شهادات خاصة محمد الصالحي - محمد ابزيكا.. رداءة أحوال الشخص

هذا الرجل الذي تساوت اليوم أمامه الأزمنة والأمكنة، والألوان والوجوه والذي اسمه محمد ابزيكا كان ذات يوم كاتبا قوة وفعلا. هذا الرجل الآن طريح سهو فتاك.
وهو، أي هذا الرجل الذي اسمه محمد ابزيكا، مفرد بصيغة جمع يدرك نفسه كجمع لا يحمل من همّة الجمع إلا ما لا يرتضيه أيّ جمعٍ لنفسه: الركون إلى النسيان وتسييج الذاكرة بأوهامٍ سافرةٍ. وهذا الرجل نفسه، عنوان ناصع لدرس مفيد، فليغترف من شاء الاغتراف من الدّرس المُفيد: كل ابتهاج بجُملة راقِصة ابتهاج كاذب، وأقصى ما يُمكِن للكاتب اقترافه قبرٌ آمنٌ تحت شمس الله الرائعة.
كنّا تلامذة داخليين بثانوية يوسف ابن تاشفين بأكادير، في ذلك الزّمن المُوغِل في العصيان والتأبي. ثلة من الممسوسين بحرقة شيء أكبر منّا جميعا وأقوى من أقوانا قوّة وحلما. شيء سمّيناه توطؤا: الإبداع والكتابة. كنّا ثلّة من الحالِمِين المُسَرنَمين الذاهبين بعيدا في لعبة الحُلم والسّرنَمة. وكنّا نبهَج لكل طارئٍ يزيد حُلمنا اشتعالاً: ديوان شعر مثلا، انفجارُ قُنبلةٍ في خلاءٍ بعيدٍ...
وكان محمد ابزيكا شجرة زادت ظلالها حُرقتنا اشتعالاً، وحاولنا تسلق أغصانها لنرى إلى أبعد من أنوفنا.
مُهتزّاً في سَيرِه. أميل ما يكون إلى القصر. ذو نظرة نضرة، وأناقته ظاهرة. وكنت ترى إليه، سائراً، جالساً، منصتاً، أو متكلماً كأنه يلملم أشلاء شيء ما. وهو يدرك، في آن، أنه منذورٌ للمستحيل. لكنه يحتمي بالعناد الجسور. كمن يرتق فتوق الرّمل بخيط النشيد.
كنت أذهب إلى درسِه، فارّاً من دروسٍ أخرى. لم يكن وقتي يندلق إلا من جهات يقودني الخطو إليها. وكنت لا أدرك مغزى زلّة الخطو إلا إذا الخطو وصل. إذ لا شيء يدفئ القلب غير عويل شاعرٍ في قصيدةٍ. وكان محمد ابزيكا يجعلنا نسمع الأنين الهاجِع في القصيدة. كانت تلك الحُجرة، منزوية، معزولة عن بقية البناية. وكنت ترى منها إلى الشمس وهي تغرب، شمس كسولة ثكلى، تجرُّ خيبة مريرة، وحولها احمرارٌ مُريب ومُقرف. ثم سرعان ما يخطف بصرك شرود ما. ثم سرعان ما تعود إلى الدّرس. ولم يكن درس محمد ابزيكا مدرسيا أبدا.
يدخل في كامل أناقته القاعة. يَضع الحقيبة الجلد أمامه، يفتحها بإتقانٍ. يجيل بصره قليلا، ونحن إليه شاخصون بكل انتباه الانتباه. هو الذي علّمنا أن الكتابة مجرّد وليمة تقيمها النّفس لنفسها عند كل منعرجٍ. وأن ما نسمعُه. ونحن نلِج عوالم الكتابة. مجرّد وشوشاتٍ رَخوة لجنود سفلةٍ يفتعلون حرباً في الظلام. وهو أقنعنا أن الوزنَ ليس ضرورياً في الشعر، وأن هناك إيقاعاً دلالياً أقوى وأكبر.
كنّا نملأ كل بياض نصادفه بدندنات ثم نذهب بها إليه. حتى إنه دعانا، وكنّا ثلاثة، إلى أمسيةٍ شعريةٍ قدّم لها هو نفسه. أذكر الحلم ذاك، وأذكركم كان لذيذاً ذلك الحُلم. كأنما كنت أقول للمستحيل اهجع ثم يهجع المستحيل.
جَلست إلى جانبه خلال الأمسية. ثم طفِقَ يقول عنّا كلاماً، من فرط دهشتنا أخجلنا، وكاد يُبكينا. قال إنَّنا واعدون. ولربما. ثم قرأنا شعراً. وشددنا إليه الانتباه. كادت دقات قلبي تُسمَع عن بعدٍ. أساتذة. تلميذات. أصدقاء. أعدقاء.
قلت في نفسي: ربّما. وكنتُ قبل كل ذلك قد منحته مجموعةً من القصائد طالبا منه إبداءَ رأيه فيها. أعادها إليَّ في غضون أيَّامٍ، مذيلة بملاحظات بخطٍّ جميلٍ.بلون أخضر.
أذكرُ من ملاحظاته تلك أن تخطّي سياج الأخلاق لا يقود الشاعر ضرورةً إلى مستنبت الشّعر. وأن حضور المرأة، جسداً، وعشقاً، ليس ضرورياً حتّى تسمو القصيدة. وأن على الشاعر أن يخبط خبْطَ عشواء إلى أن يتلقّفه جنّيٌّ ذو قرنين ناريتين. ثم يكون الذي يكون.
نتحلّق تحت الشجر الباسق، وسط المؤسسة، ونضرب الأخماس في الأسداس، واضعين ملاحظات الأستاذ تحت مجهرِ العنفوان المتطاير، شرراً، من أفئدتنا. فيذهب بنا التأويل والاجتهاد بعيدا.
ومحمد ابزيكا هو الذي فتّح أعيننا على مجلاّت مثل مَواقِفَ والآدابَ. ووَجَّهنا إلى قراءة كتُبٍ من طينة الثَّالوث المُحرّم، ونقد الفكر الديني، والإيديولوجيا العربية المعاصرة. منه سمعنا لأول مرة كلمات رنّانة مثل «الإيديولوجيا، والسيميائيات، والسيميولوجيا. بفضلِه قرأنا «الثابت والمتحول»، وكل دواوين الشعر العربي الحديث تقريباً. هو الذي حبّبَ إلينا الثقافة الشعبية، وكان، يومها، واحداً من الباحثين البارزين فيها: كنّا نتحلّق، ليلاً، في قاعة المراجعة. في غفلة عن أعين الحراسة، لنقرأ ما كتبه عن الكنبري. وكذا مداخلته في ندوة الثقافة الشعبية التي نظمها اتحاد كتاب المغرب بالرباط. وسَرَّنا أنه كان جالساً إلى جانب عبدالكبير الخطيبي، وبلهفةٍ لافتة قرأنا بحثه لنيل الإجازة عن ظاهرة الشيخ إمَام و أحمد فؤاد نجم. وكان لمحاضراته الوقع الشديد علينا. خاصة عرضه عن الشعر العربي الحديث بمطعم الداخلية حيث تحلقنا حوله. كان الوقت ليلاً. حدّثنا عن الإيقاع، والرَّمز، والأسطورة، واللغة والتفعيلة، وسيزيف، وبروميثيوس. قرأ علينا من مفرد بصيغة الجمع. ثم حدّثنا عن بحثه لنيل دبلوم الدراسات العليا حول أدونيس. كبرت صورته أكثر في أعيننا.
أقولُ صَحا زَمَنُ. أقول هَجَع. هذا الرَّجل الآن، طريح نُكرانٍ مُدهِشٍ. أَلأَنَّ الكاتب حيوانٌ غريبٌ ينهَشُ فؤادَه في نهاية الجولَة الخاسرة؟ ها هي ذي الوقائع بأسنان قاطعة، وبأعين تسِيلُ هَلَعا، تصيح. ها هي ذي. من يجرؤ، بعد اليوم، أن يقول عكس ما يَصدح به نُثَارُ الحُلُمِ.
وأذكُر. كنتُ كلما اشتَعل القلبُ، واسودّتِ الخُطوط، وتَنمَّر في الدَّواخلِ نداء مزٌّ، أقصِد جهة آمنة. أَنسلُّ من بابِ الثَّانوية، ملفوفاً في رومانسية عَذبة معذبةَ لذيذة. استمرئ الذي أنا فيه. وأقول يا هادي الحَيارى ما ألذَّها حيرة وما أروع هذا الذي يَلهو بي. أميلُ جهة اليمين، حيث فراغ ضاج بِسِرٍّ ينعشني ولا أسعى إلى فهمه. فيلاّت أنيقة. أزهار. طيور. أوراق شجرٍ تحرِّكها برفق حنون ريح أسيانة. أضيع من غير هُدى. تُجادل نفسِي نفسِي. ثُم أحرِّك لسانِي بكلامٍ، وما همّني، أبدا، أن أفهم ذلك الكلام.
في ذلك الخِضَمِّ، صَافَحْتُ، الأستاذَ أوَّلَ مرَّةٍ، أذكُر لمحته قادِماً مِن جهةٍ مُقابلةٍ. بالخُطى ذاتها. بالعنفوان ذاته. بالحَيرة ذاتها أيضاً. تبادلنا النظر. مرّ الواحد منا.والآخر. من غير كلامٍ. توقفتُ واستدرت قائلاً: أستاذ !
توقّف وخطا نحوي بكثيرٍ من التأنِّي، تصافَحنا ثم كان حوار ضئيل.
أَقُولُ صَحا زَمَنُ. أَقُولُ هَجَعْ.
أَذكُرُ. ذات ظَهيرةٍ امتطى فيها الشّوق ظِلاله. كنتُ أقطع المسافةَ الفاصلةَ بين المَرقد والسَّاحة في تثاقل. مأخوذاً بالغُموضِ الشَّفّاف الذي يُسَربل الظهيرة، إذ لمحت عيني إعلاناً على السبورةِ الصغيرةِ المتآكلةِ عند مدرّج الأقسام. على مقربةٍ من القاعة 13. في ركنية يمكنك منها أن تسترق النّظر إلى فتياتٍ شبه عاريات بحَلمات بارزةٍ وأفخاذٍ صقيلةٍ وحيويةٍ محيرةٍ يرقُصن، لاعباتٍ في صخبٍ وصياحٍ.
يوقظك صَخَبُهن وصِياحهن من شرودك وتتقدم قائلاً لنفسك: وليكن .! أقول لمحت عيني إعلاناً فدنوت فقرأت أنني عضو في اللجنة الثقافية إلى جانب فلان وفلان ومحمد ابزيكا... ! لفَّني ما يشبه القشعريرة.
سيكون، إذن، بإمكاني أن أجالس الأستاذ وأطارحه الرأي قائلاً له مثلا:
هذا النص صالح للنشرِ، وذاك لا يصلح. يَبدو لي، يا أستاذ، أن هذا النص في حاجة إلى مراجعةٍ. وأن ذاك لا ينال من كون صاحبِه واعداً !. يُشعِل الأستاذ سيجارةً ويأخذ نفساً. يحدِّق في ثم يقول لي: تواضع قليلاً ! ثم لا يقول لي الأستاذ ذلك، بل يحرِّك رأسه بالموافقة. أفرح. وأفرح. سيكون، إذن، بإمكاني أن أطلبه متى شئت لأسلمه أوراقاً وأحاوره حول المجلة المدرسية والأنشطة الثقافية والمسابقات. كأن أذهب إليه، مثلاً، وهو في قاعة الأساتذة، أستدرجه إلى الساحة حتى يتأكد الآخرون من شساعة المسافة بين أحلامي وعثراتهم. وَليقُولُوا لبعضهم: ممسوس يَرعى وَهْماً ويَذود عن خَسارةٍ. ليقولوا في أنفسهم: أية جرأةٍ ! رَسَمَ طريقاً فأخذ يدحرِج فيها حُلُماً !
لم يكن شيء من كل هذا. وما اجتمعت اللجنة الثقافية قطُّ. لكن الذكرى تلك، ظلت عالقة بالذاكرة. كأنما كان كل ذلك الذي دار في الخاطِر لحظةَ قراءةِ الإعلان.
كان الطّموح يرمي حصاة في بركة الوقت، فراح يتأمل الدوائر في نشوة. ورحت أتأمل صنِيع الطموح. كانت تلك سنة البكالوريا. وبدت لنا البكالوريا حاجزاً ما إن نقطعه حتى تتفتّق الأحلام. لست ترانا إلا ذاهبين آيبين، حائرين، متأبطين وَهْماً وأوراقاً وكُتُباً.
خلال أمَاسِي النادِي السينمائي.الجمعة مساء. نبرح الثانوية عمدا، قبلَ الأوان. زرافات ووحدانا. نمرَح في الشوارع الفسيحة المجاورة لسينما ريالطو. نقِف طويلاً عند واجهات المكتبات. نًضِيفُ عناوِين لأُخرى. نقترِف أحاديث. نُؤْخَذُ بأناقةِ المكانِ، شجيراتٌ مُنمنمة تحرك أوراقها برفقِ حنون ريحٌ خفيفةٌ تكاد تقطر حياءً. النادي السينمائي 2000 الذي انخرطنا فيه لدواعي عدّة. كان وجود محمد ابزيكا على رأس مكتبه كافيا لفعل ذلك. لكن أيضاً، وأيضا لأنه المكان الذي قال لحلمنا أن يكبُر فكَبر حلمنا. كان الانخراط في النادي كافياً لهدم الجدار السّميك الفاصل بين الوهمِ والحقيقةِ. ألا ترى أنّنا نكاتف أساتذتنا ونُناقشهم مناقشة الندِّ للنِّد. ألا ترى الأجساد البضّة التي طالما صَعرت خدّها تسمَع، رغما عنها، تحليلاتنا لفيلم الليلة. نعم. هكذا. صَار للوهمِ كوّة. ثم ما لبثت أن اتسعت تلك الكوة.
أذكر. بعَيد نهاية الفيلم. ينسَلّ ابزيكا من بين الصّفوف ويقف على مقرُبة. ثم يُراوح الذهاب والمجيء متحدّثاً عن تقنيات الشّريط. مُقارناً بين مدارسَ سينمائية ومؤوّلاً الأحداث بما يستدعيه منطق تلك الأيام: فاليدُ في «ألف يد ويد» ليسَت سوى يد السُّلطة التي تغلِبُ، بالضرورة، يد الجموع، رغم كونها ألفاً. نعود إلى الثانوية مُسَربلين بلذاذة التأويلِ.
كان الزّمن زمن الديالكتيك، ولم تزحف بعدُ بلادَةُ الدّيدكتيك. فَتَّح محمد ابزيكا أعيننا على كنزٍ عجيبٍ اسمه الثّقافة الشعبية. حبّب إلينا تلك التمظهرات الاجتماعية- الثقافية التي نمر بها مرور الكرام. الوشم - الزربية - الفولكلور-الخرافة. وتتبّعنا بشغفٍ حلقات برنامجه الأسبوعي من الإذاعة الجهوية لأكادير.الاثنين صباحاً. كنَّا نضَعُ جانباً كلّ التزام لنحضن كلام الأستاذ.
أذكر أن الذي استهواني أكثر هو انتقاد محمد ابزيكا للمفهوم النخبوي للثقافة الشعبية. كان يقول لنا، مثلاً، متسائلاً ومُحتجا: لماذا تلصق صفة العلمية ببعض الحواضر دون غيرها؟ فهل وارزازات وتيزنيت والصويرة ووجدة... مدنٌ جاهلةٌ؟ نَفْرَحُ ونَفْرحُ. سقى اللهُ تِلك الأيام.
جِئنا مُرّاكش. فانتقلنا بين منازل فيها كأننا بَدوٌ رحَّلٌ. انخرطنا في تأثيث أوهامٍ. صُوَر على الجدران. كؤوس للويسكي. أسِرَّة لجسدين اثنين، روايات وأشعار من كل جنس. مشاكسات لبنات الثانويات المجاورة. الثرثرات في مقصف الكلية. رهانات خاسرة. مكائد. خصومات من الوزن الثقيل. أضواء حمراء وخضراء لليالٍ لن تأتي أبدا. كتابات موغلة في الصراخ والحداثة. التفكير في النشر. فقر وجوع. مظاهرات. شعارات. صدامات. صور غيفارا على الجدران. رومانسيات لذيذة. صور للذكرى. انشقاقاتٌ، عشقٌ وجنسٌ... ثم لفّنا جميعا برج الإجازة. سلاما يا مواليد برج الإجازة سلاماً. أذكر. كنت ذات صباح أُرَوِّضُ القلب بين دهاليزِ الكلية محفُوفاً بالنّدى وطلاوة الوقت الجليل. أذكر. ما همّني الآن أن أعرف لأي عِلّة كُنتُ هُناك. لو استطعت لأخذت الزّمن في نزهة، لأختلي بالزّمَنِ في نُزهة وأقول له: عدْ إلى ما كنت عليه يا زَمَنُ. فأعود إلى ذلك الزمن، هَيْهاتَ هَيْهَاتَ. أمرق كالريشة في مهبّ الوقتِ، ملتفتاً ذات اليمين وذات الشمال، والهوس باسطٌ ذراعَيه بالوصِيدِ. فجأة! ها من يخبرني بوصول رسالةٍ من محمد ابزيكا. أدلف جهة مكتب الرسائل، فأنقرُ على البابِ نقراتٍ خفيفةٍ وأَفْتَحُهُ بِلِينٍ وزهوٍ قائلاً لفتاة بجلباب: الصالحي من فضلك! تمدّ يدا بخاتم في البنصر، وآخر في السبابة، تقلّب رسائل، ثم ترفع رأسها، قليلا، من غير استعجال، فتسألني بصوت بالكاد يُسمع: محمد الصالحي! فأقول نعم. أسحب الرسالة من بين أناملها بغصَّة في القلب وانكسار في النّظر. قلت لنفسي: إن هي إلا مكائد تُحاك، وأيامك تميمة ينطحها ثور هائج.
بخط رقيق مستقيم جميل كتب اسمي. هزّني أنه كتب تحت اسمي (القسم العربي) بدل شعبة الأدب العربي الثقيلة على السّمع. أيُّ إتقانٍ. أية شاعِريةٍ. لم أدرِ كيف وجدت نفسي تحت شجيرة الليمون التي تظلل بوابة المنزل بزنقة ابن قتادة. فَضَضْتُ المظرُوفَ بأنامِلَ فَرِحَةٍ ونَظرَة راعِشةٍ. بدأ محمد ابزيكا رسالته بالسّلام عليَّ وعلى جميع الرّفاق. ثم قارن بين مُرَّاكش وأكادير ببلاغةٍ مُدهشةٍ، ثم نبّهني إلى كون اللذاذة أهم من الحب وأبقى. وقال لي اكتب فالمغرب في حاجة إلى ألفِ زهرةٍ وزهرةٍ، وهو، كموضوع للكتابةِ، بِكْراً لا يَزالُ.
ضَغَطْتُ على أطرافِ الرّسالة بأنامل من حديد. شرد ذهني طويلاً. أقول أخذتني سنة !. كأني أقول له الآن شكرا. أراني أمدّ يدي وأربت على كتفه بحُنوّ. يرفع عينيه ناظرا إلى السّقف. ثم حواليه. قبل أن تمسح نظرته وجهي. ثم يطرق من جديد.
أراني أقِفُ على مَهَلٍ. ثم لا أنصَرِف. أجلس إليه من جديد.
أنا الآن في حضرته. أسأله فلا يُجيب. لا يُبالي. ما همّه الحضور. ما همّه الغياب. يبتسِم. ثم يبتسِم. يقرأُ مطلع قصيدة عبيد بن الأبرص
أَقْفَرَ مِن أَهْلِهِ مَلْحُوبُ، فالقطبيات فالذنوب.
ثم منها إلى الشَّنفرَى، فطرفة ثم من الجاهلي إلى العبّاسي، إلى الحديث، ذهاباً وإيّاباً. من غير ترتيب.
يُغمِض عينَيه. يَقرَأ. ويَقرَأ. يصمُتُ فجأةً قائلاً هل أنت فلان، وما أن أهُمّ بفتح فمي بالكلامِ حتى يشرع في القراءة من جديد. يقرأ ويقرأ.
ما همّه الجَواب. فَرح هو وفِي غِنى.
محمد ابزيكا. كان لله لك. كان لله لي.


* رَحَلَ محمد ابزيكا عن دُنيَانا يَوم الجمعة 8 فبراير 2014. وقَد كُتِبَ المَقَالُ قَبْلَ رَحِيلهِ.



* الاتحاد الاشتراكي يوم 30 - 05 - 2014

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى