! استطردت، محدّثا نفسي دائما: "ولكنْ من يدريك، يا جميلتي.. لعله غارق اللحظة في أحضان شقراء فرنسية.. فنحن الرجال لا نزهد في النساء إلا ونحن على حافة القبر"..
خرجتْ بعد أن اعتذرت لها، واسترجعتُ منها تلك الوريقات المالية. عدتُ إلى البيت متعبا مكدودا، فصعدتُ إلى غرفتي ونمتُ نوما عميقا.


ــــــــــــــــــــــــــــــ
* الفصل الرابع من رواية خلف السراب التي تمت كتابتها سنة 1986

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى