محمد حيدار - نيــران المــاء..

"ما الذي يمكن عمله من أجــــــــــــل
تمييز تركيا عن الله لقد قمنا بالحرب
مع الاتراك وليس مع الههـــــــــــــم "

السير ايان هاملتون قائد الحملة
الانجليزية على جاليبولي التركية


الموج يلطم أسافل البارجة الحربية وعينا كلــود تتبعان حركة اضطراب الماء في حيرة وانبهار الى أن يختفي، متتابعا منتهيا عند نقطة اصطدام قد يحدد درجة عنفها مسار البارجة ومدى حدة سرعتها، وتعليقا على ذلك تمتم كلــود:
ــ إنها صدمة الحديد التي تنهي كل شئ قد يواجهها ببطء
الأسطول الحربي يمخر العباب كما لو انه ليس في عجلة من أمره ، يخفي نفيره ويواري وجهته ، كان على متنه خليط من القوات والجنسيات ، بحيث تتوسط مدمراته البحريـــــــة العملاقة قطعٌ من البوارج المقلة لقوات برية قد يقتضي الموقف حضورها، وعلى متن إحدى هذه البوارج العائمة يوجد كلــود ضمن أفواج من قوات التدخل وأفراد من البحارة، وكلــود كما زملائه مقتنع كل الاقتناع انهم في هذه الحملة لن يخوضوا سوى ما يشبه المواجهـــــة الرمزية ، فلا قوة مخيفة على المضايق تتربص بهم سيما وأن أسطول المملكة المتحدة ــ سيد البحار والمقل بدوره لقوات برية وبحرية ــ هو الذي يتقدمهم في زهو وقد تصدرت بوارجه الضخمة المدمرةُ العملاقةُ " ريتشارد قلب الاسد" ، وريتشارد قلب الاسد شعار يدرك الجنود الإنجليز مغزاه أكثر مــــــن غيرهم ، كل شيء سينتهي بسرعة حسب الجنرال "جـــورو" قائد القوات ، إذ كل ما يتعين عليهم فعله هو الانقضاض على الاستحكامات الدفاعية العثمانية، وما أهونها من مهمة كما أكمل الجنرال الفرنسي في أخر لقاء له بجنود حملته.
وحدات الأسطول تسبح في المياه والقواعد التحتية للمدمرات تداعب الموج في صمت وقد تدلى الليل، فأحاط الحملة بسكينة أكسبتها كل أسباب السرية، سكينة وسرية تدركهما أمواج البحر المتوسط لاتزال منذ أيام اليونان والرومان، حيث كانت منفذا للغارة وللأخذ على غِرّة.
ولإتساع المساحة البحرية التي ازدحمت فيها المدمرات والبوارج الحربية، سواء التابعة منها للجناح الفرنسي أو للجناح الانجليزي الذي يبدو أضخم وقد تميزت بواخره برايات بيض، ذُهل كلــود بل واطمأن أكثر وأخذ يعتقد انها من الكثرة والضخامة بحيث في إمكانها أن تخضع العالم كله، فضلا عن تركيا التي يزحف الأسطولان نحوها.
ولم يستمر كلــود في تداعياته منفردا، فقد التحق به على شرفة الباخرة أحد البحارة من ضباط الصف الذي ربت على كفه متطلعا الى مشهدي البحر والليل وقد تمازجا في تركيب عجيب، وبادره كلــود قبل أن يــتكلّـــم :
ـــ هل تعرف شيئا عن مضيق الدردنيل أو مضيق البوسفور؟
ورفع ضابط الصف يده عن كتف زميله وهو يجيب صادقا:
ـــ لم أسمع بهما قبل أن يصيرا هما كل ما نتكلم عنه!
قالها وأشعل لفافة من سجائره وأخذ ينفث دخانها بين الحين والأخر وهو يحادث زميله كلــود، حديثا أخذ يبتعد نوعا ما عن مهمة اليوم؛عن الدردنيل ومضايق تركيا واحتمالات هذه الحرب.
ومهما يكن من أمر، فقد رأى كلــود في تغيير مجرى الحوار من طرف زميله فرصة للحديث عن ماري ، الفتاة التي تركها خلفه بالضواحي حيث الثكنة التي كان يقيم بها ، وكيف انها اضطرت الى شرب عدة قـنن من خمر الى أن ثملت ، فضلا عن استهلاكها مجموعة من السجائر بشكل متلاحق ساعة علمها بنبأ نقله الى خارج فرنسا، وتعمد أن يقول لها ــ حين سألته عن وجهة القوات التي ستغادرــ : " إنه لا يدري"، فازدادت خشيتها إذ أن إبقاء الوجهة سرا ــ حتى ولو انه من الطقوس العسكرية المرعية كما اعتقدت ــ يعني ان الامر لا يتعلق برحلة ترفيهية او تدريبية على الاقل، فغلبتها دموعها إلى أن بكت على ركبتيه ساعة فراقهما ، وحتى يخفف على زميله قال ضابط الصف :
ــ عُد بنا الى الحديث عن الدردنيل والبوسفور
ولنترك ماري في تهجمها.
حينئذ قال كلــود وكأنه يحادث نفسه هذه المرة أو يتساءل:
ــ إذن فنحن في طريقنا الى مضيقي الدردنيل والبوسفور؟
وسأله زميله :
ــ وما حاجتنا إليهما وهما أبعد من كل شئ عنا؟
وفي نوع من التبجح أظهر كلــود كم انه الاكثر امتيازا في العلم بما هو اخفى حين قــــال :
ــ قيل ان تحكمنا في هذه المضايق التركية
سيقلب هزيمة الروس أمام الالمان الى نصر
وابتسم ضابط الصف وهو يضرب كلــود بيده على ظهره مرة أخرى و يعــلّـــق :
ــ هذا ليس غريبا منك فأنت ضليع في
أسرار الحروب يا صديقي .
كانت تلك هي النتيجة التي أراد كلــود لزميله أن يصل اليها حين قال ذلك، ولفهما صمت رهيب لا يتسلل منه الا بعض شخير البحر كما لو أنه نام بالأسفل مبكرا، وهو يتكئ على صفائح الصلب التي تشكل الجزء غير المرئي من البارجة، استلذ كلــود رحابة السكون المشبع بالنسيم المبلل، وكان السكون و النسيم من قوة الانعاش بحيث نقلاه الى عالم "ماري" الحالم الطافح بشاعرية محببة اليه، لولا انه تلقى صوت زميله الذي يبدو ان أمر المضيق لايزال يشغله ككل ركاب بوارج الأسطول الحربي :
ـــ ومالنا ولروسيا نحميها؟
وضحك كلــود وكأن السؤال قد فاجأه فعلا وقال لــزميلــه :
ــ لأنها ببساطة تخوض هذه الحرب نيابة عنا وعن انجلترا
فضلا عن انها من كتلة الحلفاء المعادية لدول المركز كما تعلم
قالها وكأنه ينهي الكلام حتى وزميله يقول لــه:
ــ لا أفهم لا أفهم نحن أيضا حاربنا الألمان مباشرة ونحاربهم!
وتركه يغوص في تساؤلاته دون أن يحدّثه عن نزاع ظل محتدما بين روسيا وانجلترا بسبب هذين المضيقين بالذات، وعن محاولات سابقة للأميرال " دوكودت " قائد الاسطول الانجليزي في الاستيلاء عليهما فشلت تباعا، وعن انزعاج انجلترا من سماح تركيا لروسيا بعبورهما وفق شروط ، وطموح هذه الى جعلهما خاضعين لحرية المرور، وسر تحالف تركيا مع المانيا باعتبار أن هذه الاخيرة ليست لها أطماع في الاولى عكس دول الحلفاء، كل ذلك كان سيبعد كلــود عن التفكير في موضوع ماري لو بادر بالحديث عنه ، ولذلك اكتفى بما قال لزميله في شان المضيقين.
في هذه الأثناء أخذ ضابط الصف يتحدث عن البارجة الحربية الضخمة التي يستقلانها، وأهميتها في المعارك البحرية باعتباره بحارا عكس زميله كلــود المنتسب للقوات البرية، غير أن هذا الاخير ظل شارد الذهن حتى وزميله يحدثه عن متوسط السرعة التي يسير بها الأسطول في حين كان ينبغي أن تبلغ 18 عقدة بحرية، ثم يسهب في الحديث عن أنواع المدافع الثقيلة والأسلحة الخفيفة التي تتجهز بها البارجة وعندها قال كلــود :
ــــ ولكن مدافع البوارج لا تزال تنقصها الدقة
في حدود علمي؟!
وعندها رأى ضابط الصف أن دوره في التفصيل قد حان فـقال :
ــــ لا تنس انها الأكثر قوة حتى الان
إذ باكتشافه للبارجة كأول سفينة قتال حديثة
ظل الاسطول البريطاني سيد المحيطات يا كلــود.
ومضت أيام الإبحار ولم يعد الهدف بعيدا، فقد أخذت تطالعهم واجهات اليابسة التركية من بعيد، ورغم حلقات الاطمئنان التي حرص سامي الضباط على تنظيمها تشجيعا لجنودهم ،لم يشكل مرأى تلك البقاع بالنسبة لهؤلاء مبعث اطمئنان، سيما والبوارج الأمامية قد شرعت في مغادرة مياه البحر المتوسط الدافئة ، وهي الان تعتلي أمواج بحر ايجة التي تمثل مدخلا طبيعيا لمضيق الدردنيل ، وفي لحظات الجد هاته أدرك ضابط الصف ان مشاعر زميله كلــود لم تعد مشدودة الى الخلف ، الى حيث الفتاة ماري كما كان دأبه طوال هذه الرحلة، بل انه واضح الحضور نفسيا ووجدانيا أيضا ، يقاسم زملاءه ما يفكرون فيه من أمر هذا المضيق الذي يلفه السكون والرهبة معا، ودنا منه زميله وقال وهو يشير بأصبعه :
ـــ انظر لا شك انه هو الدردنيل ؟!
وقال كلــود محاولا الابــتـسـام:
ـــ قد يكون مادام لا يوجد مضيق غيره في منتهى البحر
قال ضابط الصف في حيــرة :
ـــ ولكنه صعب الاجتياز، إنه محاط بالجبال
فضلا عن انه شديد الـضيق؟
وأردف على عجل :
ــ سنصبح تحت نيران الأتراك لا محالة؟!
واصطنع كلــود قهقهة مكشوفة وهو يقــول :
ـــ لا تنس اننا على متن أكبر أسطول في العالم
وتساءل ضابط الصف :
ـــ لماذا انتهت كل شساعة هذه البحار الى هذا المضيق؟ اللعنة
وأدرك كلــود ان كلماته لم تُزل تخوفات زميله الذي استمر في النظر الى موقع المضيق دون أن ينبس، بل انه لا يبادر حتى بإشعال سيجارة كما كان يفعل في كل مرة، وصدرت أوامر احترازية بأخذ الحيطة والحذر، فالسفن الحربية على أبواب المضيق/ الهدف، بل إنّ تحرّكات هذه السفن تبدو وكأنها قد أخذت ترسم وضعا حربيا بالفعل بمجرد توغلها شرقا ببحر ايجة.
كان الموقع رائعا مركبا تركيبا أخاذا، بحران متعانقان، ثم مضيق تؤطره هضبات قد امتدت الى جانبيه ترافقه في تعرجاته البسيطة نحو الشرق، كان مشهدا بالغ الجمال لولا أن الأنفس المشدودة اليه من على هذه البواخر لم تكن لتلتقطه من زاويته هذه، فهي نفوس مسكونة بتخمين الذي سيحدث وتصور ما ستفعل هي ليس إلا، فالحروب عدوة الانتشاء.
ولأنها كانت في المقدمة اقتربت البوارج الانجليزية من المضيق، الجميع يتوقع ردة الفعـــل لقد صارت في حكم الوارد ستزمجر المدفعية التركية من أكثر من موقع، "ريتشارد قلب الأسد" أولى البوارج تتقدم في تؤدة تزحف في حذر بليغ، والأيدي كلها، كلّها على الأزندة إا يد الربان، ولم يكن في إمكان ضابط الصف أن يوجه كلمة لكلــود، رغم أن عينيه ترمقانه في اهتمام، ما يجهله كلــود ان زاوية ضئيلة بذهن هذا الضابط لاتزال مسكونة بسؤال عما إذا كان تأثير هذه الحملة العسكرية قد أنسى كلــود تفكيره في الحسناء ماري.
ففي لحظات حرب كهذه لا يمكن للمرء التفكير إلا في الذي هو فيه، لكن ما ظل يجهله ضابط الصف ان جمال ماري في غير شقرة، عذوبة كلام ماري، دلال ماري، لما تختف كلية من وجدان كلــود، صحيح ان طبيعة هذا الظرف الصعب تقاطع تدفق مشاعره نحوها، لكن تيار هذه المشاعر يهرب اليها بين الحين والاخر، يستأنس بها من بعيد، الى درجة انه تمنى لماري أن تشاطره اهتمامه الممزق بينها وبين لغز المضيق التركي الرهيب، ولكن ؟!
في هذه اللحظة أعلن عن ولوج " ريتشارد قلب الاسد " مياه الدردنيل، وكاد الجميع يهتف، يصفق، يزغرد يصلي للرب، وقد اعتقد الكثيرون أنهم أصبحوا بجوار مدينته ذات الأسماء الشاعرية المتعددة التي لم تخل مرحلة من التاريخ إلاا ورافقها اسم منها: بيزنطة / القسطنطينية / الآستانة / اسطنبول.
إيه اسطنبول كان قائد الحملة السير ايان هاملتون وحده ينظر اليها بشكل مختلف، هي لم تكن عاصمة تركيا وحدها، بل إنها رابع مدينة تنعقد حولها مشاعر القوم كلهم وهذا الشعور هو الذي دفعه الى قول مقولته الشهيرة: ((ما الذي يُمكن عمله من أجـــــــــل تمييز تركيا عن الله، لقد قمنا بالحرب مع الأتراك وليس مع إلههـــــــــــــم)) إذن فقد كانت اسطنبول تجسد أكثر من مدينة، وأكثر من دولة، وأكثر من قومية؛ كانت رمزا لأمة لا تُغرب عنها الشمس.
خلافا لمشاعر الجنرال هاملتون، أخذت فرحة الجند تتسع باتساع حركة السفن، ورغم ذلك لاتزال بارجة كلــود تصارع أمواج بحر ايجة، إذ لم تبلغ مياه الدردنيل بعد وقد أصبح أمنا كأي ممر بحري أخر في العالم ،الدردنيل الذي صار جند المؤخرة يستعجلون بوارجهم لتلامس مياهه، فتنال نصيبها من النصر وذيوع الصيت، وقد تحققا مجانا نتيجة الرعب الذي قذفـــــــــه منظر هذه الأساطيل الجبارة في نفوس حماة المضيق المفترضين، وقبل أن يستقبل الدردنيل باخرة كلــود كما استقبل بضع بواخر فرنسية ــ دخلته عقب الاسطول البريطاني ــ حدث مالم يكن في الحسبان؛ ما الذي يحدث هناك خلف فتحة المضيق على ضفة هضبة الجزيرة ، جزيرة "جاليبولي"؟!
البوارج العملاقة تتهاوى
نحو الهاوية بعنف تميـــل
الى الافق تنــــقـــــــــــذف
كليــــة تــــنــــحـــــــــــرف
تــــــشـــتـــــــــعــــــــــــل
عبثا تحاول العـــــــــــــودة
عبثا تجازف بالتـــــــــــــــقدم نحو الأمـــــــــــــــــــــــــــــــام
فكل شئ تكسوه أشلاء ورذاذ بحر وقطع كالغمـــــــــــــــــــام
مرغمة تستسلــــــــــــم البوارج تختفي تحت الزبد تحت الآكام
الجنود البحارة يحاولون مغادرتها وسط هرج ومرج، الى الماء يقذفون بأنفسهم جرحى مغمى عليهم او قتلى بعنف ينقذفون ونودي على بواخر المؤخرة أن:
ـــ توقفوا، تراجعوا؛ حقول ألغام
حقول ألغام! مقبرة ألغـــام أمامكم! الدردنيل حقل ألغام
نيران تنبعث من تحت الماء تراجعوا توقفوا .
وكان من الصعب على البواخر العملاقة أن تتراجع، او حتى ان تتوقف لطبيعة المضيق ولكثرة السفن فاستسلمت لقدرها الذي كان عبارة عن زلزال من الألغام البحرية تنفجر هنـــا وهناك، في تلك اللحظات استأنف القادة الاتراك زمام المبادرة بما اقتضاه تطوير الموقف، بعد أن أدركوا أن الاساطيل الغازية قد انتهت بحريا ولم يبق أمامها إلا اللجوء الى ما معها من قوات برية.
وبالفعل فقد غيرت البواخر المتبقية خارج المضيق اتجاهها نحو شاطئ بحر ايجة، بدل مضيق الدردنيل وبهذا الشاطئ أخذت ترسو تباعا لإجراء عملية إنزال بشكل من شأنه أن يسهل تنقل الجند الى الضفة الغربية من شبه جزيرة جاليبولي، وحين همّ كلــود بمغادرة الباخرة ودع ضابط الصف الذي لم تكن مهمته برية قائلا لــه :
ــ أرجوك تذكر وصيتي.
ثم ناوله منديلا صغيرا كان في جيبه واختفى داخل الصفوف المزدحمة التي شملتها عملية الانزال العسكري، دون أن يدري أن هذا الانزال هو الفرصة التي حان فيها دور الرماة الأتراك، وقد كانت قواتهم بالمرصاد في أقصى جاهزيتها وفق خريطة دفاعية، وضعها وأشرف على تنفيذها كل من أسعد باشا و اسماعيل جواد باشا، ووهيب باشا والمستشار العسكري الألماني اوتوليمان فون ساندرز بإشراف مصطفى كمال القائد العام الذي كان قد اختتم تلك اللقاءات المضنية بقوله :
ـــ سنعتمد المفاجأتين معا إذن.
وبالفعل فان الخطة التي توصلوا اليها جعلت القوات الغازية في موقف حرج، سيما وأن جهلها بطبيعة أرض شبه الجزيرة منعها من اتخاذ مواقع قتالية مناسبة ، بل وذهل كبار قادتها مثل الجنرال الفرنسي " جورو" والسير ايان هاملتون الانجليزي قائد مشاة البحر المتوسط، لإحكام خطة اصطياد جنودهم من طرف القوات التركية اثناء عملية الانزال هذه بصورة خاصة حيث سقط منهم الالاف، وانتهت المعركة البرية بهزيمتهم تماما كالمعركة البحرية، ليستمر البحر في إرسال أمواجه تباعا نحو شاطئ شبه الجزيرة وكأنه لا يعلم من الأمر شيئا، رغم أن تلك الأمواج كانت تلملم ما تصل اليه من مخلفات تلك المعركة.
وفور عودته الى باريس لم يقض ضابط الصف سوى يومه الاول في منزله، ثم اتجه نحو إحدى الضواحي حيث كان كلــود قد زوده بعنوان منزل يوجد هناك، ولما طرق الباب قابلته فتاة أدرك من جاذبيتها وسواد عينيها وشعرها انها الانسة ماري التي قالت ويدها على مزلاج الباب :
ـــ سيدي بماذا عساي أخدمك؟
ـــ أنا زميل كلــود.
قالها وهو يناولها المنديل كدليل إثبات، فتأملته وقد أخذت ملامحها لونا أخر غير الذي كانت عليه منذ حين وخيم على شفتيها سكون ثم انتبهت الى نفسها وقالت :
ــ وأين هو الان؟
ـــ أصيب أثناء المعركة في جاليبولي
ورددت الاسم في نوع من التحدي:
ـــ جاليبولي؟ !!العالم كله أصبح يعرفها!! جاليبولي؟!!
فقال مسرعــــــــــــــــــــــا:
ـــ إنها إنها تقع في تركيا.
وقالت في شماتـــــــــــــــة :
ـــ وهل كان علينا ان نحارب تركيا أايضا ؟!
عندها قال في شبه غضب :
ـــ هل أنت فرنسية حقا يا آنسة؟
فقالت وقد اتسعت عيناها الحوراوان في شبه زهو:
ـــ أنا مسيحية لكنني من أصول تركية، وكلــود يعرف هذا ولذلك
لم يخبرني عن وجهة الحملة العسكرية التي قادته الى بلدي
الأصلي.
ثم أضافت قبل أن تنهي اللقاء وقد غرق ضابط الصف في حيرته :
ـــ لذلك لن أسألك حتى عن مدى خطورة إصابته؟
وخُيل الى الضابط انها قذفت بالمنديل جانبا وصفقت الباب في عنف منصرفة الى الداخل.

مدينة سعيـــدة ( الجزائر ) في ربيع عام 2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى