عبد السلام المؤذن - نظرية الديمقراطية المغربية..

تقديم:

لايمكن تغيير المجتمع بدون فهم المجتمع ، ولايمكن فهم المجتمع بدون الانتقال بالفكر ، من دائرة الفكر السطحي الانطباعي الى دائرة الفكر النظري العملي . ان الفكر السطحي يبقى دائما فكرا سطحيا ، مهما حاول صاحبه استعمال ترسانة كاملة من المفاهيم الابستمولوجية الحديثة ، تماما كما ان المناضل السطحي هو مناضل سطحي ، مهما حاول الظهور بمظهر الثوري الراديكالي . ان الخط الفاصل بين الفكر السطحي ، الذي يبقى سجينا للشكل الظاهري كما يعكسه الدماغ البشري في صورته المباشرة ، وبين الفكر العلمي النظري الذي يتجاوز السطح نحو الصيرورة الجوهرية المتحركة ، يكمن في القدرة النظرية على تحديد الاشكالية السياسية المركزية ، المطروحة موضوعيا على المجتمع في ظرف معين وزمان معين بعبارة ، يجب الاجابة عن الاشكالية التالية : ماذا يريد المجتمع المغربي بالضبط ، في هذه المرحلة المحددة من تاريخه الراهن ؟ .

ان الشعوب الملتصقة بارض الواقع ، لانها لاتهوى طرح الاشكاليات المجردة ، فهي لذلك لا تستطيع ان تطرح على نفسها سوى الاشكالية التي تقدر على حلها . فماهي اذن اشكالية الشعب المغربي في الظرف الراهن ؟ النابعة من قعر واقعه المادي المعيش ، لا اشكالية هذا المثقف او اذاك ، النابعة من الاهواء والرغبات الذاتية ، المفصولة عن حركة المجتمع وعن حركة التاريخ ؟ هذه الاشكالية يمكن تركيزها في كلمة واحدة وموحدة هي : الديمقراطية . ان كلمة ديمقراطية تلخص كل البرنامج السياسي المطروح على القوى الديمقراطية المغربية الفعلية ، ولأنها الكلمة الوحيدة التي تستجيب لحاجة المجتمع المغربي ، في هذه اللحظة التاريخية من تطوره .لكن هناك البعض من المناضلين والمثقفين المغاربة ، من يشكك في معقولية ذلك الطرح ، وبالفعل فهم على جانب من الحقيقة ، ذلك انه اذا اقتصرنا على النظر الى سطح ، فإننا نجد بان النظام السياسي المغربي ، يمكن ان يكون قادرا على كل شيء .. ، سوى على التطور في اتجاه ديمقراطي فعلي .لكن الحقيقة ، وهذا هو خطأهم الأول ، لم تكن في أي يوم من الايام ، قابلة للاختزال في سطح الظواهر ، فلو كانت حقيقة الاشياء هي ظواهرها ، لما كانت البشرية في حاجة الى ابتكار العلم .اما خطأهم الثاني ، فيكمن في الاعتقاد بان القول بإمكانية تطور النظام في اتجاه الديمقراطية، يعني القول بان النظام سيتبرع بها كمنحة من تلقاء نفسه ، وبطبيعة الحال ، هذا يتناقض جذريا مع كل المنطق الذي عرفه التاريخ حتى الان . وقديما قال هيجل عن حق : لا شيء عظيم تحقق في التاريخ بدون الم ومعاناة .

ان تحقيق الديمقراطية في المغرب ، هو شيء عظيم ، ولذلك فهو يتطلب بالضرورة من الشعب ومناضليه ، كثيرا من الالم والمعاناة ، مع ذلك يمكن اختصار تلك الآلام والمعاناة ، ولكن فقط اذا كان هناك وعي تام بالهدف الديمقراطي اولا ، واذا توحدت كل القوى الديمقراطية حول ذلك الهدف العظيم ثانيا.

مرة اخرى : لماذا الديمقراطية ليست فحسب مسالة ممكنة ، بل وضرورية ايضا بالنسبة لمجتمع المغرب؟ هذا هو التحدي الذي يواجه هذه المقالة النظرية. وهذه هي المقالة النظرية التي تواجه هذا التحدي. في البدء كان الفعل, هكذا تكلم جوته على لسان فوست: أرنا إذن فعلك .
حقيقة المجتمع المدني المغربي .

ان المجتمع المدني المغربي ، هو كل مظاهر حياة المجموعة البشرية المغربية ، انه بالتالي هو الارض المغربية ، وهو الرجال المغاربة والنساء المغربيات ، وهو اسلوبهم في التنظيم الاجتماعي والعيش وهو نمطهم في الملكية والانتاج المادي وتوزيع الثروة. كما انه هو طريقتهم في انتاج الثقافة ونشرها واعادة انتاجها. ويمكننا ان نستمر ونستمر في ذكر خاصيات المجتمع المغربي دون ان نستنفذها ، لان تلك الخاصيات لا حصر لها . بكلمة : ان المجتمع المدني المغربي ، هو كل الحياة الظاهرة التي يمكن تلمسها بشكل محسوس ومشخص ، لدى الشعب المغربي ، ان المسالة ، على سبيل المثال المجرد ، تشبه قطعة السكر. فكما ان الذي يعدد هوية السكر ، هو لونه الابيض ، وطعمه الحلو ، وشكله المكعب ... الخ. فكذلك ان الذي يحدد هوية المجتمع المدني المغربي ، هي كل خاصياته الظاهرة وصفاته الملموسة . لكن المجتمع المغربي ، ليس هو كل خاصياته الظاهرة فحسب، تماما كما ان قطعة السكر ، لا يمكن اختزال حقيقتها في خاصيتها الظاهرة فقط ، ان الوقوف عند حدود الخاصيات السطحية ، لا يمكن ان ينتج سوى معرفة سطحية ، ولذلك من اجل انتاج معرفة علمية ، لابد من تحقيق قفزة الانتقال من الظاهر الى الباطن .. من السطح الى العمق .. من الملموس الى المجرد .. من المباشر الى اللامباشر .. او بعبارة / كما يحلو لهيجل ان يقول: لابد من انشطار الواحد الى اثنين . لماذا وكيف اذن المجتمع المدني المغربي ، ليس هو الملموس فقط ، بل هو المجرد ايضا ، وليس هو الهوية وحدها ، بل والاختلاف كذلك ؟ لماذا السطح الظاهر الذي يبدو وكانه واحد ، انما هو في حقيقته منقسم على نفسه الى اثنين متناقضين ، ولكنهما موحدان في نفس الوقت ؟ اكثر من ذلك : لماذا في وحدة الضدين تلك .. في وحدة الظاهر والباطن .. السطحي والعميق .. الهوية والاختلاف ، ان الطرف الظاهر لا يمثل سوى وجود تابع للطرف الخفي ، الذي هو حقيقة وجوهر الاول. لتوضيح ذلك يتعين علينا العودة الى مثال قطعة السكر . قلنا في البدء ان السكر هو الخاصيات المحسوسة ، من لون وطعم ، وشكل ، وغيرها ، ثم قلنا بعد ذلك بان المحسوس ينشطر الى اثنين ، بمعنى ان ما وراء المحسوس الظاهر ، يوجد المجرد الخفي ، وان المجرد هو حقيقة الملموس . واذن ما هو الشيء المجرد بالنسبة لقطعة السكر ؟

ان السكر قبل ان يصبح جاهزا للاستهلاك في فنجان القهوة ، قد خضع في الاصل لعملية الانتاج داخل المعمل. واذن فان السكر هو نتاج لعمل العامل الذي صنعه .. نتاج العمل الذي حول المادة ما قبل المصنعة الى مادة مصنعة من السكر . ان السكر اذن يتضمن العمل المصروف في انتاجه ، وهو يتضمنه لا كشيء متميز عنه ، بل متوحد معه توحدا كليا. لان الوحدة بين المادة السكرية والعمل ، هي وحدة مطلقة ، باعتبار ان العمل يوجد في كل ذرة من ذرات السكر ، من هنا يستحيل التمييز بين العمل والسكر, هما شيء واحد . وفي الحقيقة ان ملموسية العمل ، لا نلمسها فقط في السكر في حد ذاته كنتاج نهائي مكتمل التصنيع ، وانما نلمسها ايضا ، منذ اللحظة الاولى التي شرع فيها العامل في صنع السكر ، فهذا العامل يستحيل عليه صنع السكر ، بدون ان يكون عمله عملا ملموسا في المنطلق ، أي بدون تحديد هدف ملموس ، ودون استعمال وسائل الانتاج الملائمة ، ودون تركيز الذهن على الهدف المنشود ، في المنطلق قرر العامل صنع السكر وليس شيئا اخرا من هنا ملموسية هدفه وعمله .

ان العمل المصروف في انتاج السكر ، هو عمل ملموس . هذه اذن هي النتيجة الاولى لذلك التحليل وهذا هو الوجه الاول للمسالة . لكن ما هو وجهها الثاني النقيض ؟ .ان العمل المصروف في انتاج السكر ، هو عمل ملموس .هذه اذن هي النتيجة الاولى لذلك التحليل وهذا هو الوجه الاول للمسالة . قلنا العمل الملموس ، لكن ما هو العمل الملموس ؟ انه هو قوة العمل المتحركة صوب انتاج منتوج معين . وما هي الطاقة المحركة لقوة العمل تلك ؟ انها هي العضلات والاعصاب التي يستهلكها ويحرقها جسم العامل ، من اجل توليد تلك الطاقة .الاصل اذن هو الاعصاب والعضلات ، التي هي بمثابة الوقود لتوليد طاقة العمل ، ان طاقة العمل ، في منشئها الاصلي ، هي اذن طاقة مجردة غير مرتبطة بشكل محدد للعمل . ولذلك فان ارادة العامل ، هي التي تضفي عليها شكل العمل المجسد في السكر ، او المجسد في القطران فقبل ان يصبح العمل ملموسا ، كان اذن مجردا ، والمجرد هو هو حقيقة الملموس وجوهره .لكن لا يجب الفهم من ذلك القول ، بان هناك نوعين من العمل : عمل ملموس والآخر مجرد ، بل هناك عمل واحد فقط ، انما هو متعارض مع ذاته ومنقسم على نفسه بين قطب ملموس وقطب مجرد . ان قطعة السكر هي في نفس الوقت ، نتاج لعمل مجرد ولعمل ملموس . لعمل مجرد : قوة العمل الضرورية لإنتاج السكر تتطلب في حد ذاتها استهلاك كمية معينة من الاعصاب والعضلات ، لتوليد طاقة العمل كعمل في حد ذاته . ولعمل ملموس : لان العامل وضع نصب عينيه تحقيق هدف محدد ، هو انتاج السكر .

ان الخلاصة النظرية العامة ، التي يجب استخلاصها من التحليل السابق ، هي التالية : لا يجب النظر الى قطعة السكر بنظرة واحدة الجانب ، بل النظر اليها في انشطارها الى اثنين متعارضين . النظر اليها في وحدتها المتناقضة . هذه خلاصة حاسمة على الصعيد المعرفي . وعلى فهمها يتوقف فهم كل العرض اللاحق . لذلك من المستحسن ، ومن اجل المزيد من ترسيخها في الذهن ، توضيحها ببعض الامثلة المركزة الملموسة .ان التفاحة ، مثلا ، التي اعضها واتلذذ بأكلها ، هي بالنسبة لي ، في صورتها المباشرة ، مجرد كيف ، لكن وراء الكيف الظاهر المباشر ، يوجد الكم الباطن اللامباشر . فالتفاحة قبل ان تكون كيفا ، هي في الاصل كم . وهذا الكم يعبر عن نفسه بواسطة ملايير الملايير من الذرات التي تتشكل منها التفاحة .مثال اخر : المثلث . في صورته المباشرة ، هو شكل هندسي مكون من اضلاع وزوايا ومساحة . لكن وراء تعبيره الهندسي المرئي الملموس ، يوجد تعبيره الرياضي المجرد الذي هو : نصف حاصل ضرب القاعدة في الارتفاع. مثال اخر : في القرن التاسع عشر ، الف الموسيقار النمساوي يوهان شتراوس ، موسيقى فالسية سماها : الدانوب الازرق الجميل ( نسبة الى نهر الدانوب المار من فينيا ومن عواصم اوربية اخرى ) ان فالس شتراوس هذا ، كله يقطر جمالا ومرحا وسلاما ، لكن وراء الدانوب الازرق الجميل ، يوجد الدانوب الاحمر القبيح ، الذي صنعته دماء الحروب الاوربية المدمرة ، من نابليون الى بسمارك . ويمكننا ان نستمر في جرد هذه الامثلة ، بدون ان نصل الى نهاية ، لان كل ما هو موجود – بالمطلق- هو عبارة عن وحدة ضدين . والان لنعد الى مجتمعنا المدني المغربي . في صورته السطحية المباشرة ، ان المجتمع المغربي هو كل مظاهر حياة المجموعة البشرية المشكلة له. لكن ماذا وراء السطح ؟ .

ان المجتمع المدني المغربي ، لكي يوجد ويستمر في الوجود ، لابد له من وسائل العيش المادي والروحي. لكن وسائل العيش تلك هي بدورها في حاجة الى من ينتجها .. في حاجة الى وسائل الانتاج .. اين توجد وسائل الانتاج هذه ؟ انها من حيث الاساس ، ليست تحت مراقبة المجتمع المدني ككل ، بل تحت سيطرة طبقة اجتماعية هي البورجوازية. واذن فالبرجوازية هي القطب الثاني النقيض للأول لان ما وراء المدني يوجد الطبقي . وما وراء السطح الملموس، يوجد العمق المجرد. معنى هذا ان المجتمع المدني يمكن تجريده في طبقته السائدة .

لكن ذلك التجريد الطبقي هو شيء مثالي ، موجود فقط في الخيال والفكر والتحليل ، اما في الواقع فان الطبقة المجردة لا وجود لها ، لأنه يستحيل فصلها عن جسم المجتمع المدني الذي توحدت معه توحدا تاما . بهذا المعنى يصح القول بان المجتمع المدني هو طبقته السائدة ، وان الطبقة السائدة هي المجتمع المدني ولذلك فان الوسيلة الوحيدة لفصل الطبقة عن المجتمع ( وهو شرط ضروري لامتلاك الواقع بشكل ملموس ) ، هو التجريد . من هنا رغم ان التجريد شيء مثالي ، لا وجود له خارج دائرة الفكر ، الا انه تجريد يعكس واقعا فعليا .

والخلاصة : ان الطبقة السائدة – التي تعارض ، وتتميز عن وتختلف عن المجتمع المدني المغربي ، لكن في نفس الوقت تتوحد معه توحدا مطلقا -- هي حقيقة المجتمع المدني المغربي . وهذا الاخير هو وحدة الملموس المدني والمجرد الطبقي .
حقيقة الدولة السياسية المغربية

ان الدولة السياسية المغربية ، هي عبارة عن جهاز قوة منظمة عمومية ، وبالنظر لطابعها العام ذلك، فهي توجد فعلا فوق المجتمع المدني ، حيث تتخذ موقفا محايدا من مكوناته. ان الوظيفة الاساسية للدولة ، هي الحفاظ على الامن: الامن الداخلي بين المواطنين ، وهذا هو دور الشرطة والقضاء . والامن الخارجي للوطن ، وهذا هو دور الجيش . لكن الشرطة والقضاء والجيش ، لكي يتفرغوا للقيام بمهامهم ذات المصلحة العامة ، يتعين على المجتمع المدني تامين عيشهم وتمويل انشطتهم ، من هنا ظهور فئة من البيروقراطية ، مهمتها جمع الضرائب . بالإضافة الى الامن ، بالمعنى الحصري للكلمة ، فان الدولة يمكن توسيع وظيفتها الامنية ، لتشمل الامن الاجتماعي العام ، وفي هذا الاطار يدخل دور الدولة في تزويد المواطنين بالحبوب من الاسواق الاجنبية ، في مواسم الجفاف. وفي دعم اسعار السلع المستوردة وغيرها . كذلك فان الدولة تقوم بالخدمات الاجتماعية للصالح العام ، مثل : بناء المستشفيات ، والمدارس ، ودور السكن وغيرها . هذه هي اذن الوظيفة العامة للدولة ، وهذا هو الوجه الاول للمسالة .

فما هو وجهها الثاني النقيض ؟

ان الدولة السياسية المغربية ، ليست قوة منظمة عمومية وكفى ، ولكنها ايضا قوة خاصة. فما وراء العام يوجد الخاص. ان العام يخفي الخاص. والخاص هو حقيقة العام وليس العكس. لنأخذ هاتين الحالتين المتعارضتين للمس الخاص . الحالة الاولى: ثمة عمال مغاربة يضطرون للإضراب عن العمل ، من اجل الدفاع عن مصالحهم . الحالة الثانية : ثمة ارباب عمل مغاربة يضطرون لإغلاق معاملهم وتسريح عمالهم ، لان مصلحتهم اصبحت تقتضي ذلك . ان هاتين الحالتين متساويتان : في الحالة الاولى : العامل يضرب عن العمل ، وفي الحالة الثانية ، الرأسمال هو الذي يضرب عن العمل .

لكن رغم تشابه الحالتين ، فان الدولة لا تتخذ موقفا موحدا منهما ، في الحالة الاولى ، يتم تطويق المعامل بقوات البوليس لإرغام العمل على العودة الى الرأسمال ، لكن في الحالة الثانية ، لا يتدخل البوليس لإرغام الرأسمال على العودة الى العمل . ان الدولة اذن تنحاز للرأسمال ضد العمل .
مثال اخر : ثمة جماهير ساخطة على احوالها ، تضطر للتظاهر في الشوارع للتعبير عن سخطها ، فتتدخل قوات الامن بدباباتها ومدرعاتها لسحقها بلا رحمة ، وكأنها تواجه عدوا اجنبيا . لكننا لم نسمع في أي يوم من الايام ، بان قوات الامن قد فعلت شيئا ضد الذين ينعمون في قمة السعادة ، مع انهم هم سبب قعر الشقاء الذي سقطت فيه الجماهير المسحوقة .

ان المجتمع المدني المغربي ، منقسم على نفسه بشكل عميق ، بين قطب الثروة وقطب البؤس ، ولا يمكن للقطب الاول ان يزدهر ، الا على حساب انحطاط القطب الثاني . فكلما تركزت وتمركزت الثروة في جانب ، الا وتوسع وتعمق البؤس في الجانب الاخر. ان علاقة الثروة بالبؤس ، هي علاقة الغاء واقصاء طرف للطرف النقيض والقول بإمكانية الجمع بينهما ، عن طريق " اغناء الغني دون افقار الفقير" كما تزعم بعض الا وساط المغربية ، فذلك منطق بالغ السمو في تركيبه ، لا يقدر عليه سوى المتساميين بثرواتهم . اما المنحدرون في عيشهم ومنطقهم على السواء ، فيعرفون جيدا ، بان الجمع بين الثروة والبؤس ، مثل الجمع بين النار والماء ... !

وهذا شيء بديهي . فلكي تتركز الثروة في ايدي الاقلية ، ينبغي ان تنفصل عن ايدي الاغلبية . اذ لو كانت كل الاغلبية ميسورة الحال ، لما ظهر الى الوجود مفهوم تركز الثروة. فالواحد ينفي الاخر ويلغيه .

واذن فالمجتمع المدني المغربي ، المنقسم طبقيا على نفسه ، بين طبقة البورجوازيين وطبقات الكادحين ، لا يمكنه ان يعيش .. لا اقول يوما واحدا ، بل ساعة واحدة ، بدون دولة. أي بدون تلك القوة المنظمة العمومية ، حامية ثروة الاقلية من "جنون الاغلبية". من هنا الطابع الطبقي الخاص للدولة . والخلاصة : في صورتها السطحية المباشرة ، تبدو الدولة السياسية المغربية ، على انها قوة منظمة عمومية ، مسخرة لخدمة مصالح المجتمع المدني في شموليته. لكن في جوهرها غير المباشر، فهي اداة لخدمة مصالح طبقة خاصة مكونة من اصحاب الثروة . ان الدولة هي اذن وحدة بين ضدين ، لا غنى لاحدهما عن الاخر ..

انها وحدة بين ضدين لا غنى لاحدهما عن الاخر .. انها وحدة بين الوظيفة السياسية العامة (المجتمعية )، والوظيفة الخاصة ( الطبقية ) ، لكن في ظل تلك الوحدة المتناقضة يمثل الخاص حقيقة العام . واذن فان الطبقة البورجوازية المغربية ، هي حقيقة الدولة السياسية المغربية.
جدلية الدولة والمجتمع

ماهي العلاقة الصميمية بين الدولة السياسية والمجتمع المدني ؟ ان الدولة السياسية ليست هي المجتمع المدني ، كما ان المجتمع المدني ليس هو الدولة السياسة. فالمجتمع المدني هو كل مظاهر حياة الشعب الذي يشكله ، بينما الدولة السياسية هي قوة منظمة عمومية فوق المجتمع المدني. هذا اولا .

وثانيا ، لقد لاحظنا في الفقرات الاولى ، بانه يمكن تجريد المجتمع المدني من شكله الظاهري ، واعادته بالتالي الى نواته الحقيقية. وقلنا بان تلك النواة الحقيقية هي الطبقة البورجوازية المغربية . كذلك لاحظنا في الفقرة الثانية ، بانه يمكن تجريد الدولة السياسية من مظهرها الخارجي ، لاختزالها في نواتها الحقيقية ، وقلنا بعدئذ بان حقيقة الدولة السياسية ، هي الطبقة البورجوازية المغربية . معنى هذا ان المجتمع المدني هو دولة سياسية ، والدولة السياسية هي مجتمع مدني ، ما داما قائمين معا على قاعدة واحدة ، ومؤسسين على ارضية مشتركة ، هي الطبقة البورجوازية المغربية . هناك اذن حقيقة واحدة .. (طبقة واحدة) (البورجوازية) ، لكنها تتمظهر في شكلين مختلفين متعارضين : شكل مدني ( المجتمع المدني ) وشكل سياسي ( الدولة السياسية). ان كون برهان غليون وهو ابرز الكتاب العرب الذين اهتموا بإشكالية الدولة في الوطن العربي ، لم ير في العلاقة بين الدولة والمجتمع سوى جانب الاختلاف . فلذلك جاءت خلاصاته النظرية خاطئة جذريا ، بل وساذجة . اكثر من ذلك : فحتى جانب الاختلاف نفسه ، لم يطرحه طرحا نظريا سليما ، فهو يفكر وفق المنطق التالي ، ثمة مجتمع مدني كشيء مستقل ، قائم الذات ، ثم بإزائه ثمة شيء اخر مستقل عن الاول وقائم بذاته ، هو الدولة ، والعلاقة بين الاثنين ، هي علاقة طلاق واختلاف تام .

ان هذا الطرح خاطئ من الاساس . اذ ليس هناك شيآن مستقلين عن بعضهما البعض ، شيء اسمه المجتمع ، وشيء اسمه الدولة ، بل هناك طرفان لشيء واحد, من هنا نسبية ومحدودية الاختلاف بينهما . ان النظرة العلمية للعلاقة بين الدولة والمجتمع ، تقتضي النظر اليهما في وحدتهما المتناقضة، بمعنى : النظر اليهما كقطبين مختلفين من حيث الشكل والمظهر الخارجي ، لكنهما في نفس الوقت موحدان من حيث الجوهر ، لانهما يستندان الى نواة مجردة واحدة هي الطبقة البورجوازية . فهذه الاخيرة تعبر عن نفسها اذن ، مدنيا في المجتمع المدني ، وسياسيا في الدولة السياسية . هذا هو المستوى الاول من التحليل .

لننتقل الى المستوى الثاني ، قلنا ان المجتمع المدني والدولة السياسية ، هما قطبان لتعبير واحد ، لكن هذين القطبين لا يلعبان نفس الدور . فالمجتمع المدني هو معطى اول ، بينما الدولة السياسية هي معطى ثان . ان المبادرة تنطلق من المجتمع المدني ، اما الدولة السياسية فهي الشكل التعبيري الذي تنعكس فيه تلك المبادرة . ان المجتمع المدني هو القطب النسبي ( أي بالنسبة للدولة السياسية) ، بينما الدولة السياسية هي التكافؤ المطابق . بعبارة ان الدولة السياسية هي انعكاس للمجتمع المدني ، فالدولة السياسية تعكس وتعبر عن حقيقة المجتمع المدني ، لان لكل مجتمع مدني دولته السياسية التي تناسبه وتوافقه ، في لحظة محددة من تطوره .

من هنا فالعلاقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية ليست علاقة اعتباطية قائمة على الصدفة ، بل علاقة ضرورية وموضوعية ، ولذلك ليست الدولة السياسية ، او الحاكمون على راسها ، هم الذين يجعلون المجتمع المدني يتمتع بهذا القدر او ذاك من الديمقراطية ، او يعاني من الاستبداد ، بل على العكس ، ان المجتمع المدني هو الذي يحدد الشكل السياسي للدولة ، وبالتالي هو الذي يجعلها تكون إما ديمقراطية او استبدادية ، مادامت الدولة في حقيقتها ليست سوى انعكاسا ضروريا لواقع المجتمع الموضوعي .

ان عدم ادراك العلاقة الضرورية الموضوعية التي تربط الدولة السياسية بالمجتمع المدني ، هو الذي جعل الكثيرين من الكتاب والمناضلين يسقطون في اوهام ساذجة مبتذلة ، تعتقد ان الحاكم الموجود على راس الدولة هو الذي يملك القدرة على تكييف شكلها السياسي في هذا الاتجاه او ذاك .

ان علاقة الدولة السياسية بالمجتمع المدني ، هي في ضرورتها وموضوعيتها ، لا تختلف في شيء عن كل العلاقات الضرورية الموضوعية الاخرى ، سواء تعلق الامر بالتاريخ او الطبيعة او الفكر . والامثلة التالية هي اسطع دليل على ذلك .

مثال اول : العلاقة بين البضاعة والقيمة . ليس التبادل هو الذي يحدد قيمة بضاعة ما ، بل بالعكس ان البضاعة هي التي تحدد قيمتها . فالقيمة ليست سوى انعكاسا لواقع البضاعة الموضوعي. وهذا الواقع الموضوعي هو كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج البضاعة.

مثال ثان : البصر ، ان البصر هو علاقة بين جسمين فيزيائيين ، جسم خارجي وعدسة العين . وفي اطار هذه العلاقة ، ليست عدسة العين هي التي تخلق وتحدد الجسم الخارجي المنظور ، بل بالعكس ان اشعة الضوء المنبعثة من الجسم الخارجي ، والمنعكسة على العدسة ، هي التي تثير العصب البصري وترسم صورة مطابقة للجسم الخارجي على العدسة.

مثال ثالث : الوزن ، ليست قطعة الحديد الموضوعة في كفة الميزان ، بوصفها وحدة قياس الوزن هي التي تحدد وزن الجسم الموضوع في الكفة الاخرى ، بل بالعكس ان هذا الجسم هو الذي يحدد وحدة القياس ، المعبرة عن وزنه والعاكسة لواقعه .

مثال رابع : الفكر ، ليس الواقع انعكاسا للفكر ، كما يزعم الفلاسفة المثاليون ، بل بالعكس ليس الفكر سوى انعكاسا للواقع الموضوعي ، والفكر يكون علميا بقدر ما يتمكن من عكس ذلك الواقع بصفة مطابقة وموضوعية.

ان الجابري اعتقد انه توصل الى تحليل بنية العقل العربي ، بمجرد تأكيده على ان ذلك العقل يتكون من نظام عرفان ، ونظام بيان ، ونظام برهان .والحقيقة ان القول بان العقل العربي ، يتكون من نظام عرفان ونظام بيان ونظام برهان ، لا يختلف في شيء عن القول بان قطعة السكر ، تتكون من لون ابيض وطعم حلو وشكل مكعب ، ولذلك كان تحليل الجابري تحليلا سطحيا .

ان التحليل العلمي للعقل العربي ، يقتضي احداث قفزة معرفية تؤدي الى انشطار الواحد الى اثنين . أي اكتشاف الحقيقة الجوهرية الكامنة وراء سطح العقل العربي ، وتلك الحقيقة ليست شيئا اخر غير الواقع الاجتماعي الموضوعي نفسه .

من هنا سقوط الجابري في خطأين نظريين كبيرين :

1) نظرته اللاجدلية الواحدة الجانب ، الناجمة عن تجريد العقل العربي عن جوهره الحقيقي ، الذي هو المجتمع العربي ..

2) ونتيجة لذلك سقوطه في النظرة المثالية ، التي تتوهم امكانية ادراك حقيقة العقل العربي من خلال هذا العقل نفسه ، الذي تم تجريده عن جوهره ، الامر الذي جعل اطروحات الكتاب الرئيسية ، تكون خاطئة كليا. على سبيل المثال، تقييمه المثالي لعصر التدوين، وربطه المثالي بين عقل التدوين والمجتمع العربي في العصر الراهن.

في الفقرة الاولى من هذا التحليل ، حددنا حقيقة المجتمع المدني المغربي ، وفي الفقرة الثانية حقيقة الدولة السياسية المغربية . وفي الفقرة التالة العلاقة الموضوعية والضرورية بين الاثنين .

ام الآن فإننا نريد ان نفعل ما لم يفعله الفكر السياسي المغربي من قبل ، الا وهو: رصد حركة تعاقب الاشكال السياسية للدولة المغربية ، من خلال تحليل الصيرورة الجوهرية لتطور وتشكل المجتمع المدني المغربي
الشكل الاستبدادي لدولة الطبقة الواحدة

ان المجتمع المغربي الحديث العهد بالاستقلال أي الخارج للتو من احشاء الاستعمار الكولونيالي لم يكن في شموليته مجتمعا مدنيا ، بل كان منقسما على نفسه الى مجتمعين : مجتمع مدني .. و مجتمع ما قبل مدني .. أي مجتمع طبقي بورجوازي حديث ، ومجتمع ما قبل طبقي بورجوازي قديم .

ان نزوع المجتمع المدني الحديث هو التطور ، لكن تطوره مستحيل ، بدون تقهقر وتراجع المجتمع ما قبل المدني القديم ، فالأول لا يمكن ان يتطور الا على حساب الثاني . وهذا شيء طبيعي تماما . فالمجتمع المدني بوصفه حاملا ، لنمط انتاج وعلاقات انتاج وقيم ، من طراز جديد ، فهو بالتالي لا يخلق كل ذلك من العدم .

بل يعمل فقط على تحويل القديم الى الجديد ، ولذلك فان المجتمع الماقبل المدني ، الذي هو بمثابة النفي والتجاوز للأول . فالعمال المأجورون مثلا ، الذين هم عماد المجتمع المدني الجديد ، لم يخلقهم هذا الأخير من بطنه . بل هم نفس الفلاحين الذين كانوا عماد المجتمع الماقبل مدني القديم ، أي ان كل ما حصل ، هو تحول العمل من شكله الماقبل رأسمالي العتيق ، الى الشكل الرأسمالي الحديث .

كذلك فان الملكية البورجوازية ، في اصلها ، هي مجرد انتقال شكل قديم للملكية الى شكل جديد .

واذن .. لان المجتمع المدني المغربي ، لا يمكنه ان يعيش ويتطور ، الا على حساب تقهقر وفناء المجتمع الماقبل مدني المغربي ، فلذلك فان العلاقة بينهما هي علاقة صراع وجود . اما بعض الاقتصاديين الاوربيين والمغاربة على السواء ، الذين طالما روجوا للأطروحة القائلة ، باستقلالية وتعايش الزراعة العصرية الرأسمالية مع الزراعة التقليدية ، فهذا محض خرافة ايديولوجية لا علاقة لها بالعلم .

ان المجتمع المدني المغربي ، الخارج من احشاء العهد الكولونيالي ، والمرتكز على الانتاج البضائعي والرأسمالي ، لم يكن مطروحا امامه في تلك الشروط سوى طريقا واحدا : طريق التطور الرأسمالي .

لكن هذا الطريق الواحد ، كان يحمل موضوعيا شكلين متعارضين لنمط الانتاج الرأسمالي : شكل راديكالي وشكل اصلاحي .

ان الشكل الراديكالي كان يعني ، تفكيك الملكية الاقطاعية ، والاستيلاء الفوري على اراضي المعمرين الاوربيين ، ثم توزيع الملكية العقارية على جماهير الفلاحين ، في افق تجميعهم في تعاونيات عن طريق الاقناع والتجربة .

هذا الشكل الرأسمالي الراديكالي ، كان سنده الطبقي هو الطبقة الوسطى المغربية ، المتحالفة مع الطبقة العاملة .اما الشكل الرأسمالي الاصلاحي ، فكان يعني من جهة الحفاظ على الملكية العقارية الكبرى ، مع اعادة هيكلتها على اسس رأسمالية . ومن جهة اخرى تفويت اراضي المعمرين الاوربيين الى الملاكين العقاريين الكبار المغاربة. وهذا الشكل الاصلاحي ، كان سنده الطبقي هو الملاكون العقاريون الكبار ، المتحالفون مع البورجوازية المغربية الكبرى . بالطبع كان لكل شكل من الشكلين المتعارضين ، مواقفه المتعارضة ايضا ، اتجاه الرأسمال الامبريالي العالمي ( والفرنسي خاصة ) ، لكن هذا لا يعني ابدا ، كما دأبت العديد من الاوساط في صفوف الحركة التقدمية المغربية على القول ، بان الشكل الراديكالي كان يستهدف القضاء على التبعية ، فهذا خطأ ، وبكل بساطة لم يكن موضوعيا في مقدوره تحقيق ذلك الهدف. لان جوهر التبعية بالنسبة للبلدان المتخلفة ، يكمن في حد ذاته ، في البنية التحتية الرأسمالية الموروثة عن المرحلة الكولونيالية ، وفي امتدادها السياسي الذي هو جهاز الدولة ، الموروث ايضا عن العهد الاستعماري.

من هنا لم يكن التعارض بين جوهرين ، جوهر رأسمالي ، بل بين شكلين لجوهر واحد هو الجوهر الرأسمالي الموروث ، فبينما كان الشكل الاصلاحي ، يريد تطوير الرأسمالية المغربية على قاعدة التبعية، كان الشكل الراديكالي يسعى الى تطويرها ، على قاعدة الحد من التبعية الى الحدود القصوى الممكن ان يتحملها نظام رأسمالي كنظام رأسمالي في بلد متخلف .

وفي تلك الشروط التاريخية المتولدة عن الاستقلال .. شروط غياب الطبقة العاملة المغربية ، المنظمة والمستقلة ايديولوجيا وسياسيا ، كان اقصى ما يمكن ان يطرحه المجتمع المغربي موضوعيا ، هو المشروع الرأسمالي الراديكالي ، من هنا ثوريته التاريخية .

هي المرحلة التاريخية التي اعقبت مباشرة استقلال المغرب ، كانت الطبقتان الرئيسيتان الممثلتان للشكلين الرأسماليين المتعارضين ، وهما الطبقة الوسطى ممثلة الشكل الراديكالي ، والملاكون العقاريون ممثلو الشكل الاصلاحي ... كانتا تتمتعان بتوازن طبقي ، كنتيجة لنضالهما المشترك ضمن الحركة الوطنية المعادية للوجود الكولونيالي .

ان هذا التوازن الطبقي قد انعكس سياسيا على جهاز الدولة في شكل توازن سياسي. لذلك يمكن القول : في هذه المرحلة ، كانت الدولة السياسية محايدة بين الطرفين . وهذا ما يفسر واقع الحريات السياسية والنقابية التي كانت تتمتع بها الجماهير ، وجرأة اقطاب الحركة التقدمية على توجيه النقد اللاذع للنظام ، وتمكن القوى التقدمية من تشكيل حكومة خاصة بها ذات برنامج اقتصادي جريء .

لكن الدولة السياسية المحايدة ، هي بالطبيعة ، دولة انتقالية غير قارة . فالتعارض بين الشكل الراديكالي للمشروع الرأسمالي ، والشكل الاصلاحي ، هو تعارض عميق يقوم على تناقض عدائي .

اذ يستحيل تطبيق المشروع الراديكالي ، بدون تفكيك وتدمير الملكية الاقطاعية ، وبين الاستيلاء الفوري على اراضي المعمرين الاجانب ، وبدون توزيع الاراضي المنتزعة من الاقطاع المغربي والرأسمال الفرنسي على جماهير الفلاحين المتعطشين للأرض . كما يستحيل تطبيق المشروع الاصلاحي ، بدون الحفاظ على الملكية الاقطاعية واعادة هيكلتها على اسس رأسمالية ، وبدون تفويت الجزء الاعظم من اراضي المعمرين الاجانب الى الملاكين العقاريين الكبار المغاربة ، وبدون بالتالي حرمان جماهير الفلاحين من الارض . ان هذا الصراع الطبقي الدائر فوق الارض وحول الارض ، لا يمكنه الا ان ينعكس سياسيا فوق جهاز الدولة ، الذي يتحتم عليه الخروج من حياده ، للانحياز بشكل صريح الى احد الطرفين المتصارعين . لقد كان ذلك الصراع في حاجة الى حسم ، اما في هذا الاتجاه او ذاك ، ولقد تم حسمه لصالح الملاكين العقاريين الكبار ، والبورجوازية الكبرى ، ومن ورائهما الرأسمال العالمي والفرنسي خاصة . لقد قيل الكثير عن اسباب هزيمة المشروع الراديكالي ، هناك من تحدث عن الغموض الايديولوجي لدى الطرف المتقدم ضمن الحركة الوطنية ، وهناك من تحدث عن السهولة التي تم بها حل جيش التحرير المغربي ، وهناك من تحدث عن الشرخ العميق الذي احدثه الانشقاق في حزب الاستقلال ، وهناك من تحدث عن مناورات ومؤامرات الاستعمار . ان كل هذه التفسيرات صحيحة ، لكنها تبقى مجرد تفسيرات سطحية ، لأنها هي نفسها في حاجة الى تفسير ، ولأنها لم تنفذ الى جوهر المسالة الحاسم . وهذا الجوهر لم يكن شيئا اخر غير جماهير الفلاحين انفسهم ، اصحاب المصلحة الاولى والمباشرة في نجاح المشروع الراديكالي . اذ في تلك المرحلة التاريخية الدقيقة ، ، في غمرة الحماس الشعبي العارم الذي هز جوارح الوطن المستقل ، وفي مناخ سياسي جماهيري اربك القوى المحافظة واطلق مبادرات الشعب من عقالها الكابت .. في هذه الشروط المؤاتية اذن ، ظل الصراع الطبقي في البادية المغربية خافتا . لم نشاهد حركة فلاحية جماهيرية ، تبادر بالاستيلاء على اراضي المعمرين الاوربيين ن رغم ان تلك الاراضي في الاصل اراضيها ، اغتصبها منها المستعمر بقوة الحديد والنار . ولم نشاهد الفلاحين يبادرون بالاستيلاء على اراضي الاقطاع ، رغم انهم عانوا اشد انواع القهر والاستغلال ، على يد رموز الاقطاع المغربي المتحالف مع الاستعمار الكولونيالي . ان عدم تدخل البادية المغربية ، بكل ثقلها وعمقها ، في الصراع الدائر حينئذ بين الخيارين المتناقضين المطروحين ، كان اذن بمثابة المقتل الذي اصاب في الصميم الخيار الراديكالي . اما اسباب ذلك فتتكثف في سببين رئيسين : سبب حديث العهد له صلة بالمرحلة الكولونيالية ، وسبب قديم يعود الى قرون خلت . بالنسبة للأول : ان تدمير علاقات الانتاج القديمة ، وهو الشرط الضروري لحصول المستعمر على ضيعات رأسمالية ، ادى الى تفكيك النظام الجماعي القديم ، مما اضعف قدرة الفلاحين على التحرك بشكل منظم وجماعي .

وبالنسبة للثاني : ان العلاقات البطريركية الابوية ، التي نسجها الاقطاع المغربي منذ قرون مع الفلاحين، ساهمت الى حد كبير في تخلفهم الثقافي وفي تبليدهم السياسي. مهما يمكن ان يقال مثلا عن الجهاز الاداري ، لا يمكن انكار هذه الحقيقة : في اول دستور للمغرب المستقل ، الذي تم الاستفتاء عليه شعبيا ، في وقت كان الصراع لايزال محتدما بين الخيارين المتعارضين ، كانت قدرة الفلاحين العقاريين في التأطير الايديولوجي والسياسي للفلاحين ، واضحة في النتائج التي اسفر عليها ذلك الاستفتاء .ان جيش التحرير المغربي الذي كان وحده في تلك المرحلة ، مؤهلا الى تثقيف الفلاحين ورفع وعيهم وتجذير مبادئهم السياسية ، كان هو نفسه يعاني من القصور السياسي ، بسبب الظروف التاريخية التي لم تسمح له بالنمو والتطور ، وبالتالي اكتساب الخبرة السياسية والنظرية من خلال تراكم الخبرة الكفاحية . ان الصراع بين الطريق الراديكالي والطريق الاصلاحي ، لبناء الرأسمالية في المغرب ، قد تم حسمه من حيث الجوهر لصالح الاتجاه الثاني منذ السنوات الخمس الاولى التي اعقبت الاستقلال ، أي عمليا منذ حل حكومة عبد الله ابراهيم ، وهي الفترة التي توافق تشكل القوات العسكرية والبوليسية للدولة المغربية الجديدة ، وحل تنظيمات المقاومة وجيش التحرير .

اما كون الوضع السياسي ظل يحتفظ ببعض مظاهر الانفتاح ، مثل البرلمان ، الى حدود منتصف الستينات ، فذلك لم يكن يعبر ابدا عن توازن سياسي – طبقي ( بين الاتجاهين المتناقضين ) للمرحلة القائمة ، بل عن رواسب توازن تنتمي لمرحلة سابقة . وفي الحقيقة ، ان الملاكين العقاريين الكبار ، بعد ان حسموا الصراع السياسي لصالحهم ، لم يكن بوسعهم التقدم نحو انجاز برنامجهم الاقتصادي – الاجتماعي ، بشكل سريع وكامل ، الا بعد تشطيب جيوب مقاومة خصومهم المعرقلة لاندفاعهم . وفي تلك الظروف بالذات ، كان البرلمان يمثل احد الجيوب الرئيسية للمقاومة. اذ كان التحالف بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، المستفيد من التناقضات التي تلغم جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية ، قد تمكن في بعض المناسبات من كسب بعض اصوات الجبهة ، وبالتالي حرمان الحكومة من الاغلبية اللازمة لتمرير سياستها .

ان طبيعة تلك المرحلة التاريخية ، كانت تحتم موضوعيا على ممثلي النهج الرأسمالي الاصلاحي ، التحكم في الوضع بقبضة من حديد ، لفرض توجههم الطبقي ، ولقد كان البرلمان ومظاهر الانفتاح الاخرى ، يشكلان تناقضا مباشرا مع الحاجة الى ذلك التحكم ، لذلك وجب تشطيبهما ، وسيتم تشطيبهما في اول فرصة مواتية .

في 23 مارس 1965 ، ستنفجر في الدار البيضاء مظاهرات التلاميذ والجماهير العاطلة عن العمل . وبكل برودة، سينزل الجنرال اوفقير الى الشارع ، بدباباته ومصفحاته ، ليشرع في سحق وحصد الاطفال والشباب بدون رحمة ولا شفقة . وبعد ذلك سيتم الاعلان الرسمي ، عن حل البرلمان ووقف العمل بالدستور . لقد كان الملاكون العقاريون الكبار وحلفاؤهم ، في حاجة الى قبضة من حديد ، لحفظ امنهم وتامين الغطاء الواقي لصيرورة صعودهم الطبقي . ولقد كانت الاوفقيرية هي تلك القبضة الحديدية، وبذلك تحقق الانسجام والتطابق ، بين مجتمع مدني في طور التشكل ، تقوده وتبنيه طبقة بورجوازية اصلاحية صاعدة ، على حساب تقهقر المجتمع الماقبل المدني القديم ، وكذلك على حساب تراجع المشروع الرأسمالي الراديكالي ، وبين الشكل الاستبدادي لدولة نفس الطبقة البورجوازية الصاعدة. ان الدولة الاستبدادية لم يصنعها اوفقير ، وانما صنعتها طبقة اوفقير ، ليست دولة اوفقير هي التي اشاعت الاستبداد السياسي على المجتمع المدني ، بل بالعكس ان المجتمع المدني ، في تلك المرحلة المحددة من تطوره ، هو الذي جعل الشكل الاستبدادي للدولة المغربية ضروريا . فلو لم يوجد شخص اوفقير ، لأوجد المجتمع المدني شخصا اخر يقوم بنفس دوره ، فالشكل السياسي للدولة ، ليس سوى تعبيرا وانعكاسا لمستوى تطور المجتمع المدني ، الذي هو بدوره تعبير عن مستوى تطور الطبقة السائدة فيه . لذلك اذا كانت الدولة باقية وثابتة ، فبالعكس ان اشكالها السياسية زائلة ومتغيرة .. من الشكل الاستبدادي لدولة الطبقة السائدة ، خرج نقيضه الديمقراطي لدولة نفس الطبقة ، كيف حدث هذا؟
الشكل الديمقراطي لدولة الطبقة الواحدة

في النصف الثاني من السبعينات ، وقع تحول كيفي على الشكل السياسي للدولة المغربية ، اذ في هذه الفترة ، تم الانتقال من الشكل الاستبدادي الذي عرفته مرحلة حالة الاستثناء الى شكل ديمقراطي . ان الشكل الديمقراطي الجديد ، يتجلى في الحد من سلطة الحكم المطلق ، الامر الذي سمح للمجتمع المدني بالمشاركة في تسيير شؤون الدولة ، عن طريق انتخاب مؤسسة برلمانية ، مكلفة بسن القوانين التشريعية، وتحديد الميزانية العامة والمخططات الاقتصادية ، ومراقبة موظفي الدولة ... الخ . ان هذا الوضع الجديد ، هو الذي سمح للحزب الشيوعي المغربي ، بتطبيع علاقته مع الدولة ، ويرفع المنع الذي تعرض له الاتحاد الاشتراكي بعد احداث مارس 1973 ، والغاء الحظر عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، ومنح الشرعية القانونية لمنظمة مثل منظمة العمل الديمقراطي الشعبي والسماح لصحافة المعارضة بالنشاط ، والسماح بتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (ك.د.ش) والسماح ايضا لجمعيات ثقافية متنوعة . هذه المظاهر الديمقراطية واقعية ، ولا يمكن لأي احد ، يريد تحليل الواقع بشكل علمي ، ان ينكرها . ذلك ان منطق " إما .. وإما " الذي سخر منه هيكل عن حق ، منذ حوالي ثلاثة قرون من الزمن ، هو منطق تجريدي لا قيمة علمية له .

ان اصحاب ذلك المنطق، يسقطون بالضرورة ضحية لهذا الخطأ النظري الكبير : الخلط بين الديمقراطية كواقع مجرد ، وبين الديمقراطية كشكل ملموس ، يتقمصه ذلك الواقع المجرد في لحظة محددة. وحين يحصل ذلك الخلط، يتم اختزال الديمقراطية كلها في شكلها المثالي الاوحد ، بحيث يصبح ذلك الشكل المثال هو معيار التمييز بين وجود الديمقراطية وانعدامها .

لكن مقولة الديمقراطية ، شانها في ذلك شان كل المقولات الاخرى ، المنطقية والغير منطقية ، لا يمكن ابدا ان تسجن نفسها في شكل وحيد وواحد . فالديمقراطية تغير جلدها باستمرار. ولذلك ليس هناك الديمقراطية ، بل هناك اشكال الديمقراطية . هناك الشكل الديمقراطي ذو هذا المضمون الطبقي او ذاك ، كما ان هناك الشكل الديمقراطي البدائي ، والمتطور ، والمتكامل . والعلاقة بين تلك الاشكال الثلاثة ، هي علاقة صيرورة تاريخية ضرورية ، لا علاقة ارادة سياسية مجردة . فالقول مثلا بإمكانية الانتقال المباشر ، للنظام المغربي ، من طور الاستبداد الى طور الديمقراطية ، بدون حلقات وسطى ، كالقول بإمكانية تحويل الطفل الرضيع الى رجل كامل النضج ، بواسطة قفزة نوعية سريعة . فهذا النوع من القفزات ، ان كان موجودا فعلا في عالم السحر والاسطورة ، فلا وجود له ، لسوء الحظ او حسنه في العلم والتاريخ .

ان الشكل السياسي للدولة المغربية الحالية هو شكل ديمقراطي ، هذا واقع موضوعي قائم . لكن اية ديمقراطية نقصد ؟ تلك هي المسالة . هناك فعلا الحد من سلطة الحكم المطلق لكن في نفس الوقت فان ذلك الحد ، نسبي جدا . هناك برلمان ، لكن صلاحياته محدودة جدا . هناك حرية الصحافة ، لكن ايضا الرقابة عليها وحجزها . هناك حرية التنظيم الحزبي والنقابي ، لكن ايضا عدم الترخيص بتنظيم التظاهرات السياسية ، وقمع الاضرابات النقابية . هناك حرية التعبير ، لكن ايضا الاعتقال بسبب الراي والموقف. وهذا الاعتقال السياسي قد يصل الى حد ، دفن ضحاياه الابرياء طيلة حياتهم في الكهوف الباردة ، بل والى القتل والجنون . ان دولة هذه طبيعتها المزدوجة ، تقر الديمقراطية وتلغيها ، تقبل المعارضة وتحد من نشاطها ، تسطر القانون وتخرقه .. هي دولة ليست لكل المجتمع المدني ، ولكن للطبقة السائدة فيه فقط ، وبالتالي ان شكلها الديمقراطي ، هو شكل دولة الطبقة الواحدة ، لا شكل كل طبقات المجتمع . ان الشكل الديمقراطي لدولة الطبقة الواحدة ، كان وراءه تاريخ ، ولذلك وبالضرورة سيكون امامه ايضا تاريخ ، لقد ظهر كنتيجة لسبب سابق ، واصبح هو نفسه سببا لنتيجة قادمة . لقد تحول الشكل الاستبدادي لدولة الطبقة الواحدة ، وسيتحول بالضرورة هذا الاخير بدوره ، الى شكل ديمقراطي جديد : دولة طبقات المجتمع المدني . هذا حكم التناقضات الموضوعية التي تحرك المجتمع . وليس هناك على وجه الاطلاق ، اية قوة بشرية ، مهما بلغ سلطانها وجبروتها ، اقوى من حركة تلك التناقضات الموضوعية .

وهنا نصل الى بيت القصيد : ماهي التناقضات الموضوعية التي جعلت الانتقال من الشكل الاستبدادي السابق ، الى الشكل الديمقراطي الحالي ضروريا ، وماهي التناقضات التي تجعل الانتقال من الشكل الديمقراطي الحالي ، الى الشكل الديمقراطي الارقى ضروريا ايضا ؟

قلنا في الفقرة السابقة ، بان نشوء الاستبداد في المرحلة الماضية ، ناجم عن وضع كان بحاجة الى مثل هذا الاستبداد ، وحللنا ذلك على الشكل التالي ، في بداية صمودها الاجتماعي ، كانت الطبقة البورجوازية التبعية ، ضعيفة .، اذ من جهة ، كان المجتمع الماقبل مدني يطوق مجتمعها المدني الناشئ، لان في تلك الظروف ، كانت لاتزال الملكية الاقطاعية العتيقة ، والملكية الصغيرة للفلاحين المستقلين ، قويتين .( لنذكر بالمناسبة حركة المعارضة التي قادها الاقطاع ، والتي كان ابرزها عصيان عدي اوبيهي في الجنوب) . ومن جهة اخرى ، كانت مهددة بالمنافسة القوية من طرف ممثلي الطبقة الوسطى، الذين كانوا يطرحون مشروعا راديكاليا للتطوير الرأسمالي ، مناقضا لمشروعها الاصلاحي . واذن في تلك الشروط الموضوعية الملموسة ، لم يكن هناك امام الطبقة البورجوازية الصاعدة ، من خيار سياسي لفرض هيمنتها وتحييد خصومها ، سوى خيار الدولة المركزية القسرية الاستبدادية . اما في المرحلة اللاحقة ، فقد انقلب الوضع راسا على عقب بعد تحول المجتمع الى نقيضه . اذ من جهة ، تم استكمال اعادة الهيكلة للملكية الاقطاعية على اسس رأسمالية ، ومن جهة ثانية ، تم عزل وتحييد ممثلي المشروع الراديكالي .

واذن في تلك الشروط الموضوعية الملموسة الجديدة ، ظهر تناقض جديد : بين وضع اجتماعي جديد ، وبين استمرار الشكل الاستبدادي للدولة الذي عكس الوضع القديم ، السائد ابان الصعود الطبقي فكان لابد لهذا التناقض ان يحل ، وحله يقتضي احداث تطابق بين الوضع الاجتماعي الجديد ، وبين شكل الدولة السياسي الملائم ، وهذا الشكل كان هو الشكل الديمقراطي لدولة الطبقة الواحدة .

لكن احداث التطابق المذكور، وتصحيح العلاقة بين وضع اجتماعي متقدم وشكل سياسي متخلف عن مسايرة حركته ، ليس بالشيء الالي ولا بالأمر الهين . فالبرجوازية المغربية التي تعودت ، في المرحلة الاولى ، المهيمنة بواسطة الشكل الاستبدادي للدولة ، لم يكن سهلا عليها ، بحكم قوة العادة تلك ، تجاوز الشكل الاستبدادي والانفتاح على شكل ديمقراطي جديد ، ورغم ان الديمقراطية المقترحة هي ديمقراطيتها الخاصة .

لذلك كان لابد من هزة عنيفة ، ترغمها على مواجهة مواقفها ، وقد جاءت تلك الهزة في شكل محاولتي الانقلاب في مطلع السبعينات .

بعد الهزة اصيبت البورجوازية بأزمة سياسية عميقة ، ولم يكن من الممكن تجاوزها ، بدون التقرب من المعارضة الوطنية ، لكن التقرب له شروطه ، ومن ضمن المطالب الاساسية التي كانت تطرحها بإلحاح المعارضة الوطنية ، مطلبي الديمقراطية واسترجاع الاقاليم الصحراوية المغربية .

هكذا ستلجئ الديمقراطية ، التي عملت على رفع التناقض بين وضع اجتماعي متحرك وشكل سياسي جامد ، وهكذا سيتم تحرير الصحراء المغربية ، التي كانت عزيزة على قلب المرحوم علال الفاسي منذ القدم ، وظلت عزيزة حتى اخر لحظات حياته .

لكن الصحراء التي كانت في البداية ، مجرد نقطة برنامجية ازاء نقطة اخرى هي الديمقراطية ، سرعان ما تحولت بفعل تعقد واحتدام الصراع ضد خصوم الوحدة الترابية ، الى سند قوي للديمقراطية ، اذ لكي تظهر الصحراء امام الراي العام الدولي ، على انها قضية شعب بأكمله وليس فقط قضية نظام ، كان لابد من توفير شرط ديمقراطي للدفاع عنها ، الامر الذي يقتضي حرية الصحافة ، وحرية انشطة اخرى . في هذه الحدود وحدها ، يمكن فهم طبيعة العلاقة بين القضية الوطنية وقضية الديمقراطية ، اما الراي الذي ذهب اليه البعض ، وهو راي منتشر ، والذي يربط وجود الديمقراطية بوجود مسالة الصحراء ، فانه راي خاطئ من الناحية النظرية ، لأنه يستبدل التفسير الجوهري بالتفسير العرضي ، ان قضية الصحراء، مهما كانت اهمية دورها المؤثر على المسالة الديمقراطية ، ومهما طال امد الصراع حولها ، فإنها مع ذلك تنتمي فقط للمؤثرات العرضية الظرفية .

ان دور عامل الصحراء في مسالة الديمقراطية ، مثله مثل دور عامل العرض والطلب في مسالة تحديد اسعار البضائع . فهذا العامل الاخير ، له فعلا تأثير على تحديد السعر ، لكنه ليس هو العامل الجوهري الحاسم ، اذ لكي يمكن تحليل قيمة البضاعة تحليلا علميا ، يجب تجريدها من كل المؤثرات الخارجية العرضية ، والنظر اليها في جوهرها الثابت ، الذي هو كمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاجها ، وعامل العرض والطلب هو نفسه يمكن ابطال مفعوله ، في الشروط التي يتساوى فيها العرض مع الطلب ، وحينئذ لن يبقى هناك سوى العامل الجوهري الثابت .

نفس الشيء بالنسبة لقضية الديمقراطية ، فلكي يمكن تحليلها تحليلا علميا ، يجب تجريدها من عامل الصحراء الذي يشوش على ذلك التحليل ، والنظر اليها بالتالي في حقيقتها الجوهرية الثابتة ، وهذه الحقيقة هي ، كما سبق الذكر ، تطور المجتمع المدني نفسه الذي لم يعد يحتمل الشكل الاستبدادي للدولة السابق ، وهذا معناه ان الديمقراطية باقية حتى ولو زال عامل الصحراء .

يبقى السؤال : ما هو السبب الذي دفع الجنرال اوفقير ، للقيام بمحاولته الانقلابية ؟ هناك من اعتبر ان السبب يكمن في تناقض داخل الطبقة الحاكمة ، ناجم عن « غياب الديمقراطية » بين اجنحتها ، وهناك من اعتبر ، مثل السوسيولوجي الامريكي ووتر بوري ، بان حركة اوفقير كانت بمثابة استباق للأحداث من اجل قطع الطريق امام احتمال انقلاب عسكري يساري .

ان كل هذه التفسيرات خاطئة ، لان السبب الحقيقي يكمن في طبيعة شخصية اوفقير نفسها ، فهذا الرجل الذي كان يملأ قلبه طموح سياسي كبير ، شعر بعد تعاظم سلطته ونفوذه ، الناجم عن دوره البارز في قمع المعارضة الراديكالية ، بان الظرف ملائم للدفع بسلطته الى نهايتها ، أي الاستيلاء على السلطة العليا للبلاد نفسها .

وفي الحقيقة فان التاريخ ، القديم والحديث على السواء مليء بهذا النوع من النماذج الاوفقيرية ، وتكفي الاشارة هنا الى المثال الفرنسي ، بعد الثورة الفرنسية انفجر صراع عنيف ، بين الاتجاه البورجوازي الثوري والبورجوازي الاصلاحي ، الامر الذي دفع انصار هذا الاخير ، الى القول بان الوضع في حاجة الى (une bonne épée ) لخلق الامن والاستقرار . وهكذا سيتم اسناد دور تلك القبضة الحديدية ، الى رجل عسكري سبق له ان برهن عن قدراته العسكرية في حملات ايطاليا ومصر. وكان ذلك الرجل اسمه بونبارت ، لكن نابليون هذا ، ما ان احس بسلطته تتعاظم حتى تولد لديه طموح اكبر : فكانت الاطاحة بالجمهورية التي قلبها الى ملكية ووضع نفسه على راسها .

ان حركة اوفقير تشبه حركة نابليون ، مع اخذ المقارنة بينهما طبعا ، في الحدود التي تسمح بها المقارنة بين قزم وعملاق .

ان التاريخ السياسي لأوفقير قد كرر نفسه ، لكن في المرة الاولى كان مأساويا ، بسبب تساقط الشباب والاطفال ضحايا قمع احداث 23 مارس 1965 . وفي المرة الثانية كان كاريكاتوريا ، بسبب المهزلة التي انتهى اليها مصيره ، بعد المحاولة الانقلابية .

وكما ان المأساة ، في الحالة الاولى ، لم تفعل اكثر من الاسراع بإقامة نظام الاستبداد ، الذي كانت شروطه الموضوعية موجودة سلفا على ارض الواقع ، كذلك فان المهزلة ، في الحالة الثانية ، لم تفعل اكثر من الاسراع بفتح عهد الديمقراطية ، الذي اصبحت شروطه الموضوعية موجودة في المجتمع المدني .
تناقضات ديمقراطية دولة الطبقة الواحدة .

ان الديمقراطية الحالية هي ديمقراطية الطبقة الواحدة ، ولان هذه حقيقتها ، لذلك قامت اصلا على ترسانة ضخمة من القوانين المتنوعة ( ابتداء من نظام التقطيعة للدائرة الانتخابية ، ومن السن القانوني للترشيح والتصويت ، ومن القوانين المنظمة للعملية الانتخابية ، الى نظام العمل داخل المؤسسة البرلمانية .. وعلى الاجراءات الادارية السافرة ، بحيث يصبح في هذه الشروط ، من المستحيل على الطبقات الشعبية ايصال ممثليها الحقيقيين الى البرلمان ، وجعل منهم اغلبية برلمانية تمكنهم من تشكيل حكومة خاصة بهم. بعبارة ان الديمقراطية الحالية هي ديمقراطية الوجود القانوني للحركة التقدمية ، وليست ديمقراطية الوصول القانوني الى الحكم من طرف تلك الحركة . ان الخلط بين الوجود القانوني للأحزاب التقدمية ، والوصول القانوني الى الحكم من طرفها ، هو الذي سمح لدى البعض بظهور مفهوم « المسلسل الديمقراطي « الخاطئ .

ان هذا المفهوم يعتقد بإمكانية التطور نحو الديمقراطية الحقيقية ، بواسطة التوسيع الكمي لمجالات الديمقراطية الحالية .. اذ حسب زعمه ان عملية الديمقراطية قد انطلقت ، والمطلوب هو الدفع بها الى شكلها الارقى . وهذا وهم ، لان الشكل الديمقراطي الحالي ، هو الشكل الارقى والنهائي المتكامل ، الممكن موضوعيا على قاعدة دولة كل طبقات المجتمع .

من هنا نصل الى جوهر القضية . ذلك ان التناقض بين الطرح الشعبي والطرح البورجوازي للمسالة الديمقراطية ، ليس فحسب تناقضا في التصورات السياسية ، بل وايضا واساسا تناقض في المواقع الطبقية .

فلنفرض جدلا ان البورجوازية التبعية ، قد قبلت بكل شروط الديمقراطية الحقيقية ماذا سيحدث حينئذ ؟ . ستتمكن احزاب المعارضة الوطنية ، من تجاوز خلافاتها الحقيقية والغير حقيقية . وستتوحد حول برنامج وطني ديمقراطي مناقض لبرنامج البورجوازية التبعية . وستدخل حملة الانتخابات في جبهة موحدة تلغي كل نزعة تنافسية حزبية ، وستفوز بالأغلبية البرلمانية . وستشكل حكومة خاصة بها ، ثم اخيرا ستشرع في تطبيق برنامجها الوطني الديمقراطي بالكامل .

لكن تطبيق هذا البرنامج ، يعني القضاء على التبعية ، وبالتالي على البورجوازية التبعية نفسها . من هنا يمكن ان نفهم لماذا البورجوازية التبعية ، تحارب بشراسة اية محاولة تريد الذهاب بالديمقراطية ابعد من شكلها الحالي .

واذن فان الموقع التبعي للبورجوازية المغربية ، هو العرقلة الحاسمة للتطور نحو الديمقراطية الحقيقية . ولذلك لا يمكن الحديث بشكل جدي عن الديمقراطية ، بدون توفر شروط تجاوز تلك العرقلة . لكن الحال، وهذه نقطة حاسمة يجب الانتباه اليها ، هو ان المجتمع نفسه قد خلق موضوعيا شروطا تجاوز التبعية . ونحن اذا تأملنا المسالة بعمق ، فسوف نكتشف بان شعار الاختيار الديمقراطي الراديكالي ، الذي تبنته احزاب تقدمية ، لم ينبع بشكل مجرد من ادمغة مناضلين مجتهدين بالدرجة الاولى . بل هو ترجمة صادقة عكست مستوى تطور المجتمع المدني ، الذي اصبحت الديمقراطية بالنسبة اليه ، في هذه اللحظة التاريخية المحددة ، حاجة ضرورية موضوعيا .

بعبارة اخرى .. اننا لم نتوصل الى الوعي بضرورة الديمقراطية ، الا بعد ان تولى الواقع الموضوعي نفسه ايجاد شروط تحقيقها . فالبشرية ، كما قال ماركس بشكل مادي جدا ، لا تستطيع ان تطرح على نفسها سوى القضايا التي تقدر على حلها .

ان تجريد شعار الديمقراطية عن شروطه الاجتماعية التاريخية الملموسة ، قد ادى بالعديد من المناضلين والمثقفين ، الى السقوط في اخطاء مثالية . اذ بالنسبة لهؤلاء فان قضية الديمقراطية ليست قضية خاصة بالواقع المغربي الحالي ، ولدتها شروط تطوره الموضوعي الملموسة ، بل هي قضية عامة كانت تستجيب الى الواقع المغربي السابق ايضا . وفقط .. اننا « وعيناها الان ولم نعها سابقا » . وحينما نطرح السؤال : لماذا الوعي بها الان وليس امس ؟ . الجواب الله اعلم .

ان هذا الطرح ليس سوى اسقاطات مجردة مثالية لحاجة حقيقية خاصة بالوضع الحالي ، على الوضع السابق المختلف ، وفي الحقيقة ان شروط الديمقراطية كانت منعدمة في الشروط السابقة . فحتى لو فرضنا ان الاتجاه الراديكالي هو الذي انتصر على الاتجاه الاصلاحي ، فان ذلك لن يقود الى الديمقراطية كما نفهمها اليوم . وليس مرد هذا الى غياب الوعي بها ، وانما الى ضرورة الصراع الطبقي في شكله السابق . فكما ان البورجوازية الاصلاحية الصاعدة ، كانت بحاجة الى دولة مركزية استبدادية لقمع منافسيها الراديكاليين . كذلك فان البورجوازية الراديكالية الصاعدة ، ستكون بالضرورة بحاجة الى دولة مركزية استبدادية لقمع منافسيها الاصلاحيين ، في الوضع السابق لم يكن هناك خيار ثالث . ان لم تقمعهم قمعوك . مع ذلك يبقى هناك فرق جوهري بين القمع الاصلاحي والقمع الراديكالي . فالأول هو قمع لصالح الاقلية ، بينما الثاني لصالح الاغلبية.

عود على بدء . لماذا المجتمع المدني المغربي الحالي ، لم يكتف فحسب بجعل القضية الديمقراطية قضية راهنة من ناحية الوعي النظري بها ، بل وايضا لقد خلق في الوقت نفسه شروط تحقيقها السياسي ؟ .

هذا ما نريد تحليله في الفقرة التالية : ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع .
ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع

لا يمكن فهم واقع الرأسمالية المغربية فهما علميا ، بدون التمييز بين لحظتين تاريخيتين مختلفتين نوعيا في سياق التطور ، لحظة بداية الصعود الرأسمالي المغربي ، واللحظة الراهنة .

ان ما يميز اللحظة الاولى هو التالي : كان النظام الرأسمالي المغربي ، الخارج للتو من احشاء الرأسمالية الكولونيالية ، ما يزال وقتئذ ضعيفا ومحدودا ، لان النظام الماقبل رأسمالي ، بنمطيه الاقطاعي والانتاج الصغير، كان لايزال يتمتع بقوة الانتشار .

اما ما يميز اللحظة الراهنة فهو التالي : تعميم النظام الرأسمالي ، وتهميش بقايا النظام الماقبل رأسمالي المتمثل في الانتاج الفلاحي الصغير . في اللحظة السابقة كان النظام الرأسمالي المغربي البدائي يعبر عن نفسه ويعكس واقعه التاريخي ، في الشكل التبعي للرأسمال الامبريالي ، ولذلك كان النظام الرأسمالي المغربي نظاما تبعيا .

اما في اللحظة الراهنة ماذا حدث ؟ لكي نتمثل ذلك بشكل ملموس ، يستحسن ان نستعين بالمثال التالي : لنأخذ راس رجل كثيف الشعر ، ولنبدأ في ازالة شعرة تلو الاخرى بشكل متواصل . وفي لحظة محددة من توالي العملية ، سنلاحظ فجأة ظهور صلعة محل الشعر . معنى هذا ان تحول الراس ، من حالة نوعية ) كثافة الشعر) الى حالة نوعية اخرى نقيضة ( الصلعة) ، قد تم فقط ، بفعل عملية تدريجية كمية صرفة ، فالكم تحول الى كيف .

ان هذا هو بالضبط ما حدث بالنسبة للرأسمالية المغربية . في اللحظة البدائية ، كان النظام الرأسمالي المغربي نظاما تبعيا .

وهذا النظام التبعي ، انطلق في صيرورة من التطور التدريجي الكمي الصرف . ثم في لحظة معينة من التطور والانتشار والتعميم ، تحول فجأة الى نقيضه ، أي الى نظام رأسمالي وطني ، نتيجة التعميم الحاصل داخل المجتمع المغربي .

لكن المفارقة ، وهذه نقطة حاسمة يجب الانتباه اليها ، هي انه رغم ان النظام الرأسمال المغربي ، قد تحول من نظام تبعي الى نظام وطني الا انه لازال مع ذلك مستمرا في التعبير عن نفسه ، وعكس واقعه الجديد في الشكل التبعي القديم ، الذي ان كان فعلا ينسجم مع واقع الرأسمالية المغربية في شكلها البدائي، الا انه لم يعد كذلك بالنسبة الى شكلها المتطور الحالي .

من هنا هذا التناقض : انعدام التطابق ، بين نظام رأسمالي مغربي اصبح طابعه طابعا وطنيا معمما ، وبين تعبيره الخارجي الذي احتفظ على شكله التبعي القديم .

ان هذا التناقض هو سبب الازمة الاقتصادية - الاجتماعية العميقة التي تنخر المجتمع المغربي ، وفي الوقت نفسه هو سبب الافق المسدود امام الانتقال بالديمقراطية المغربية الى شكلها الارقى . واذن كيف يمكن حل هذا التناقض ؟

واذا نحن اردنا صياغة هذا السؤال صياغة طبقية ، فيمكن القول بان التناقض المذكور هو ما بين : البورجوازية المغربية المرتبطة بالشكل الرأسمالي التبعي وبين الجماهير الشعبية التي لن تحقق مصالحها الملحة ، الا عن طريق القضاء على التبعية وتحرير الاقتصاد الوطني . اننا اذن امام تناقض بين مصلحتين متعارضتين : مصلحة البورجوازية ومصلحة الطبقات الشعبية .

وفي الحقيقة اذا نحن بذلنا جهدا نظريا ، وحاولنا فهم ذلك التناقض بشكل ملموس انطلاقا من سياقه التاريخي الخاص نفسه ، وليس انطلاقا من بتره من ذلك السياق والنظر اليه بطريقة تاملية مجردة ، فإننا بالتأكيد سنتوصل الى طرح الاشكالية طرحا جدليا ، وستتوصل في نفس الوقت الى تحديد الحل الجدلي العلمي الملائم .

على هذا الاساس تصبح الاشكالية الحقيقية هي التالية :

كيف يمكن تحقيق مصلحة الطبقات الشعبية بدون ان يؤدي ذلك, في نفس الوقت, الى القضاء على مصلحة البورجوازية المغربية ؟ .. او بعبارة الجدل : كيف يمكن توحيد الضدين ؟

ان الحل النظري الوحيد الممكن عمليا لتلك الاشكالية هو التالي : القضاء التام على التبعية لتحرير الاقتصاد الوطني .. أي الانتقال بالرأسمالية المغربية من شكلها التبعي الى شكلها التحرري الوطني .

ان الخلط بين الرأسمالية المغربية وبين شكلها ، هو الذي قاد الكثير من الاقتصاديين والمناضلين ، الى السقوط في هذا الخطأ النظري ، الذي يعتقد بان القضاء على التبعية يعني القضاء على الرأسمالية السائدة في حد ذاتها ، وفي الحقيقة ان التبعية ليست سوى الشكل الذي تتقمصه الرأسمالية المغربية في لحظة تاريخية معينة وبالتالي ليس هو شكلها الاوحد. فالرأسمالية المغربية يمكن لها ان تتقمص شكل رأسمالية الدولة التبعية ( كما حدث في اللحظة التاريخية التي اعقبت المرحلة الكولونيالية ). ويمكنها ان تتطور ، أي ان تتقمص شكل طبقة رأسمالية قائمة الذات ( وهذا ما نشاهده اليوم من خلال تفكيك القطاع العام لصالح الرأسمال الخاص ). ثم يمكن للرأسمالية التبعية نفسها بشقيها معا ، الرأسمال العام والخاص ، ان تتحول الى النقيض ، أي الى رأسمالية وطنية متحررة من التبعية. وهذا بالضبط هو جوهر التناقض الذي يمزق حاليا المجتمع المغربي . اذ كما سبق الذكر ، ففي الوقت الذي اصبح فيه طابع النظام الرأسمالي المغربي طابعا وطنيا تعميميا ، ظل مع ذلك يعبر عن نفسه ظاهريا في الشكل التبعي القديم ، و من هنا التناقض بين الشكل والجوهر ، ومن هنا ايضا الحاجة الى ضرورة احداث التطابق بين الاثنين عبر الانتقال بالرأسمالية المغربية من شكلها التبعي القديم ، الى شكلها الوطني التحرري الجديد .

ما اردنا التأكيد عليه مما سبق ، هو ان مسالة تحقيق مصالح الطبقات الشعبية بالكامل ( وليس بطريقة انتقائية ) لا يشترط تصفية الطبقة البورجوازية المغربية كطبقة في حد ذاتها ، بل تصفية شكلها التبعي ، أي تحوله الى نقيضه الوطني التحرري . وفي الحقيقة ان جميع التناقضات الواقعية ، لا الوهمية ، يتم حلها جدليا بتلك الطريقة . أي ليس عن طريق التجاوز المطلق وانما عن طريق التجاوز النسبي الذي يتضمن عنصر المحافظة .

ولتوضيح تلك الفكرة البالغة الاهمية ، يتعين علينا الوقوف قليلا عند الامثلة التالية المقبلة .

مثال اول : في بداية ظهور الرأسمالية الاوربية ، كان استغلال الرأسمال لقوة العمل يتجسد في شكل فائض القيمة المطلق . وهذا يعني تمديد ساعات العمل ، الى اقصى حد يمكن ان يتحمله البشر . وفعلا وفي تلك الظروف ، كان يوم العمل ، سواء بالنسبة للرجال او النساء او الاطفال ، يتكون من 18 ساعة فما فوق .

ثم في لحظة تاريخية لاحقة ، اخذ حجم الطبقة العاملة ينمو، ووعيها يكبر ، ومقاومتها تشتد. الامر الذي مكنها من رفع مطلب: تخفيض يوم العمل الى 12 ساعة . اننا اذن امام تناقض حاد ، من جهة ، ان مصلحة الراسمال تقتضي تمديد يوم العمل الى حد يفوق طاقة الاحتمال ، ومن جهة ثانية ، ان مصلحة العمال تقتضي تخفيضه الى حد مقبول . كيف يمكن حل هذا التناقض الملموس بشكل ملموس ، لا بشكل مجرد عن شروط سياقه التاريخية الواقعية ؟ .

الحل الجدلي الوحيد الممكن علميا هو التالي : الاستجابة التامة لمطلب العمال ( يوم عمل 12 ساعة ) ، وفي نفس الوقت الحفاظ الكامل على مصلحة الرأسمال . لكن هذا الحل مستحيل بدون تحويل فائض القيمة ، من شكل فائض القيمة المطلق الى نقيضه ، أي الى شكل فائض القيمة النسبي . واذن فان فائض القيمة النسبي ، القائم على تطوير الانتاجية ( انتاج اكثر في وقت اقل ) ، قد ضمن الاطار لتوحيد مصلحتي الرأسمال والعمل المتناقضين .

مثال ثان : عندما ظهر لأول مرة في التاريخ البشري ، التبادل التجاري ، كان ذلك يتم على النحو التالي : تبادل بضاعة بأخرى ، ومعنى هذا ، ان هناك بضاعتين تلعبان دورين متعارضين: هناك البضاعة التي يراد بيعها ، وهناك في الطرف المقابل البضاعة الثانية التي تمثل قيمة الاولى . في لحظة لاحقة من تطور التبادل البضائعي وتوسع دائرته ، لم تعد بضاعة واحدة تمثل قيمة البضاعة التي يراد بيعها ، بل اصبح ذلك الدور تقوم به بضائع شتى ، أي ان البضاعة الخاضعة للبيع يمكن ان تعبر عن قيمتها التبادلية، في اشكال متعددة ومتنوعة من البضائع .

لكن التعبير عن قيمة بضاعة ما ، في اشكال متعددة من البضائع ، يحمل في طياته تناقضا حادا : فاذا كان فعلا لتلك البضاعة القدرة المبدئية على التعبير عن قيمتها التبادلية ، في عدد كبير من البضائع ، الا انه من الناحية العملية في لحظة التبادل المباشر ، لا يتم التعبير عن القيمة الا في بضاعة واحدة ، حيث يتم بالتالي اقصاء كل البضائع الاخرى .

ان التناقض اذن هو التالي : من جهة ، ان البضاعة تعبر عن قيمتها التبادلية في عدد كثير من البضائع. ومن جهة ثانية فانها لا تعبر عنها الا في بضاعة واحدة . كيف يمكن حل هذا التناقض الملموس ، بشكل ملموس ؟

الحل الوحيد الممكن جدليا ، هو الذي يستطيع توحيد الضدين . لكن ذلك مستحيلا بدون تحويل القيمة ، من شكل بضاعة عينية ملموسة ، الى شكلها النقيض المجرد . وهذا الشكل المجرد ، ليس شيئا اخر غير العملة النقدية .

في العملة النقدية يتحقق فعلا ، الجمع بين البضاعة الواحدة والعدد الكثير من البضائع . وما قلناه في المثالين السابقين ، يمكن قوله في العديد من الامثلة الاخرى .لان الوجود كله مليء بالتناقضات الجدلية .فلنعد اذن الى بورجوازيتنا المغربية . ان التناقض الذي ينخر المجتمع المغربي هو ، كما سبق الذكر ، التالي : في اللحظة البدائية من صعود البورجوازية المغربية ، كان الشكل الراسمالي الذي عبرت من خلاله عن مصالحها الطبقية ، هو الشكل التبعي . ثم في لحظة لاحقة من التطور التاريخي ، بعد تعميم النظام الراسمالي ، وتحويل المجتمع الماقبل المدني الى مجتمع مدني حديث ، ودمج كل الطبقات الاجتماعية فيه .. في هذه اللحظة بالذات ، بلغ الاستغلال الراسمالي اوجه ، مما انعكس في العديد من الامراض الاجتماعية ، ابرزها ظاهرة البطالة التي ضربت كالزلزال جيوشا كاملة من المواطنين . واذن يمكن اعادة صياغة التناقض المذكور ، بشكل مكثف ، على النحو التالي : من جهة ، لا يمكن للبورجوازية المغربية الحفاظ على مصالحها الا على اساس الاستغلال الرأسمالي . ومن جهة ثانية ، لا يمكن للطبقات الشعبية تحقيق مصالحها الا على اساس القضاء على الاستغلال الرأسمالي.

هذا تناقض واقعي ملموس ، ولذلك لا يمكن حله الا بشكل واقعي ملموس ايضا . والحل الوحيد الممكن عمليا هو التالي : التحقيق الكامل لمصالح الطبقات الشعبية ، وفي نفس الوقت الحفاظ التام على مصالح البورجوازية المغربية .

وهذا يفتضي تحويل الاستغلال الراسمالي ، من شكله التبعي الى شكله النقيض ، أي الى استغلال راسمالي وطني مؤسس على تحرير الاقتصاد الوطني من الراسمال الامبريالي.

الخلاصة : ان مرحلة الرأسمالية الوطنية ، الخارجة من احشاء مرحلة الرأسمالية التبعية ، والتي ستلعب فيها البورجوازية المغربية الحالية دورا رئيسيا ، هي مرحلة ضرورية تاريخيا من اجل التأهب للقفز نحو النظام الاشتراكي الارقى .

اما القول باستحالتها كمرحلة مستقلة ، قائمة الذات ، منفصلة عن المرحلة التبعية السابقة عنها ، وعن المرحلة الاشتراكية اللاحقة لها .. فتلك خرافة لا علاقة لها لا بحركة التاريخ ولا بحركة الصراع الطبقي، ولا بعلم الجدل. نصل الان الى مناقشة المسالة من جوانب اخرى.

قلنا بان النظام الراسمالي المغربي ، الذي كان في مرحلة صعود البورجوازية نظاما تبعيا ، قد اصبح في المرحلة الحالية ، بحكم تعميمه على المجتمع المدني ، نظاما وطنيا وقلنا ان هذا الوضع المستجد قد خلق تناقضا بين الجوهر الوطني الجديد ، وبين استمرار الشكل التبعي القديم ، وقلنا ايضا بان حل التناقض المذكور ، يتطلب احداث التطابق المنشود بين الجوهر والشكل ، عبر الانتقال من الرأسمالية التبعية الى الرأسمالية الوطنية ، ثم قلنا اخيرا بان الرأسمالية الوطنية المتحررة من الرأسمال الامبريالي ستضمن مصالح البورجوازية المغربية ولن تلغيها .

اذا كان كل هذا صحيحا ، فلماذا تفضل البورجوازية المغربية الهروب الى الامام ، عن طريق المزيد من تعميق اندماجها بالرأسمال الامبريالي ، رغم ان هذا الطريق اصبح يضر بمصالحها الطبقية نفسها ؟ هناك سببان رئيسيان .

الاول : فكما ان الرجل الذي يحب امرأة حبا قويا ، لا يستطيع التمييز بين الحب والمرأة المحبوبة ، وحيث تصبح المرأة هي الحب ذاته ، وليست تجسيدا له في شخصها ، وبالتالي فان غيابها يعني بالنسبة اليه ، فناء الحب ونهاية العالم .

كذلك فان البورجوازية المغربية المتعلقة بحب التبعية الى حد الجنون ، لا تستطيع من تلقاء نفسها ان تتصور ، بان الرأسمالية يمكن ان تتجسد في شكل اخر غير شكل التبعية ، من هنا فان غياب التبعية يعني بالنسبة اليها ، فناء الرأسمالية في حد ذاتها ، ونهاية العالم .

الثاني : ضعف احزاب المعارضة التقدمية ، الناجم اساسا عن تشتتها . فالبرجوازية المغربية لا يمكنها تغيير مواقفها عن طريق الاقناع السياسي ، بل فقط عن طريق الضغط الكثيف المستند الى صراع طبقي طويل ومرير ، قادر على تعبئة كتلة شعبية ضخمة في معمعانه .

تبقى مسالة حاسمة : بم نبدأ ؟ هل بحل المسالة السياسية ( تحقيق الديمقراطية الحقيقية ) ، ام بحل المسالة الاقتصادية – الاجتماعية ؟ .

رغم ان حل الثانية هو شرط ضروري نحو الحل النهائي للأولى ، الا انه مع ذلك لا يمكن حل المسالة الاقتصادية نفسها الا بواسطة حل المسالة السياسية ، فالبداية تنطلق من السياسي لا من الاقتصادي . لماذا ؟ .. لان البورجوازية لكي تحافظ على التبعية ، تلجا الى السلاح السياسي : منع الاحزاب التقدمية ، بوسائل شرعية وغير شرعية ، من الفوز في الانتخابات ، والحصول على الاغلبية البرلمانية ، وتشكيل حكومة خاصة ، وتطبيق البرنامج الوطني التحرري .

من هنا فان منطق الصراع يحتم على القوى التقدمية ، استعمال نفس السلاح السياسي ، لكن في الاتجاه النقيض أي فرض احترام القانون وتطوره ، والقبول بالانتخابات النزيهة ، من اجل تشكيل حكومة التحرر الوطني . هذا هو السبب الذي يجعل الصراع يحتدم حول قضية الديمقراطية ، وفي ميدان المعركة من اجل الديمقراطية ، سيتحدد مستقبل المغرب في العقود المقبلة .

.

ذ. عبد السلام المؤذن
جريدة انوال 1988

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى