فوزية العلوي - التوأم.. قصة قصيرة

أوقدتُ السراج كعادتي مذ نزلتُ هنا , ربما كانت الشمس ُ تمج بعض ضيائها , ولكن الحجرة كانت غارقة في ظلها الأعتم, فرأيتُ أن إيقاد المصباح بات أمرا ملحّا. كانت النافذة الصغيرة موصدة وهذا ما يفسر ظلام الحجرة المبكّر
لم أفكر مطلقا في فتح النافذة بعد أن رأيتها محكمة الإغلاق وقد دقت المسامير على بعض جوانبها . لا بدّ أن من أغلقها لم يفعل ذلك هدرا . أمر خطير يكون دفعهُ إلى ذلك, قد تكون عواصف الرمل التي تباغتُ البلدة من حين إلى حين وتملأ المناخر والعيون والحلوق وما نضّد من طعام المؤونة , وقد يكون تسرب العقارب والأفاعي ولدغ الليل المحتمل . ولربّما خاف مغلق النافذة من العيون المتلصّصة فأعدم النافذة أصلا , وجعلها وهما بعد أن كانت حقيقة . ولكن هذا الذي خامرني احتما ل كا ُحتمال موتي

المباغت , واحتمال قدوم الصعاليك لأخذ الوثيقة مني , ولكني لا أعلم في واقع الأمر من أغلق النافذة ومتى , فلم أرهق نفسي بالتفكير في أمر لا طائل من ورائه . وقفتُ أعيد قراءة تفاصيل الحجرة, قلتُ أتسلى وأهزمُ الا نتظار. كان السرير باهظ الإتساع وقليل الإرتفاع , غطاؤهُ بارد ومغبرّ , لا أحدتمطّى فوقه ُ من زمان بعيد , والوسادة مستطيلة من ذلك الطراز القديم والمجعول للأزواج قبل أن يفرق بينهم صياح الرضّع وسهرُ الليل والحمى والعابرون فوق سباخ الملح .
وقفتُ أحملقُ في المرآة , إطارها النحاسي المزخرفُ بالنخيل شغلني لحظة عن تأمل وجهي , ولكنّي سرعان ما عدتُ إليه . راعني أن أن أكون بمثل ذلك الشحوب , وعيناي غارتا كما لو كنتُ قناعا من تلك الأقنعة الأثرية القديمة . حاولتُ أن أعرك وجنتيّ قليلا لأعيد حمرتهما وأسوي شعري لأتجمّل , لكنني شعرتُ باُزوراره في حشاي وبقدميه تركلان جدار بطني فاُرتجفتُ … أوّاه, كيف نسيتهُ ؟ وهل تراه كان غافيا طيلة الفترة التي نزلت فيها من العربة وقطعتُ الطريق إلى هنا ؟ كنتُ خفيفة وقتها كأنما أشفق عليّ فلم يشأ أن يكلفني وزرهُ , لكنهُ الساعة غضب من غفلتي وجفائي , فضممتُ كفّي على بطني وضغطتُ عليه أهدّئ من روعه , وذكرتُ أخاهُ الذي لم أرهُ منذ وقت طويل ولم أبك, ضوءُ عينيه يملأ قلبي فيمنعني من النشيج . هرعتُ إلى جرّة الماء في الزاوية ورفعتها فوق وجهي تاركة شلال الماء يغمرني ويتدفقُ إلى داخلي كأنما أردتُ لطفلي أن يروي غلتهُ ويغفر لي سهوي وجفوتي . أحسستُ براحة و الماء يبلّلُ ثوبي وبدتْ بطني أكثر بروزا وقد التصق مئزري بجسمي فطفقتُ أوسّعُهُ عليّ والماء المتدحرج على جلدي أشعرني بجذل كالأطفال . سمعتُ صرير الباب وتبيّنتُ العجوز تدخلُ بالطعام وتغمغمُ في إجهاد :
-هذا الخبزُساخن , واللّحمُ كما أردته كثير الفلفل والملح أخشى والله عى هذا الجنين , كلي هنيئا , ولو أردت اللبن سلي مباركة إني أراها ذهبتْ لحلب الشياه . أما الناقة المربوطة في الفناء فضرعها كزّ , عيون حاسدة تترصّدنا نسألُ الله الصون . لم أكن أعلمُ الصلة التي تربطني بهذه العجوز , ولكني حُدثتُ قبل أن آتي إلى هنا أنها من صلة رحمي , ولكنّي لم أرها في السابق , ولا سعتْ هي إلى مقاربتي أو مدّ حبل الود ّ بيننا . كنتُ أراها حثيثة السير كنملة لا تهدأ اليوم كلهُ , فهي بين طهي وجلي ورحي , ورأيتها من فتحة الباب تغزلُ الصوف في البراح الفسيح الذي أمام الحجرات , ولكنها في صمتها كانت تصغي إلى شيء أنا أجهلهُ , ربما حدثتها الوهادُ والصحاري المتاخمة وأشجارُ السدر والزّكّوم بما لاأدركُ. أما الأخريات فكنّ في صخب ومرح , وربما تخاصمن أحيانا واُنقسمن إلى شيع وأحلاف لكنّهنّ لا يلبثن أن يلتئمن ويضحكن عند المساء وتسري الإلفة ُ بينهنّ, ويسمرن ويتلاعبن ولكن أبدا لم يقتربن مني , بل تكتفي الواحدةُ إذا تقاطعتْ نظراتنا بالإبتسام والإنحناء . شهقتُ فجأة وأنا أذكر الوثيقة ,قلت أتلفها الماء والله وهي في صدري وأنا أصبّ الجرّة بما فيها على رأسي . تحسّست صدري وأنا أكاد أصرخ واضطرب الطفل في حشاي لشدّة فرقي , نزعت ثوبي فوجدت اللّبن يسحّ والورقة اخضلّت حتى بتّ أخاف على حروفها من التلف فأخذتها بيد وجلة مناشدة الله أن لا تتفتت ووضعتها على الفراش وأنا أحاول بسطها حتى انتشرت وهرعت الى السّراج أقرّبه وأرى إن سال مدادها وغابت معانيها , وتنفّست بارتياح وأنا أرى حروفها تشعّ وزخرف أخضرها وأحمرها متوهّج كريحان الأرض , ظللت أنفخ عليها ولم أعبأ بعريي أعلم أن لا أحد يدخل عليّ في خلوتي عدا ما تفعله العجوز أو مباركة إن أتتني باللّبن أو بأثوابي وقد غسلتها أو عندما مسّت بطني وباركتني وقالت وهي ترمقني بعين أتلف الزمان صفاءها :
ـ ألك في سلا لتك من تنجب التّوائم ؟
وقفت متمتّعة بحريتي وقد تكدّس ثوبي عند قدميّ واستطبت الماء وقد برد على جسمي فأنعشني وتنفست براحة ثم اقتربت من المرآة التي لا تعكس أكثر من نصفي الأعلى وتأملت وجهي الذي بدا أكثر عافية ورواء ورأيت الكحل وقد لطّخ محجريّ لفرط مادفق الماء على وجهي ولمحت قرن الغزال الفضيّ يرقص على خبب قلبي ومسحت على صدري فإذا بنهديّ ينابيع مترعة , غمر اللّبن كفّي ثمّ رأيته ينقّط الأرض عند قدميّ فأسرعت ألبس أثوابي وأستتر . ظللت ساهرة أرمق الوثيقة المختومة ولم أنتظر طويلا لتجفّ فقد كان لفح الهواء حارقا ولا أحد يعلم ما تخفيه العواصف ودواوير الرّمل المضلّة .
خفق الفجر والاطمئنان سرى في نفسي قليلا وسمعت الصبية يمرحون وطفلي في حشاي داخله الفرح فطفق يرقص معهم وحنّت نفسي الى الخروج لكني ذكرت وصاياهم وحرصهم وتذكّرت الورقة النفيسة فقفزت أنظر أمرها , لم يعد بإمكاني أن أدعها في مستوى الصّدر , خفت تبتلّ فيصيبها التّلف ففكّرت أن أجعلها كالنّطاق فوق بطني وطفقت أعدّ الأيام على أصابعي وأسجّل عددها على الجدار عند المرآة وأتأمّل ما تخفيه الشقوق , رأيت قطعا من شمع ذائب وأقلام قصب وإبرا غليظة وأعوادا من شيح وطرفاءوأكواز ذرة يابسة وحرباء محنّطة وقطعا من زجاج
ومفاتيح وقطعا نقديّة باد عهدها , تساءلت ألم يجدوا غيري
يحمل الوثيقة الى الناحية الأخرى وكيف لم يشفق جابر عليّ إذ أشار عليه كبيرهم بالفكرة ؟ ألم يفكّر في وعورة الطريق وما يمكن أن يصيبني من وهن ؟ ألم يخش عليّ قطّاع الطرق وما بي من حيلة , والعربة التي جهّزها لي أكانت كفيلة بإنقاذي لو ألمّت بي ملمّات الغائب ؟وهذه الدّار لمن تكون والنّساء من يكنّ؟ أخذتني هواجسي بعيدا وتصوّرت بطني مبقورة وطفلي تأكل مشيمته الضّباع , ارتجفت للفكرة واصطكّت أسناني ودبّ الخوف في مفاصلي حتى لم يعد بإمكاني أن ألمّ شتات جسدي فتكوّمتُ على الفراش. كان صلبا وقد خلتهُ كالدوح متأرجحا , وانبعث منه نفس أعرفهُ … لكأنه نفسُ أبي أو عمي الذي يزورنا في المواسم محملا بالبيض وخبز الذرة المعجون بالسمن . إنقلبتُ لأدسّ أنفي عميقا في اللحاف , وكنتُ كلما ضغطتُ أكثر كانت الرائحة أنفذ وألصق بروحي وذاكرتي حتى خلتني أقضم اللحاف بأسناني وأبكي . سمعتُ صرير الباب فقمتُ اصلح من شأني وأخفي بطني خفرا . كانت مباركة تقف بصحفة اللبن وقد علتها رغوة تُنبىء أنها حلبتها للتّو , ظلت ترمقني بعين بعيدة , لاحظت ولاشك امتقاع وجهي ودمعي فقالتْ:
-لا تعذبيهم , رحمة الله عليهم, إنهم مرتاحون هناك عند الهضبة . عاشوا هنيئا وماتوا هنيئا , ليس أجمل من ميتة تردّنا إلى الأرض التي نحبّها.
أومأتُ برأسي موافقة وخلتها تسبر بنظرتها الكليل كل مساربي القصية . أخذتُ الصحفة من يدها وأخفيتُ فيها وجهي , كرعتُ ونفسي مقطوع حتى شعرتُ بالطفل يرفس بطني أن كفي فقد ارتويتُ. سمعتُ من جديد هرج الصبية وهم يمرّون كالفراخ فركضتُ أرمقهم هذه المرة وقد تجرأتُ على الباب ففتحتهُ ووقفتُ خارج الحجرة. كانوا كثارا , بعضهم يحملُ سيوف خشب والبعضُ الآخر يجرّ خيوطا علقتْ بها قطع من الصفيح كأنها العربات. فيهم من كان يصهلُ ومن يخور ومن يرسلُ عواء , وركض طفل كالحصان الجامح وكاد يحفر الأرض كانوافي غفلة من أمرهم وقلوبهم عامرة بالبهجة . ربّت على بطني وأنا أذكر قولها ” ألك في سلالتك من تنجب التوائم ؟ “
رمقتني العجوز فجاءت وهي تلوي الصّوف على مغزلها وقالت :
ـ غدا عند الفجر تغادرين , خذي حذرك…سينتظرك من يأخذ الوديعة عند التلّة الحمراء , جهّزت لك بعض السّمن والذي في العربة سيحمل الماء وستقطعين مسافة ليست بالهينة على القدمين , سيرتاب الفاحصون بأمر العربة وليس ببعيد أن يهاجموها أمّا أن تسير امرأة حامل وهي تحمل سلّة فلن يثير ذلك فضول أحد , لذلك فإنّ المسافة الحرجة ستقطعينها راجلة , تجلّدي فثمّة من يحرسك عن بعد ولن يتركك للهلاك لو حاق بك …
ثمّ أضافت وهي تتحسّس بطني :
ـ أصائبة في العدّ انت ؟ تكونين في شهرك السابع أليس كذلك ؟ ضعي الورقة فوق بطنك وحاولي أن تلفّي عليها النطاق دون أن تتأذي ْ , إني أراهم في لهفة لملا قاتك , وكيف لا وأحوالهم مرتبكة هناك وحقوقهم ضائعة ومياههم لا خير فيها والقبة لو أنهم ضمنوها في أرضهم لحازوا كل الخير , وتحولت النعمة إلى ديارهم , وحطتْ كل القوافل عندهم تشتري وتبتاع, هات أتفحصها.
دسستُ يدي في ثوبي ومددتها بالوثيقة التي كانت حارة كقطعة من جسدي , أخذتها العجوز بلهفة وتشممتها وهي تضحكُ لأول مرة قائلة:
ـ أرضعتها لبنك ؟
ثم بسطتها وهي تحدّقُ فيها بعين ملهوفة وقالت:
ـانظري , هنا يمتدّ النهرُ , تصوري لو أنهم حازوا منبعهُ وهذه الآكام جميعا لنا والقبة , اُنظري إنها في أرض الساف ,سيخرس كل مرجف حين يرى هذه الوثيقة .
قبّلت الوثيقة بعد ذلك ثم طوتها وأعادتها إليّ وساعدتني على ربطها فوق بطني.
لم أنم ليلتها, كنتُ أسمعُ غناء مبحوحا بعيدا لكأنها العجوز تغني في الحجرة المقابلة , أو تنشج …ذكرياتها الخوالي , الرجالُ السمرُ ذوو البرانيس البيض الذين كانوا يذرعون هذه الدار , صخبهم ولغطهم وحكمتهم , وولدها ‘أحمد’ الذي هلك وهو يبحثُ عن الوثيقة في أرض الأوراس البعــيدة, ها هي بندقيتهُ ما تزالُ على الجدار وسرج جواده المطعّم بالفضة صامت في كبرياء..
طال ليلي عليّ وههمتُ أن أقتحم وحدتها أطلبُ اُنسا, لكني خفتُ أمنعُ عنها انسياب نفسها وما به ترتاح , فأحجمتُ ولم أفق إلا والعجوز تمدّني باللبن ساخنا وتأمرني أن أصبّ الزيت في شعري وأتدثر فقد حان الوقتُ . نهضتُ مرتجفة كنتُ في حلم بعيد وأنا أركضُ مع جداء بيض وأترابي في الصبا يقذفونني بالحصى والجعلان .
انحدرتُ وراء البيوت فوجدتُ العربة في انتظاري يقودها إنسان ملثم لاصبّح ولا نظر إليّ. تكوّرتُ خلفهُ وأشعل ظهر الجواد فاُنطلق كالسيل, تقلّقتُ وشعرتُ بالالم يشقُ بطني فصحتُ به :
-رويــدك…
فردّ بغلظة:
-لستُ أنا إنها تضاريس الأرض العصية.
تصلّب الطفلُ في بطني منزعجا , فظللتُ أربّتُ عليه ليهدأ وودتُ لو غنّيتُ . كم سرنا لستُ أدري…ولكن التضاريس كانت متشابهة والشجرُ يكتثّ مرة وأخر يخفّ , والأرض تتعرّى فتزيدني وحشة . شعرتُ بالعربة تتوقفُ فجأة والحوذي يهتف” إش… إش” يستوقفُ بذلك الجواد ودعاني إلى النزول ووجهه كقفاه. لم يكن في حضوره أو صوته ما يبعثُ على الإطمئنان , كان يقوم بمهمته كأنه يؤدي سخرة إلزامية . وقف أمامي دون أن ينظر إلي وأشار:
-سيري في ذلك المنحدر ولاتلتفتي , ولا بأس أن تتوقفي لوشعُرت بالإعياء, خذي معك هذا الوعاء , فيه ما يكفيك من الماء فالمسافة ليست طويلة جدا , ستجدين عند التلة من ينتظرك وسيصطحبك إلىحيثُ ترتاحين وتقضين بقية النهار , وعندما تعودين من الغد ستجدينني هنا في نفس المكان ولو حان حينك فلن اُعدم من يخبرني بذلك . اصطكت فرائصي وأنا أسمعُ كلامه , واستغربتُ برودة قلبه ووجهه الذي لا ينم على شيء وهرولتُ بعد أن سحبتُ الوعاء من يده دون أن أنظر إليه واتجهتُ نحو الدرب. كانت الأرض تنحدر بي , فكنتُ أجري دون إرادة مني , وبطني تختضّ , فأبسملُ وأقرأ المعوّذتين . كنتُ جامدة القلب والأطراف من شدة الخوف , والفضاء من حولي غير خالص الإضاءة ومساحته كأنما تتضاعفُ كل لحظة فيزداد شعوري بالضياع والفجر مازال مخيما على الآكام من حولي والصمتُ مسيطر بطريقة توحي كأنما صراخ حاد سينطلقُ في أي لحظة من جهة ما ومعهُ تحلّ الكارثة . لم يكن بإمكاني في تلك اللحظة أن أتساءل أو أندم أو أعيد النظر أو أشك في إخلاص جابر لي, لم يعد أمامي إلا أن أتقدم بحذر, وأن لا أثير الحصى , فقد تُثير أي حركة غير مدروسة شكوك العيون التي أستشعرها منثورة بين الحسك والقتاد كعيون السحالي . كان لا بدّ أن أمشي برصانة تلائمُ حملي وأن لا يبدو عليّ أي لهفة أو فرق .
شعرتُ بعرقي يرشح بقوة , وطلعت الشمسُ بسرعة لم أتوقعها , ووجدتُ الضوء أكثر إثارة لقلقي وهواجسي . كانت الأرض بيضاءُ عارية , ولم تكن الأشجار المنبثقة هنا وهناك لتحجب شيئا …أكون مكشوفة على بعد أكثر من ميل . كنتُ أدعو الله في سرّي وأعتبُ على جابر , إذ كيف هان عليه أن يحشرني في مثل هذه البلية ؟ وتساءلتُ لماذا أنا بالذات ؟ ومالي لم أرفض وقتها وحملي كان كافيا ليكون عذرا ؟ وما نفعي أنا من أرض يستردّونها على جثتي وجثة إبني ؟ ولكني شعرتُ بالخجل وأنا أذكرُ كل الذين يستشهدون في سبيل أن ينعم غيرهم بخيرات الأرض التي يحبونها , فحثثتُ الخطو راجية أن أسلم الوثيقة في أقرب وقت , لكني أحسستُ بألم يطوقني وبثقل في ساقيّ كأنما اصفدتا بالحديد, فتماسكتُ وعضضتُ على شفتي أطلبُ مزيدا من البأس , ولم أمش بضع خطوات حتى عاودني ألم أشد. شعرت كما لو أن أسنة تنشكّ في خاصرتي , نظرتُ حولي فلم ابصر إلا سرابا يتموّج ونتفا من العشب مغبرّة , ورقصتْ فوق الحصى يرابيعُ وجرذان ترابية اللون. كان لابد أن أتوقف , وأن أجرع بعض الماء وأنا أتلمّسُ الوثيقة تحت النطاق وماءُ جسمي غرّقني حتى خلتني أذوب .
عاودتُ السير صعودا , وأنا أرمي نظري إلى الهضبة التي لم يعد بيني وبينها إلا مسافة يسيرة , لكن الكلل أصابني . تهدجت نفسي من الحر والإعياء . أبصرتُ غير بعيد هامات وقامات تقفُ وتنحني كأنما ترمقني , وزلّت قدمي والحصى تناثر فخلتٌ قلبي يفرّعبر حلقي من الفزع , وتوقفتُ وتشبّثتُ بالأرض كما لو كنتُ من ذوات المخالب وسمعتُ دويّا شديدا ما كدتُ أتبين مصدرهُ حتى رأيتُ صخورا وعظاما تنهالُ من الموضع الذي زلّت فيه قدمي منذ حين وقدّرتُ أنها نهايتي , لكني تماسكتُ وأغمضتُ عينيّ والغبار يخترقُ أنفي كالكبريت , فأقبض على شفتي وأستحلفُ الذي في بطني أن يحافظ على هدوئه , وأن لا يركلني كعادته دوما حينما أنقبض . ظللتُ برهة كالدهر , وخفت الصوت والغبار الكثيف تبدّد , فشعرتُ كأنما اُبعثُ لتوّي , وبسملتُ وأنا أمدّ الخطو بحذر أشد حتى اطمأنت الأرضُ تحت قدمي , لكن قلبي ظلّ مضطربا وبصري تروّع فزاغ , ولكنّ هتافا ظل يشجعني أن تقدّمي , وعن لي أن أهرول لأقتصر المسافة فلم يعد بي من جهد لأستمسك , لكني سمعتُ لغطا من حولي ولمحتُ أسفلي بين الصخور رؤوسا وأذرعا تجهدُ في الوصول إلي . جريتُ والهضبة كانت على مرمى حجر والعجوز أسرتْ إليّ أني لو بلغتُ الحد الفاصل بين الأرض والأرض , فإني أكون بمنجى من كل أذى . لم يكن بإمكاني أن أزيد خطوة أخرى فالأرضُ تلاشتْ في عيني وداهمني القيء, واندفق الماءُ دافئاوالكتلة في حشاي أخذتْ تتمطط, وطوّق الألمُ خاصرتي حتى لكأن خناجر قد انشكّتْ في حوضي وظهري , صرختُ أن أغيثوني , لكن صوتي لم يبلغ أكثر من حنجرتي , ودفعتُ كتلة جسمي بما بقي في الروح من جهد . خفتُ على طفلي يندفع مني فيسقط على الأرض المحصبة , فتنشج هامتهُ المرنة. انطرحتُ أرضا والسماءُ فوقي تدور و الحوذي القاسي الوجه يترددُ صوته في أذني:
“لو حان حينك فلن اُعدم من يخبرني بذلك”
تعالى لغطُ الناس ونباح الكلاب وقرقعة الأواني , وشممتُ كدخان الصنوبر, لكأني وصلتُ فالأيدي تمتدّ إلي وتجذبني لأستقر في الناحية الأخرى من الحد, يد تربّتُ على رأسي وتسوي غطاءهُ, ورأيتُ من خلال غيبوبتي إمرأة ذات وشم كثيف تطلُ عليّ وتأمرُ صاحبتهاأن تشدني من وسطي وتهزني هزّا , والعجوز ذات الرداء الأحمر تمدّ يدها تحت مئزري وتصيحُ بي أن إدفعي النفس إلى أسفل فالطفلُ يوشكُ أن تتلف روحهُ , والماءُ غرقني حتى كدتُ أختنقُ , وجاءتْ إمرأة أخرى بدينة أخذتْ كمان المرأة الأولى وأخذت تضغطُ عليّ متتبعة موضع الجنين , وأنا أصرخ كلبؤة جريحة . وانفلقت السماءُ بماء دافق , وسمعتُ الصرخة المشتهاة , وشعرتُ بكتلة لزجة تندفعُ مني لتستقرّ في حجر المرأة , وزغردت صبية من مكان بعيد , ودوّى طلق ناري , وجرى الماءُ في الوهاد , وطقطق الحصى متحدّرا من الآكام , وأنا عاودني القيء , وقلتُ للمرأة أن تجرعني بعض ماء , فامتنعتْ وقالتْ إن ذلك يبرّدُ الوجع ويعسّر المخاض . وانشك الخنجرُ من جديد في حوضي , وارتجفتُ وقالت المرأة :” ادفعي ..ادفعي إنهُ توأم ” وسرى البردُ في كتفي ونسيتُ الزمان , لكن الطفل الآخر اندفع وصرخ صرخة أشد من أخيه , فاستفقتُ مجبرة , وذكرتُ الوثيقة وما فعلته النسوة بي وهن يتقاسمن أوصالي , وكدتُ أقول لإحداهنّ :” انظري تحت نطاقي” , ولكني بصرتُ به مرميا والعجوز ذات الرداء الأحمر تحملقُ في الوثيقة بعين فرحانة وتعرّضها للشمس وهي تقول:”إنها تضرجت بدم الولادة , لكنه دم مبارك ما دام أعاد إلينا الأرض , وحقن دماء أخرى عديدة”
فتحتُ عيني بجهد , لكأني أبصرتُ جابرا وأطيافا أخرى تلتفّ في البرانيس وتنحني عليه مقبلة مهنئة.
ووددتُ لو سألتهُ عن ولدي الذي لم اُبصرهُ منذ شهور , لكن قوّتي إنفرطتْ منّي , وشعرتُ بثقل الأرض في رأسي فاستسلمتُ لنوم لذيذ , وصوتُ العجوز يتردّدُ في أذني ” ألك في سلالتك من تُنجبُ التـــوائـم؟”


فوزية العلوي / تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى