رشيد سكري - المعرفة الادبية و الخطاب الادبي

بحسب المقام التداولي ، الذي يتراوح بين الشفهي و الكتابي ، تتلوَّن المعرفة الأدبيَّة. غير أنها لا بد أن تمر عبر قنوات معرفية توصل للقارئ المعارف و التجارب والصور أيضا . وفي هذا الاتجاه يظل الخطابُ وصيدا معرفيا نحو التواصل الجيد والشامل ؛ لبناء مجتمع إنسانيٍّ أساسه القيم الأخلاقيَّة والانفتاح على السُّلوك الحضاري المميز .

بالموازاة مع ذلك ، فالمعرفة الأدبيَّة لها ارتباط جامد بالنص الأدبي ، من حيث هو سلسلة من الكلمات و العبارات ، كتابية أو شفهية ، يؤلف بينها ظلال المَعانى . بما هي ـ أي المعانى ـ تشكيل و تصوير و تلحين بديعي مميز، الهدف منه تثبيت المعنى في سياق معين من جهة ؛ وإقناع المخاطب من جهة ثانية . فمن بين أهم القنوات والجسور ، التي يُشيد عليها الانسانُ صرحه التواصلي ، نجد : المعرفة البلاغيّة ، في هذا الباب ، قسيمة المعرفة الأدبيَّة . إن إبداعَ النصوصَ تجعل من الخبر و الإنشاء ركنا أساسيا في إنتاج المعارف وتداولاتها. لا سيما أن النصَّ الأدبيَّ لا يكاد يخلو من تقديم أخبار ومعارفَ جاهزةٍ مكتشفة ومستنبطة من ثناياه ، فضلا عن احتمالها الصّدق أو الكذب ، بحسب المطابقة الواقعيَّة للخبر . أما الإنشاءُ فهو استفزازٌ و خلخلة ُمعارفٍ و معانيَ المتلقي ، بل توريطه في إنتاج المعرفة الأدبيَّة نفسِها ؛ ويسعى ، في مقام آخر ، نحو التشكيك في القدرات المعرفية لدى القارئ الحصيف . لذلك أصبحت المعرفة الأدبيَّة لعبة مُخاتلة ، يتناوب في حياكتها الخبرُ والإنشاءُ .

غير أن السؤال الإبستمولوجي الذي أرَّق الباحثين هو : هل الكتابة سابقةٌ على المعرفة المطلقة ؛ أدبية أو غير أدبية ؟ في هذا المستوى تظل المعرفة القبْلية وصيدا نحو استكشاف ما ينتجه الخبرُ والإنشاءُ نفسُه من معارفَ و دلالاتٍ عن طريق البناء المعرفي . ولكي يتم حفظ وتأصيل المعارف الأدبيَّة وصَونها ، بهدف استمرارها ، ووقوفها أمام صروف وعواذي الزمن ؛ فمن الواجب ، بل من الضروري أن تكتسي المعرفة الأدبيَّة شراشيفَ بلاغية . إن استمرارية الخطاب المعرفي في وسعه الزمني رهينٌ بتوفره على مكونات ذات الصّلة بعلم البلاغة ؛ وتبعا لذلك يأتي علم البيان و الاستبانة و الوضوح والجلاء في مقدمة هذه العناصر البانية للمعرفة . فضلا عن تثبيت المعارف ، في الأذهان ، بواسطة توظيف صور خيالية ، يسوقها الخطابُ في منظوماته و مسبوكاته .

ومن جانب آخر ، فللمحسناتِ البديعيّة ، في علم البلاغة ، يدٌ طولى في صَوْن المعرفة الأدبيَّة أيضا . وذلك عن طريق خلق توازن ؛ صوتي و دلالي وتصويري ، منبعهُ الجناس والسَّجع و الطـِّباق و المقابلة و غيرها من المحسِّنات . والحالة هذه ، أضحى الخطابُ الأدبي يوظف ، بغزارة ، في النصوص الحجاجيّة و الإقناعية بُغية استمالة المتلقي وإقناعه. إن مضمونَ الخبر ، في هذا السياق المركب ، يستوجبُ المعرفة بخبايا علم الخطاب من جهة ، والإطلاع على أحوال المخاطـَب من جهة ثانية . فالطـّريقة البنائية للخبر المعرفي تراعي الحالة الذهنية للمخاطـَب ، كما هو معروف عند علماء البلاغة ، فهو قد يكون خالي الذهن أو مترددا وشاكا أو ناكرا و جاحدا ، وهو أعلى درجات الجحود والإنكار في تلقي الخبر . ونتيجة لذلك ، ما كان للخطاب إلا أن يراعي أحوال المخاطب وحالته الذهنية ؛ وهذا هو وصيد تداولي و تواصلي في الخبر المعرفي .

وتبعا لذلك ، فالخطاب هو جزء لا يتجزأ من المعرفة الأدبيَّة . جاء في لسان العرب مادة خطب : مخاطبة و مشاورة ، فضلا عن انتقال المفهوم من الصفة الشفهيّة إلى الكتابيّة مع اللسانيات الحديثة ، و السيميائيات الوظيفية ، اللذين يعود إليهما الفضلُ في توسيع مجالات توظيفه . سيما وأن الخطاب ارتبط معهما بالأثر ، الذي يحدثه في التلقي المعرفي . وفي السياق ذاته ، يعتبر تحديد موضوع الخطاب ، حسب الدارسين ، وجها آخر لتطوير المعرفة الأدبيَّة . من حيث إنها تتقاسم و الخطابَ مجموعة من الحوافز و المؤشرات ، في مقدمتها توالي فواصل الجمل في الخطاب و في المعرفة الأدبيَّة . و بناءا على ذلك يعود الفضل لهذا التوسيع الوظيفي إلى اللسانيّين هاريس و بنفنست ؛ اللذين خرجا عن نطاق الجملة ، التي تحاصر الخطابَ في شرانقَ ضيقة ، إلى مجالات أرحبَ و أوسعَ متعلقة باللغة و الثقافة والمجتمع . وبالرغم من هذه المغامرة ، التي أقدم عليها اللسانيان ، و التي أسفرت عن اندغام الخطاب بالمعرفة الأدبيَّة ، تظل هذه الأخيرة مشدودة بعُرى بلاغية وثيقة ، تجعل من الأدب يكتسب أدبيته انطلاقا من بنائه الداخلي . وعلى غرار هذا ، تفرض اللسانيات الفرنسية ذاتها من خلال تحليلات سوسير للخطاب الذي اعتمد ، في مقاربته للمعرفة الأدبيَّة ، على المعجم و الدلالة دون اللـُّجوء إلى ما هو خارج نصي .

أمّا الخطاب عند الأنجلوـ ساكسونيين ، وخصوصا مدرسة " بيرمنكام " ، يُتوَّج بالحوار الداخلي . بمعنى أن الخطابَ هو الحوارُ أو المونولوج . وفي ثنايا هذا الأخير، يسعى الخطابُ نحو الكشف عن الدلالات ووظائف الرّموز و الايقونات ، التي تبني المعرفة الأدبيَّة . إن التـَّركيزَ على الحوارِ، باعتباره أهم مكون من مكونات بناء النص المسرحي ، مؤشرٌ قويٌّ عند الأنجلوـ ساكسونيين ، على الدور الأسْنَى الذي تنهض به رسالة المسرح في بناء الثقافة الإنسانيّة عامة ؛ سيما وأنه أضحى من أهم متطلبات الحياة العصريَّة . علاوة على توظيفه واعتماده ، بشكل كبير، على الفنون الأدبيّة من : شعر و أحدوثة و قصة ورقص و غناء وموسيقى . وبمقتضى ذلك ، تأصّرت الثقافة الأدبيَّة الحديثة بالموروث الثقافي المسرحي القديم على عهد اليونان . حيث إن فن التراجيديا شق طريقه بثبات و عزم و إصرار مع مسرحية " أوديب ملكا " للشاعر اليوناني الكبير سوفوكليس ، حيث يعود إليه الفضل في ظهور الممثل الوحيد في احتفالات " الديثرُمب " . غير أن الاهتمام بالحوار كمقابل للخطاب في الثقافة الأنجلوـ ساكسونية يعتبر ، في حد ذاته ، اعترافا ضمنيا بالروابط التاريخانيّة للثقافة الأدبيّة من جهة ، وامتدادا شرعيّا لفن المسرح على عهد ويليام شكسبير في القرن السَّابع عشر الميلادي من جهة أخرى . والحالة هذه ، تظل أهم مسرحياته " روميو وجولييت " و " هامليت " وغيرها صياغة فنيّة للتـّجربة الإنسانيّة في الثقافة و الأدب على امتداد عقود من الزمن .

وبناءا عليه ، تغدو الثقافة الأدبيَّة على ارتباط كبير بالإبداع الثقافي عامة ، بل وجها آخر لمختلف تمفصلات و تمظهرات الخطاب . إن العلاقة َ، التي تؤلف بينهما ، ومهما التبست في جوهرها ، تصبح وشيجة تؤصِّر الكلمة في الحمولة الفكرية للخطاب ، بما هي ـ أي الحمولة الفكرية ـ تتلون بحسب الوظيفة التداوليَّة التي تقوم بها ، لذا أصبحنا أمام تعدد استعمالات الخطاب ؛ من الخطاب الشعري إلى الخطاب التداولي مرورا بالخطاب الديني والسياسي والفلسفي و الروائي والمسرحي و الإشهاري و صولا إلى الخطاب المقدماتي لكل الفنون الأدبيَّة . وتبعا لذلك ، فالحمولة الفكرية لا يزيغُ عنها التصوير قيد أنملة ، بل أصبح ، هذا الأخير، الخيط الناظم الذي ينسج حلقاتها في وفاق تام . إن توسيع الوظيفة البلاغية ، التي تربط بين مختلف تمظهرات الخطاب ، تعيده إلى أصله الأدبي ، ومن ثم يخلق جسورا للحوار ؛ ويكون منبعا ثرا للتواصل الإنساني الدائم .

وعلى نحو آخر ، فالتصوير فصيلٌ بلاغيٌّ بامتياز . يخلقُ لـُحمة بين معنيين للكلمة الواحدة ، بمعنى يربط ـ أي التـَّصوير ـ وشائجَ و أواصرَ بين المعنى الحقيقي و المجازي للكلمة الواحدة بغرض المشابهة والتـَّماثل ، وهذا في البلاغة الإصطلاحيَّة ؛ الخالية من شوائب العلوم الأخرى . وفي هذا المنحى ، نجد التشبيه و الاستعارة و المجاز اللغوي والكناية تستعمل كأدوات للتصوير في الفنون اللغوية . و مع ثورة الحداثة ارتأى رومان جاكبسون ، إلا أن يزرع الفتنة في سِدْرة المنتهى ، حيث وسع من مفهوم التصوير البلاغي و خصوصا الاستعارة ، باعتبارها توليف للمعنيين بغرض التماثل لا التجاور . لهذا السبب ، وضع رومان جاكبسون الثقافة الأدبيَّة بين خيارين ؛ إما أن تهيمن عليها الاستعارة ، فهي مؤشر دال على المدرسة الرومانسية و الرمزية ، التي تعتمد على مبدأي التماثل و التشابه . وإما أن يطغى عليها المجاز المرسل ، الذي يجعل من المجاورة بين المعنى الحقيقي والمجازي للكلمة أهم الأسس ، التي يتم بها بناءُ صرح الثقافة الأدبيَّة . وعلى هذا النحو تأتي المدارس الواقعية ، تقتفي أثر المجاورة بعيدة كل البعد عن الاستطرادات المجازية ، فضلا عن نقلها الواقع كما هو في الحقيقة . وهكذا ، سحب جاكبسون البساط من تحت أقدام الفنون اللغوية ، ليقذف بها في أتون الأنظمة التواصلية غير اللسانيَّة ؛ كي تنضج على نار هادئة . فما كان للرسم و السينما و الحلم و اللاشعور ، كدوالٍ فرضتها تطورات الثقافة الأدبيّة ، إلا أن تنتزع حرارة التواصل غير اللسني ، موسعة زوايا النظر وأبعاده إلى الإنسان والتاريخ والكون .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى