حوار مع القاص والروائي التونسي إبراهيم الدرغوثي.. في عودة الكاتب إلى التاريخ مآرب شتى - حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

تنتمي كتابتك إلى تيار التجاوز ، فما هو تبريرك لتجاوز أساليب الحكي التقليدية؟

أعتقد أن لكل زمن تقنيات الكتابة والبوح بمكنونات النفس ، فمنذ ألف سنة أو يزيد كان الحكواتي يمارس فنه في الأسواق العمومية أو في المقاهي ، ثم لماذا نذهب بعيدا فأنا شخصيا تربيت على ايقاع الحكايات الشعبية التي كانت الجدات والخالات والعمات والجارات تحكيها لنا بأساليب غاية في التشويق ونحن نسمر في ليالي الشتاء أمام كانون براد الشاي .

وحين نعود لتقنيات الكتابة البلاغية وأساليب القص في الأدب العربي فإننا نلاحظ أن هذه الأساليب والتقنيات قد تغيرت كثيرا منذ الإطلالة الأولى على فن القصة والرواية التي وفدت على أدبنا العربي من الغرب .

إن النصوص التي كتبها الرواد والتي حاولوا فيها محاكاة القصة والرواية الغربية ما زالت إلى زمن الناس هذا تعيش بيننا وتجد لها من الأتباع والمريدين من كتاب اللغة العربية ولكنني شخصيا لا تستهويني هذه التقنيات في الكتابة لأنني منذ البدايات كنت متمردا على الساكن ومغرما بالمتحول من الأشياء، لذلك كنت وأنا أكتب نصي أرى بعين للمنجز السردي العربي التقليدي وبالعين الأخرى أبحث في المجهول والمنسي من تراثنا السردي القديم كالمقامة والخبر والحكاية والأسطورة وما شابه ذلك من منجزات الأدب العربي القديم . لأنه من الواجب علينا كأدباء أن لا نكتفي بالموجود فنسير على الطرق الممهدة وإنما يصبح من واجبنا أن نتجاوز هذه الطرق وأن نختط لنا مسالك أخرى للقادمين بعدنا من الأجيال .

في روايتك الصادرة مؤخرا " مجرد لعبة حظ " عدت إلى التاريخ لتستثير الغيبي والعجائبي ، هل مرد ذلك الصورة التاريخية التي تختلط فيها الحقيقة بالأوهام ؟

في عودة الكاتب إلى التاريخ مآرب كثيرة منها مثلا الاتكاء على شخصيات قديمة أو أحداث وقعت في الماضي ليكتب بها ومن خلالها عملا إبداعيا يخاف إن كتبه بلغة العصر وأحداثه الآنية أن يصادر أو يساء فهمه . فيلتجئ الكاتب إلى المواربة والمداورة والتلصص على الأحداث من ثقب التاريخ تارة ومن وقائع التراث أخرى وهذا راجع بالأساس إلى الخوف من سلطة المحرمات التي يعاني منها صاحب النص .

ففي روايتي " مجرد لعبة حظ " مثلا استحضرت شخصيات تاريخية لأبني بها نصي منها جميل وبثينة وأليسار وغيرهما لأن التاريخ والتراث منجم من المناجم التي يمكن للمبدع أن يستثمرهما في الكتابة أحداثا ووقائع وأساليب أيضا .

إن روايتي " مجرد لعبة حظ " تلاعب في الزمن بالزمن لأنها تنبني أساسا على قصة حب قديمة جدا . قصة حب بين بحار فينيقي وعليسة ثم تحول هذا الحب بواسطة تناسخ الأرواح بين بثينة وجميل ثم صار جميل أستاذ تاريخ في معهد ثانوي في مدينة الحمامات وبثينة تلميذة من تلامذته . وخلال هذه الصيرورة التاريخية الممتدة أكتب تاريخ المنطقة العربية بطريقة أمزج فيها بين الخيال والوقائع الحقيقية التي جدت في هذه البلاد . وبما أن الواقع وحده ما عاد قادرا على تفسير التاريخ فإنني استعرت وسائل أخرى للكتابة من وراء العقل لأفسر بها هذا المنطق العجيب الذي صار يتحكم في مصير الإنسان بصفة عامة والإنسان العربي بصفة أخص .

كيف يرتقي الكاتب الحديث بالذائقة الفنية للقارئ العادي والذي يرى الكتابات المتجاوزة ملغزة بعيدة عن فهمه وإدراكه ؟

عندما تكتب نصك تكون بين خيارين إما أن تكتبه وأنت تضع نصب عينيك قارئ هذا النص وهم قراء يختلفون حسب النوع وحسب الجنس والثقافة ونوعية التقبل و.. فتكتب حسب وصفة تحاول أن ترضي بها كل هذه الأذواق دون أن تقع فيما قد يغضب أحدهم وأن تكتب نصك على هواك أنت وكما تريد له أن يكون وهذا حسب رأيي الأنسب لأن الكتابة خلق من عدم والخلق لا يكون حسب وصفة معلومة لأنه حين ذاك يكون فاقدا للروح بلا بلا معنى أصلا لذلك يكتب الكاتب نصه ويرمي به للريح يرمي به في وجه العاصفة دون أن يخاف وما على متقبل هذا الأثر إلا أن يتعب قليلا ليستمتع بجهد المبدع وعصارة فكره . أوليس الوصول إلى نتيجة ما بعد التعب والجهد ألذ من الحصول إليها بسهولة ويسر ؟

تدنيس المقدس أمر قد يثير حفيظة البعض ، فكيف ينفصل الفن عن المعتقد في رأيك ؟

الأدب والدين والأخلاق حقول معرفة يختلف كل واحد منها على الآخر حد التنافر في بعض الأحيان ، فالأديب حسب ظني واعتقادي ليس عالم دين ولا رجل أخلاق إلا إذا أردنا أن نحول الإبداع إلى دروس في التربية والأخلاق والموعظة الحسنة والدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر ، هذا مما لا يستقيم مع النص الإبداعي لأن الإبداع من الفن والفن حرية أولا وحرية أخيرا ، كل هذا يوقع الأديب أحيانا في المحظورات إذا لامس الجنس والسياسة وخاصة الدين . الأمثلة كثيرة عن كتاب ورجال فكر تعرضوا لأقسى العقوبات الحاطة من الكرامة والتي وصلت في بعض الأحيان حد القتل في أزمنة العرب القديمة ( الحلاج والسروردي وبشار ابن برد والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي .. ) أو في العصر الحاضر ( طه حسين ونجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد ) لأننا لا نفرق حتى هذه الساعة عند الحكم على الأديب بين ما هو إبداعي وهو ما يعبر عن وجهة نظر الشخصيات التي خلقها الكاتب وهي شخصيات من ورق وبين موقف الأديب الحقيقي أي صاحب هذا النص الذي قد يختلف في أحيان كثيرة مع شخصياته .

إن الاقتراب من المقدس فقط لا تدنيسه حسب عبارتك في الإبداع العربي مازال إلى الآن محل شبهة لأننا إلى حد هذه الساعة نعيش تحت سطوة الماضي ولم نقرأ تراثنا الديني قراءة علمية كما كان الشأن في أوروبا في عصر الأنوار ( مع ديدرو ومونتسكيو وبقية الفلاسفة الذين قرأوا الدين المسيحي قراءة عقلانية تليق برجال علم وأدب ) ولذلك عندما نقترب من موضوع ديني نتحسس رقابنا ونضع الأيدي على القلوب لأن السكين التي حاولت ذبح نجيب محفوظ مازالت جاهزة للذبح والرصاصة التي قتلت فرج فودة ما زالت في فوهة المسدس .

هل الكتابة في نهاية الأمر انعكاس لما يعتمل في الذهن عن الواقع أم الواقع هو منطلق التخييل والتجريب ؟

لا يمكن لأي أديب أن يكتب من فراغ ، من لا شيء ، فالكتابة هي انعكاس للموجودات في ذهن الكاتب ولكن طريقة تأويل الواقع تختلف من واحد إلى آخر . وهكذا تتنوع مذاهب الكتابة من الواقعية الاجتماعية إلى الواقعية التصويرية ومن الواقعية الاشتراكية إلى التجريب فنيا واللاوعي وغيره من المذاهب والصراعات التي تقترب من الواقع فتحاول محاكاته أو تبتعد عنه لتعود إليه بطرق شتى يبرع كل أديب في الإمساك بطرف من أطرافها .

لمن يقرأ الأديب إبراهيم الدرغوثي ؟

قراءاتي متعددة ومتنوعة فأنا لا أكتفي بميدان واحد من ميادين الثقافة والأدب لأن زمننا هذا صار يفرض على المبدع إن كان يطمح إلى الإضافة أن يكون موسوعي التكوين . ولا غرابة في ذلك فعالم اليوم متنوع ومتفرد فرادة كبيرة تكاد لا تشبه في شيء ما عاشته الإنسانية في أزمنتها السابقة . إن التغيير يطالعك أينما وليت وجهك وسأضرب لك مثلا بعالم الأنترنات وما أدراك ما عالم الأنترنات . هناك تقرأ ما لا يخطر على بالك من نصوص كان من الممكن أن لا ترى النور لو قيض لها أن تنشر على وسائط الكتابة التقليدية . وهذا واحد من مصادر قراءاتي الآن فمن هناك يمكنك أن تطل على قصص وروايات حداثية لكتاب عرب من المشرق والمغرب . نصوص عربية أصيلة أو مترجمة لكتاب عالميين . كتابة مغرقة في التجديد لأن أصحابها على اطلاع وافر على منجزات العصر الحديث في القصة والرواية سواء مباشرة من اللغات العالمية أو بواسطة الترجمة . وهكذا أصبح في إمكاني أنا إبراهيم الدرغوثي المقيم في قرية صغيرة من قرى ولاية قفصة في الجنوب التونسي أن أقرأ للعالم أجمع وأنا قابع وراء مكتبي . كما أصبح من الممكن لك أن تنشر ما شئت من نصوص بضغطةصغيرة على زر آلي فيصبح نصك في متناول قراء لم تحلم ولو في المنام بوصولها إليهم في مشارق الأرض ومغاربها .

بعد هذه التوطئة أعود لجوهر السؤال لأقول لك أنني مغرم في الأساس بالنص العربي القديم " ألف ليلة وليلة " والمقامات وموسوعة الأغاني للإصفهاني والمدونات التاريخية القديمة وحكاية الشطار والكتب التراثية المختلفة والحكايات الشعبية والمقامات والأخبار والنوادر وكل ما يمت للتراث العربي الإسلامي بصلة . وآخر نص أنا بصدد قراءته هو رواية لكاتب مصري من جيل الستينات هو صبري موسى بعنوان " فساد الأمكنة " تنشر هذه السنة في سلسلة " عيون المعاصرة " بعدما نشر في مصر منذ سبعينات القرن الماضي . وهو نص كبير بكل المقاييس وبالتزامن معه أقرأ في كتاب " بدائع الزهور في وقائع الدهور " للعالم الشيخ محمد بن أحمد بن اياس الحنفي وفيه ذكر ما كان في بدء المخلوقات والموجودات في قص عجائبي يربك ذاته الحداثية وما جاورها .

كيف يقيم القاص والروائي ابراهيم درغوثي الأدب التونسي في سطور ؟

الأدب التونسي في هذه السنوات يمر بأزهى فتراته ولا فرق في ذلك بين القصة والرواية والشعر والنقد الأدبي والمقالة الصحفية . وأنا لست مع المتذمرين الذين يدعون عكس هذا . هؤلاء الذين لا يرضيهم " العجب ولا الصيام في رجب " . فالأدب التونسي بعد أن مر بمراحل التلمس في عهد الرواد ثم البحث عن مكان تحت الشمس زمن الستينات والسبعينات من القرن الماضي وصل الآن إلى مرحلة النضج الفني إن في الشكل أو في المضمون . ونحن في تونس نمتلك من الشعراء وكتاب السرد من نفاخر بهم الأمم الأخرى في هذه السنين الخصيبة ( وإن كنت لا أريد ذكر الأسماء حتى لا أقع في المحظور ) ، فإن العديد من كتاب تونس صاروا اليوم يحصدون الجوائز العربية ويحضون بسمعة طيبة جدا في المحافل الأدبية وتدرس نصوصهم في الجامعات مع أمهات الكتب .

شيء واحد أريد أن أنبه إليه في هذه المناسبة هو الانتباه إلى وسائل النشر الحديثة المهيمنة الآن على ساحة النشر في العلم . وهي النشر الالكتروني . فما لاحظته يدعو إلى العجب تقريبا ذلك أن هذه الساحة تكاد تخلو من الكتاب التونسيين . ومن يملك منهم موقعا على الأنترنيت قليل وقليل جدا مقارنة مع الأدباء العرب خاصة في المغرب والعراق وليبيا ومصر ومن ينشر منهم نصوصه في هذا الفضاء الحديث أقل .

إن النص التونسي مرحب به جدا في هذه الفضاءات لأنه يمتلك خصائص الحداثة والتجديد والتجريب لذلك يرغب أصحاب هذه المواقع في هذه النصوص ويبادرون بنشرها حال حصولهم عليها ، وأنا شخصيا صرت أنشر قصصي ورواياتي في أكثر من ثلاثين موقعا أدبيا على الأنترنات تمتد من المغرب إلى اليمن ومن فلسطين إلى العراق ومن أمريكا إلى السويد .

هذه إذن دعوة للأصدقاء الكتاب التونسيين للانخراط في النشر الحديث حتى نمكن نصنا من الخروج إلى العالم الأرحب .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى