هشام ناجح - نزهة الخاطر في التزلف من أبي نصر... قصة قصيرة

"دخلناها نتعقب الفارابي، فإذا هي جنة يحفها العقل، وتغسل أدرانها خمرة أزلية.. فقلنا: ذلك ما نبغ.. فصاح أبو نصر: لابقاء إلا للنفوس الفاضلة الكاملة.. إنها البشرى.. إنها البشرى".
"الآلهة لاتمحو الأثر، وجودها ضرورة ملحة لاستيعاب المسافة الفاصلة بين الخوف والرضا الأبديين.
هذا الحجر الصلد المنسكب من يد خراط ناسخ يفيض الإبداع منه، هو في غاية السعادة النفسية الممهورة بنشوة مبهمة. لعل جبروت الرعد، البرق، الخير، الشر، والنار المقدسة، نواة الماهية، فالآلهة تحمل البشر ما لاطاقة لهم به.. الصورة الكهنوتية الجامدة تسرف في متطلباتها أكثر من الله المتفرد والمسترسل في تفويض ذاته كما يليق بعزيز وجهه وجلال سلطانه أن يتفرد في كمال الخلق، وحسن الصنع، وتبئير الكون عن فيض من عقل واجب الوجود تتعدد فيه الغايات".
هفهف الفارابي بيده على وجهه محاولا طرد البعوضة الوحيدة التي تخدش بواعث جلال صمت الخلوة. كان النور نائيا كالعادة. فرح مبهم يفرد جناحيه في التقاط صورة المقاربة من منظور الخلود.
الشمس تسحب رسلها الحمر، مكحلة عيون حلب بمرود السواد المخملي المحبب إلى النفس كعروس حبشية، بعد أن قضت سحابة يومها تلفح الرؤوس بصهد جبار، وظمإ هماج كشرب الهيم.. الحاجة ملحة إلى تبني المحمدات، وتمجيد ليل الرحمة بتسويغات القلب، وربطه بصنائعه، حينها انقشعت نغمة تفتقت عن خدر لذيذ يطوف بالأوصال، ويحرك مدرجات المدارك الحسية.
التفت أبو نصر على وجه السرعة إلى مكان خريطته القابعة قرب الأسفار الفاغمة بعبق الصمغ، كأن الأمر لا يستقم إلا بمنبهات الفكر والموسيقى. فتح خريطته وهو يدندن مفردا أعوادها، مصرحا لهم بدوزنة المقامات التي ستنقرها الأصابع لمجاراة هذا الانقشاع.
لعلع الهمس الشجي الشبيه بهمسات الملائكة إلى آذان الحارس المكلف بحماية المعلم، فاستنكف عما تبقى من وعيه حاملا القنديل في حنين إلى طاقته، حتى يجنبه حرج الطلب، فهو يعلم أن أبا نصر زاهد في كل شيء في قصر سيف الدولة الحمداني. كانت قعقعة كسوة الحارس المبثوثة بصفائح نحاسية تضفي حسا رهيفا إلى مقام الكرد.. يتهدهد النور راسما رعشات في الجانب المقابل من الطاقة، تتماوج صورة الفارابي في توهيمات ناعمة، فيشرخ سمعه حلق الحارس الخارج من كرش مملوء بالطعام:
ـ يبدو أن الأشواق تجتاحك يا أبا نصر، فلسعها بالنور لتسمو أكثر. إن للأشواق أرواحا هائمة أيها المعلم، احفل بالملائكة وحدها بعيدا عن الخبل الأسود للشياطين.
فتر فو أبي نصر عن شبح ابتسامة، بدا وجهه مستطيلا أكثر قبالة الطاقة، بلحيته الشوكية المتناثرة كمجاملة على رفعة حكمة الحارس.. أصرها الحارس في نفسه، متمطقا المذاق العذب للكلمات، فوقف قرب الباب هامسا لنفسه، معيدا كلماته بشغف فتان، في حرص وترتيب شديدين:
ـ اللعنة عليك يا أنا، دهستك بلاغة الاتصال.
لوح بيده، وحرك رأسه، ثم استرخى يناجي أساريره تبعا للحن الحزين المنقور، فقد تعمد أبو نصر زحزحة كيانه معرجا على مقام الصبا.
أصدر الحارس نشيجا خافتا، انتابه ألم لذيذ كاتحاد رغبات مؤجلة أفرزت لوعة الرسول الأخير المبشر بنهاية مرتقبة.
زاد من حدة الوحشة شحوب القمر المستسلم طوعا لنزوع الضباب الكثيف، المبشر بغد أكثر جحيما.
لم تدم الرغبة في العزف على مقام الصبا سوى ردح يسير، حتى يرتد طرف الحياة، فمال أبو نصر إلى مقام البشارة كشلال يشدو جذلان، وارتجت أسارير الحارس بضحك مجلجل أنساه منبه وقع خطو سيف الدولة المفاجئ بين الفينة والأخرى، لم يشح سيف الدولة بعينيه عنه، وسرعان ما أطلق نفسه لجنون الضحك. فذاب ثقل المراتب وحسن التموقع في استجلاءات غامضة لا تحددها سوى النقطة الفطرية التي تفرج عنها الموسيقى، حينها لف أبو نصر برأسه وأصابعه معا إلى نقر هادئ يجلب النوم من عهد عاد، واستكان الكل إلى غشاوة غامقة اللون منسوجة بشخير تجفل منه البهائم.. جمع أبو نصر خريطته وانحنى برأسه جهة الفراش الواطئ، النوم على الأسرة لايروقه، كانت جيوش الأحلام تترصده، فهي لاتملك نقط الارتكاز ينطلق منها الحدث، تتناثر الأحداث في دروب متشعبة مبتورة من صور متزاحمة، فانبجست رؤوس من أشجار دخانية يلفها غبار كثيف.. توحدت الرؤوس لتكشف عن اثنين فقط بعد انجلاء حالة التدعمص.. سرح أبونصر بحبل النظر واضعا يده على جبهته ليدرك السر، انقشع صدره عن حالة فرح طفولية؛ إنه أفلاطون يتمشى بعد أن أومأ له باتباعه على ضفة نهر جار، قد يكون نهر دجلة في الغالب، لم تتضح معالمه بما فيه الكفاية سوى لمحة غير متكاملة من باب خراسان، ما كاد ينتعل خفه ليلحقه، حتى بزغ أرسطو مومئا باتباعه هو الآخر على النهر نفسه من الضفة الأخرى.
كانت الإحالات المتعددة، مربكة، مستفزة، تخفي أسرارا مبهمة، كمن يخاف أن يحدد مصيرا كمصير آدم.. فانبثقت صورة كلحظة إسراء، لم يعلم أبو نصر كيف زج به في الجسر، يلتفت تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال، فتشابكت الأيدي ملوحة باستحسان أليف. لم يكد يجني أبو نصر ثمار أصياف اللوعة، حتى أحس بدفء يرتسم على وجهه برعشات منسلة من الطاقة، منهية ليلة من ليالي عجائب نزهة الخاطر.


ــــــــــــــــــــــــــــــ
* النص القصصي الذي نشر في الملحق الثقافي لجريدة العلم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى