شهادات خاصة كاهنة عباس - الجنازة 3-3

من قتل شكري بلعيد يا ترى ؟ لا أحد يعلم وحين سألت أحد الحاضرين قال : " أعتقد أنها أيدي خارجية استغلت الظروف الصعبة التي تمربها البلاد لتبث الرعب والفوضى بيننا فأجاب مرافقه :كلا ، بل هي مليشيات النظام الحاكم.
لقد كان صوت الشهيد شكري بلعيد يزعجها كثيرا وكانت عاجزة على أن تقارعه بالحجة ، ألا تعلم أن تاريخ الصراع القائم بين الاسلاميين واليساريين يعود الى ثلاثين سنة انقضت؟ إنه صراع قديم قد لا تكون له نهاية ، فلا شيء يجمعهما؛ لا فكريا ولا سياسيا ؛ ولا أمل في أن يتلتقيا ولا في أن يتحاورا ، وما دام الامركذلك ، فالعنف هو السبيل الوحيد لفك الخلاف القائم بينهما. فأجابه مرافقه: ليس للسلطة القائمة مصلحة في ذلك لأنها باغتياله ستجعل منه بطلا ورمزا للنضال ، وهي كما تعلم ،لا تتكون من الاسلاميين فحسب ، بل من حزبين آخرين"لائكيين" فقال: لكن الاسلاميين هم من يحكم في الحقيقة البلاد ، ولا أظنهم يعيرون لمعنى البطولة ولرموزها أهمية ما ،لا أظن ذلك ، لقد أفتى بعض الائمة أن لا تقام صلاة الجنازة لشكري بلعيد، لانه كان ، حسب رأيه، شيوعيا وملحدا ولربما منع المشيعيين هذه الآونة من الدخول المسجد ، لذلك تأخرت الجنازة عن الوصول الى المقبرة، فالساعة تشيرالى الثالثة بعد الظهر. ثم ألقى نظرة خاطفة على ساعته لمعرفة التوقيت ،إذ ذاك، اقتربت منا امرأة كانت وافقة حذونا وهي تقول : الرأي عندي ،أن المسألة تتجاوزالصراع القائم بين الاسلاميين واليساريين ، لقد اغتيل شكري بلعيد في اليوم الموالي لظهوره في حصة تلفزية جمعته ببعض صحفيين ندّد خلالها بالعنف ، محذرا من خطراستفحاله ، إنهم يريدون بث الرعب فينا، حتى نصمت. ألم تبلغكما أخبارتؤكد وجود قائمة لاغتيال مجموعة من المعارضيين والصحفيين؟ ثم توجهت بالقول الى رفيقه:لابد لنا أن نواجه واقعنا بكل شجاعة وحكمة، كفانا من إلقاء المسؤولية على الشعوب الأخرى. لن ينفعنا الهروب الى الأمام ولا نفي الحقائق في شيء ، لقد عرفنا ذلك منذ نصف قرن ،لا بد لنا أن نتجاوزعقدة الاضطهاد ، فلسنا أكثرالشعوب معرفة ولا أعظمهم سلطة وقوة ، حتى يكيدوا لنا ، إنها شعوب منشغلة بابتكارالتكنولوجيا الحديثة ، منكبة ليلا نهارا لإنجاز مشاريع تكفل للأجيال القادمة العيش الكريم ، ونحن مازلنا ننقاش دورالمرأة في مجتمعنا : إن كانت مواطنة بالمعنى الكامل للكلمة أم مكملة للرجل ؟ دون أن ندرك أن جزءا كبيرا من الشعب التونسي، يعيش في حالة فقرواحتياج لا مثيل لها وأننا سنورث أبناءنا الذل والمهانة ، من من أجل هذه الخلافات.
أذكرك، يا سيدي الكريم بالعنف والتهديد الذي تعرض له الفنانون والمبدعون ، حتى كادت البلاد تحرق بعد عرض بعض اللوحات الفنية بفضاء "العبدلية" "بالمرسى" وأذكرك بالعنف الذي تعرض له بعض السياسيين ، من شتى الاتجاهات، أثناء اجتماعتهم في أكثرمن مرة وفي العديد من مناطق الجمهورية. أذكرك بمحاصرة الصحافيين والاعلاميين أمام التلفزة الوطنية وأمام مقرجريدة "الصباح". ألم يقل المرحوم شكري بلعيد: "إنهم أعداء الذكاء التونسي، أعداء الثروة الفكرية والبشرية لهذا البلد ؟" لأجل ذلك جئنا ، لنقول لهم : "كفانا عنفا ، كفنا عنفا ،لا نريد مزيدا من الدماء ،لا نريد مزيدا من الدماء، كفى ، كفى تجبّرا وسطوا وتعنّتا وكبرياء ، كفى، كفى ، وكان صوتها مشحونا بالغضب والانفعال حتى سالت دموعها وهي تتمتم: "أرجوأن لا يذهب دم الشهيد سدى وأن يقبض على قاتله وأن لا تسيل دماء أخرى" ثم انسحبت ، بعد أن لاذ محاوروها بالصمت .
وعاد الهتاف يشقّ سماء المقبرة:" خبزوماء والنهضة لا ، يا بلعيد يا حشاد النهضة باعت البلاد..... يا بلعيد يا حشاد...... النهضة باعت البلاد."
ثم اتجهت جميع الانظارالى أسفل الساحة ، فانطلقت بعض الزغاريد تملا فضاء المقبرة وتعالى هتاف الحاضرين "لا اله الا الله والشهيد حبيب الله" ...."لا الله الا الله والشهيد حبيب الله"، فإذا بمجموعة من الرجال يحملون نعش الشهيد على الاكتاف ويشقون به جموع الناس ثم يصعدون بالنعش الى قمة الساحة، لبلوغ مقبرة الشهداء، بعضهم حمله على الاكتاف وبعضهم الاخرأمسك حاشيته بكلتا يديه، تجنبا لانحداره عند الصعود .
كنت أنظراليه مليا، بعد طول الانتظار، وهويشق جموع الناس ليبلغ أعلى الساحة، حتى رأيته يستوي أفقيا ، ليلامس أوراق شجرة مغروسة على قمتها، بعد أن اختفت عن الانظارجميع الرؤوس والايدي التي كانت ترفعه عاليا ، حينئذ لمحت النعش ينتصب كي يحتل رقعة صغيرة تفصل الشجرعن السماء ثم يصعد ...يصعد ....فيتدحرج زهره ولحافه الأحمر كي تمسك به الأيادي المحفوفة به بينما كان يتقدم الى مقبرة الشهداء ، الى التراب ، الى القبر، ترافقه زغاريد النسوة وتودعه الجماهيرالغفيرة المحيطة به من كل جهة وجانب في أجواء شبيهة بمظاهرة عمّها الغضب والحزن ونشوة الانتصار، هكذا كان وداع الموت الذي بعث بيننا، وداع تلاه لقاؤنا بروح شكري بلعيد هي تجمعنا.
غادرت المقبرة ، وقد أدركت أني شهدت أروع معجزات هذا البلد : رغبتنا الجامحة في أن يعمّ السلام بيننا ، رغم الغضب والسخط؛ ورغم الحزن ولوعة الفراق؛ورغم الثورة؛ ورغم الظلم؛ ورغم الدم الذي سال قتلا ، أن يعمّ السلام بيننا حقنا لدماء أخرى ،أن نتغلب على العنف ،على الخطرالمحدق بنا، أن يعم السلام بيننا دون أن يكون استسلاما ، فيجمع شملنا في صوت واحد، كيان واحد ، جسد واحد ، أن يعم السلام بيننا ، وفاء لوصية شكري بلعيد ، في أن لا تنطفىء روح هذا البلد وذاكرته وكيانه، أن لا تنطفىء أبدا شعلة ذكاء شعبه ،هكذا شيّعت جنازة الموت وشهدت مأتمه في ذلك اليوم الحزين العظيم ، فليس الموت هو من يقتل بل النسيان ........

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى