جابر عصفور - ذكريات يوسف إدريس..

لم أقترب من يوسف إدريس إلا فى أواخر السبعينيات. ‬وكان السبب فى ذلك هو حرصى على الابتعاد عن العلاقة الشخصية بالأدباء، ‬توهمًا أن ذلك - ‬يجعلنى محايدًا فى الكتابة عنهم. وأحسبنى أدين لصديقى أمل دنقل (1940- 1983) بانقشاع هذا الوهم، ‬والتخلى عنه إلى الأبد، ‬خصوصًا بعد أن أدركت أن الصداقة لا تحول دون الموضوعية، ‬وأن سلامة المنهج كأمانة الكتابة وصدق الممارسة تنجى من مزالق المجاملة. ‬وقد دفعنى أمل دنقل إلى معرفة يوسف إدريس الذى كانت تربطه به صداقة عميقة، ‬قائمة على الاحترام المتبادل والمودة الخالصة وأوجه التشابه بين شخصيتين تنطوى كل منهما على النزعة الحدِّية نفسها، ‬وعلى تَلهُّب التمرد المتصل، ‬وعلى القلق الإبداعى الذى لا يكف عن التوهج كأنه الوجه الآخر من شعلة الرفض التى لا تترك مُسلَّمة أو فكرة أو مبدأ إلا وامتدت إليه بِلهبها.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وكان اقترابى من يوسف إدريس مع أمل بعد عودتى من الولايات المتحدة، ‬حيث عملت أستاذًا زائرًا فى إحدى جامعاتها، ‬وأتاحت لى الإقامة بها معرفة التيارات الجديدة من الكتابة القصصية فى العالم كله، ‬خصوصًا تيار "‬الواقعية السحرية" ‬الذى ‬قدمته إبداعات أمريكا اللاتينية، ‬وأبرزته كتابات جابرييل جارثيا ماركيز المولود سنة 8291، ‬وعلى رأسها رائعته "مائة عام من العزلة" ‬التى صدرت سنة 7691، ‬فجلبت لصاحبها الشهرة التى انتهت بصاحبها إلى الحصول على جائزة نوبل سنة 1982، ‬قبل حصول نجيب عليها بست سنوات فحسب. ‬وأذكر أننى قرأت الترجمة الإنجليزية للرواية أكثر من مرة، ‬وعدت بها مع ما عدت به من كتب، ‬وأعطيتها لزميلى سليمان العطار، ‬دافعًا إياه إلى ترجمتها إلى العربية عن اللغة الإسبانية التى يتقنها، ‬ونجحت بعد سنوات قليلة فى دفعه إلى إكمال الترجمة التى نشرتها هيئة الكتاب فى القاهرة.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وكان من الطبيعى أن تمتد المناقشة مع يوسف إدريس حول "‬مائة عام من العزلة" ‬وحول تيار "‬الواقعية السحرية". ‬وهو التيار الذى ‬لا أزال أرى فيه محاولة موازية لمحاولة يوسف إدريس خلق كتابة وطنية أو قومية، ‬تحمل ملامح هويتها الثقافية الخاصة، ‬وتجسِّد خصوصيتها المحلية دون أن تتنكر قط للموروث العالمى والتيارات المعاصرة التى لابد أن ينفتح عليها الكاتب، ‬ولا يكف عن الإفادة منها أو التفاعل معها، ‬وإلا انغلق على نفسه، ‬وضاعت أصالته الإبداعية فى المدارات المغلقة للتقوقع فى صَدَفة الذات.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وما أكثر الحوارات التى دارت بين جماعتنا ويوسف إدريس، ‬على امتداد ليل القاهرة التى لا تظهر فِتْنَتُها إلا بعد منتصف الليل، ‬ومع احتدام النقاش الذى لم يكن يخلو من عتاب ليوسف إدريس على ما رآه بعضنا تكاسلًا منه فى مجال الحفر فى طبقات الوعى المعتمة للذات والجماعة، ‬والمضى بعيدًا فى أجواء التجريب التى اندفعت إليها كتابات إدوار الخراط، ‬فأغوت البعض باتباعه، ‬بعيدًا عن أفق يوسف إدريس الذى وصفه إدوار الخراط - ‬ذات مرة، ‬ظلمًا - ‬بأنه أفق "الموهبة الحوشية". ‬ولا أزال أذكر جلسة عاصفة، ‬فى بيت سامى خشبة، ‬جمعت بين يوسف إدريس وإدوار الخراط، ‬فكان نقاشهما حول التجريب مجلى آخر من مجالى صراع "الإخوة الأعداء"- ‬إذا استخدمنا عبارة كازنتازاكس الشهيرة. ‬ومن المؤكد أن مثل هذه المناقشات أسهمت فى رفع درجة التوهج داخل يوسف إدريس، ‬فمضى فى كتابة تتلهب بالجسارة، ‬مقاومًا ما أنهكه من عادات صحية ضارة، ‬وما انغمس فيه من معارك سياسية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وقد ازداد اقترابى من يوسف إدريس حميمية إلى أبعد حد بفضل السياسة. ‬وكان ذلك فى شهر سبتمبر سنة 1981‬، ‬حين قام الرئيس محمد أنور السادات بطرد أكثر من ستين أستاذًا من الجامعات المصرية، ‬وكنت واحدًا من هؤلاء الذين اقتصر العقاب على طردهم، ‬ولم يودعوا السجن بتهم زائفة كما حدث مع أقران لهم. ‬وكانت حُجة السادات (المُعلنة) لطردنا من الجامعة هى اتهامنا بالعمل على تقويض الوحدة الوطنية، ‬بينما كانت تهمتنا الحقيقية أننا كنا ضد شكل الصلح الذى انتهى إليه مع إسرائيل، ‬والذى أدّى إلى التفريط فى الحقوق العربية، ‬والمذابح الإسرائيلية التى لا تزال تحدث فى أرض فلسطين. ‬وقد أرتنا أزمة الطرد من الجامعة الكثير من صغار نفوس بعض زملائنا الذين أنستهم الغيرة إنسانيتهم، ‬كما أرتنا ما انتهى إليه جُبن الذين أنكروا صلتهم بنا، ‬خشيةً وجبنًا وتُقية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولكن يوسف إدريس الذى لم أكن صديقه بالمعنى الحميم، ‬فى ذلك الوقت، ‬فاجأنى بسلوكه ومواقفه، ‬فلم يكن يكف عن الاتصال بى، ‬والاطمئنان على أحوالى وأحوال أصدقائى المطرودين من الجامعة. ‬وما أكثر ما كانت تنتابه نوبات الكرم الشرقاوى - ‬نسبة إلى محافظته، ‬محافظة الشرقية المشهورة بالكرم- ‬وكنت أداعبه بسبب هذه النوبات بتذكيره بقصته "‬تحويد العروسة" ‬القديمة. ‬وكان يرد على مداعباتى بالضحك المقرون بالإلحاح على دعوتى لزيارته فى مبنى جريدة "الأهرام" ‬وتناول الغذاء معه، ‬كما لو كان يريد أن يعلن للجميع مساندته لكل الذين فصلهم السادات من الجامعة. ‬وبقدر ما كنت أعتذر له عن قبول دعوة الذهاب للغذاء معه فى الأهرام، ‬تحرجًا وتجنبًا لإحراجه، ‬كان يحث أمل دنقل على جرِّى جرًّا إلى جريدة "‬الأهرام". ‬وعندما يئس من ذهابى إليه جاء هو إلى منزلى، ‬وتعوَّدنا السهر إلى الصباح، ‬تطرز ليالينا مناقشات رائعة حول كل شيء، ‬وقصائد أمل دنقل التى سرعان ما لحقت بها قصائد أحمد عبدالمعطى حجازى الذى أتى فى زيارة إلى القاهرة من منفاه الباريسى فى تلك الأيام البعيدة.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولم يتوقف يوسف إدريس عن السؤال والاهتمام، ‬والتأييد والدعم، ‬ولم أكن قد كتبت كلمة واحدة عنه، ‬وظل على كرم خُلقه إلى أن ذهبت إلى السويد لكى أعمل أستاذًا زائرًا فى جامعة استوكهولم. ‬وهناك سعدت بمعرفة أن يوسف إدريس أحد المرشحين لجائزة نوبل، ‬وأن القِسم الذى أعمل به هو الذى قام بترشيحه لهذه الجائزة، ‬بعد أن سبق له ترشيح نجيب محفوظ الذى كانت الجائزة الكبرى من نصيبه فى النهاية. ‬وربما أكون قد ارتكبت خطأ ‬غير مقصود بإبلاغ ‬يوسف إدريس ذلك بعد عودتى من السويد وانتهاء عهد السادات، ‬وإلغاء مبارك لما اتخذه السادات من إجراءات مُتعسفة ظالمة، ‬ساعيًا - ‬أى الرئيس الأسبق مبارك - ‬إلى تضميد الجروح وإعادة الوفاق الوطنى. ‬ويبدو أن يوسف إدريس فهم مما نقلته له، ‬وما أكَّده له الصديق عطية عامر الذى كان رئيس قسم اللغة العربية آنذاك فى جامعة استوكهولم لسنوات عديدة، ‬أنه المرشح الوحيد، ‬وأن الجائزة من نصيبه وحده ولم ‬يكن الأمر كذلك للأسف. ‬ولذلك جاءت استجابته إلى حصول نجيب محفوظ على الجائزة سنة 1988 ‬حادة، ‬عنيفة، ‬فصدرت عنه تصريحات انفعالية ما كان ينبغى أن تصدر عنه، ‬فحصول نجيب على الجائزة تكريم لكل الكُتّاب العرب بوجه عام، ‬وأقرانه المصريين بوجه خاص. ‬ولحسن الحظ، ‬كان نجيب محفوظ سمحًا - ‬كعادته الدائمة - ‬فى استجابته إلى انفعالية يوسف إدريس، ‬فانتهى الأمر بسلام، ‬وسرعان ما هدأ يوسف إدريس، ‬وتقبَّل ما حدث فى النهاية بروح صافية، ‬لم تتعكر كثيرًا بمشاعر الغيرة الإنسانية رغم عنفها الذى زاد عن حَدِّه.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬، وكنت أعرف حدة شعور يوسف إدريس بذاته وسرعة انفعاله وسهولة انفجاره نتيجة علاقتى به وتجاربى معه. ‬ولا أزال أذكر ما حدث بعد عودتى من السويد إلى عملى فى مجلة "فصول"‬، ‬واستعدادنا فى المجلة لإصدار عدد عن "‬القصة القصيرة - ‬اتجاهاتها وقضاياها". ‬وقد صدر العدد بالفعل فى سبتمبر سنة 1982، ‬وكنت قد طلبت من أستاذى الدكتور عبدالمحسن بدر ومن الصديق صبرى حافظ أن يكتبا عن القصة القصيرة عند يوسف إدريس، ‬وهى معجزته الإبداعية الأولى. ‬لكن مشاغل عرضت للاثنين، ‬فلم يكتبا الدراستين اللتين اتفقنا عليهما، ‬واللتين كانتا ضمن التخطيط الذى وضعتُه للعدد. ‬ولم يكن من المعقول أن يصدر عدد عن القصة القصيرة وليس فيه دراسة عن أعمال يوسف إدريس الذى كان يقول لى مداعبًا: «‬وهل هناك أحد فى القصة القصيرة سوى يوسف إدريس؟ لماذا لا يكون العدد كله عني؟»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وكان الحل الذى اهتديت إليه لإنقاذ الموقف بسبب ضيق الوقت هو الترجمة. ‬ولحسن الحظ، ‬كنت قد قرأت فى السويد كتاب كيربرشويك ‬Kurpershoek ‬عن "‬قصص يوسف إدريس القصيرة" ‬الذى صدر سنة 1891 ‬عن دار نشر بريل، ‬ليدن، ‬فقررت ترجمة القسم الخاص بالتحليل المضمونى لقصص يوسف إدريس فى الكتاب، ‬ونشره فى العدد. ‬وساعدنى فى سرعة الإنجاز كل من سامى خشبة الذى كان يعمل مديرًا لتحرير المجلة، واعتدال عثمان التى كانت تعمل سكرتيرة للتحرير، ‬فترجما بعض الأجزاء. ‬ونجحنا فى الانتهاء من الترجمة فى زمن قياسى، ‬ونجحت فى تجنب قصور أن يخلو العدد من دراسة كبيرة عن يوسف إدريس، ‬وأعددت مقدمة لدراسة كيربرشويك التى لم يحْذَف منها سوى فقرتين بسبب ما كان يمكن أن يترتب عليهما من مشكلات رقابية. ‬وخرج العدد بما أرضى يوسف إدريس، ‬بل ربما دفعه إلى تشجيع رفعت سلام على إصدار ترجمة كاملة لكتاب كيربرشويك بعد ذلك. ‬وبالفعل، ‬صدرت الترجمة بعنوان "‬الإبداع القصصى عن يوسف إدريس" ‬فى القاهرة سنة 7891.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وأذكر أن الهيئة العامة للكتاب أصدرت فى ذلك الوقت مجلة "‬إبداع" ‬التى تولى رئاسة تحريرها أستاذنا الدكتور عبدالقادر القط - ‬رحمة الله عليه - ‬وانتقل سامى خشبة من وظيفة مدير تحرير "فصول" ‬إلى نائب رئيس تحرير مجلة "‬إبداع". ‬وطلبنا من يوسف إدريس دعم المجلة الجديدة بالكتابة فيها. ‬وبالفعل، ‬أرسل إحدى قصصه التى أضافت إلى وزن المجلة. ‬وفى المرة الثانية، ‬أرسل قصة خاف الدكتور عبدالقادر القط من نشرها، ‬وكانت بعنوان "العتب على النظر" ‬التى أصبحت عنوان آخر المجموعات القصصية التى أخرجها. ‬وصدرت عن مركز الترجمة والنشر سنة 1988. ‬وكانت القصة مكتوبة بطريقة قصائد الشعر الحر، ‬وبالعامية، ‬وفى شكل حوارى بين طبيب عيون وفلاح يزوره كى يعمل نظارة لحماره، ‬وذلك بعد أن لاحظ الفلاح أن حماره لم يعد يستطيع السير ولا العمل ولا ممارسة أدواره الجنسية. ‬ويذهب الطبيب الراوى إلى ناجى (‬صاحب محلات نظارات شهير بالقاهرة) ‬لعمل النظارة، ‬ويفلحان فى النهاية، ‬بعد أن يقوما بتغيير العدسات المختلفة أمام عينى الحمار، ‬إلى أن يصلا إلى العدسة المطلوبة، ‬فتمكن الحمار من رؤية الأنثى، ‬واندفع إليها فى شهوة عارمة. ‬ومن يومها تغير الحمار، ‬وأخذ يطالع الجرائد، ‬وهو يحدِّق فى مانشتات الصحف الحمراء، ‬فإن لم يعجبه بعضها مضغ ‬الصحيفة وعنوانها ثم لا يلبث أن يبصقها وينهق بشدة علامة على الضيق.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولم يكن فيما ذكرته مشكلة. ‬ولكن المشكلة كانت فى الجزء الذى يصف الهياج الجنسى للحمار، ‬ويتعدى ذلك إلى وصف انتصابه تفصيليًّا. ‬ولم يكن من الممكن للمرحوم عبدالقادر القط أن يتحمل مسئولية نشر هذا الجزء فى مجلته. ‬وحاول إقناع يوسف إدريس بحذفه، ‬ولكن يوسف ركب رأسه، ‬ورفض المحاولة، ‬متمسكًا بحرية الكتابة، ‬مهاجمًا الجُبن. ‬ولم يستطع عبدالقادر القط الوصول إلى حل، ‬فطلب منى التدخل بحكم علاقتى بيوسف إدريس. ‬وقبِلتُ، ‬حرصًا على نشر القصة الطريفة فى "‬إبداع". ‬وقضيت مع يوسف إدريس وقتًا طويلًا لإقناعه. ‬ولم أنجح إلا بعد أن سقت له العديد من المبررات التى تؤكد أن حذف هذا الجزء لن يضر القصة فنيًّا، ‬بل على العكس يدفع القارئ إلى التركيز على مغزاها الساخر الذى يظهر فى ذروة النهاية، ‬خصوصًا عندما يأتى الفلاح إلى طبيب العيون سائلًا إياه: "‬مادام نضارات البنى آدمين بتنفع الحمير، ‬يا ترى نضارات الحمير تنفع للبنى آدمين؟". ‬والهدف من السؤال هو الاستهزاء بالأعين الآدمية التى لم تعد ترى ما حولها، ‬أو تتأثر به، ‬على كل المستويات بالطبع. ‬واقتنع يوسف إدريس فى النهاية، ‬ونشرتْ "‬إبداع" ‬القصة بعد حذف الجزء الخطر منها بيدى يوسف إدريس الذى أعاد نشر القصة كما هى، ‬بعد الحذف، ‬فى مجموعته الأخيرة. ‬وأذكر أننى سألت أسرة يوسف إدريس عن المخطوط الذى يوجد به هذا الجزء، ‬لأفيد منه فى دراسة دور الرقابة على نص إبداعى، ‬ولكن كان هذا الجزء من المخطوط الأصلى قد ضاع، ‬وضاع بضياعه أحد انفجارات يوسف إدريس التى لم تكن ترضى بأى عائق يعوق الإبداع، ‬وتدفع صاحبها إلى تأكيد أن كل الحرية المتاحة فى العالم العربى لا تكفى كاتبًا واحدًا فى الفعل الخلاق للكتابة الإبداعية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

والحق أن الجسارة والجرأة كانتا من أهم الصفات التى يتميز بها يوسف إدريس فى الكتابة أو فى الحياة العامة، فهو لم يكن يعرف أن يكتم رأيًا. صحيح أنه كان يلجأ أحيانًا إلى الكتابة الرمزية ليُعبِّر عن رفضه لبعض سياسات الدولة التى لم يكن يقتنع بها أو يرضى عنها، كما كان يلجأ إلى الكتابة الإليجورية لكى يُنطِق المسكوت عنه من الكلام المحبوس فى الصدور، والذى كان لابد من إنطاقه تحدِّيًا للقمع الواقع على المواطنين سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو دينيًّا، ولذلك كانت قصصه الرمزية تظهر فى سياقات كتاباته المتحدية لكل أشكال القمع. أعنى تلك الأشكال التى جمعت ما بين "الفرافير" و "المخططين"، فضلًا عن "العملية الكبري" و "الرجل والنملة" وغيرها من القصص التى تضيئ فى أعماله، مؤكدة حضور الجسارة وحضور مشاعر الرفض الخلاق فى كتابات يوسف إدريس التى لا ينفصل فيها البعد الاجتماعى فى "الحرام" أو "العيب" عن البعد السياسى فى "العسكرى الأسود"، أو عن البعد الخاص الذى جعل من يوسف إدريس أول من تحدى الإرهاب الدينى فى قصة "اقتلها" التى نشرتها الأهرام قبل اغتيال الرئيس الأسبق محمد أنور السادات بشهرين فحسب، وذلك بواسطة الشاب الذى يشبه الشاب الذى تلقى أمر القتل فى الواقع التاريخى وتولَّى تنفيذه فى القصة القصيرة التى نشرتها الأهرام. وكان نشرها نوعًا من الإرهاص الفنى بفعل الاغتيال الذى نال من السادات نفسه بعد شهرين فحسب من نشر القصة - النذير. وكانت كتابات يوسف إدريس التى تتمتع بالجسارة والشجاعة ومواجهة الأنواع المختلفة من التابوهات، الوجه الآخر من الحرص المستمر على التجريب، والبحث الدائم عن شكل خاص للكتابة الإبداعية. أعنى شكلًا يحقق ما كان يبحث عنه يوسف إدريس من هوية قومية للكتابة، أو ما كان يسميه "قصة مصرية جدًّا". وكان ذلك هو هدف المسعى الروائى الذى استمر منذ الخمسينيات إلى مطالع التسعينيات عبر ما يزيد على نصف قرن من الكتابة الخلاقة التى لم تَكُف عن إثارة العواصف حولها، وذلك من كاتبٍ وصف نفسه بأنه ليس من هؤلاء الذين يركنون إلى السكون والسلام، وإنما من الذين يتحركون ويتنقلون ويعترضون ويرفضون ويشتبكون فى معارك اجتماعية وفكرية وسياسية كى يُعيدوا المجتمع الساكن إلى الحياة وإلى اليقظة. فقد كان الكاتب عند يوسف إدريس - كما كان هو بالفعل لدى كل من عرفه - الضمير اليقظ للمجتمع، والصوت الذى لا يمكن أن يسكت عن الظلم أو حتى عن السكون، فقد كان - رحمه الله - كتلة من اللهب الإبداعى الذى لا يُخمده شيء فى الحياة من حوله، ولذلك عاش حياة خلاقة بكل معنى الكلمة من 19 مايو 1927 إلى أول أغسطس 1991 - رحمه الله - فقد كان صديقًا عزيزًا، ورجلًا بكل معنى الكلمة، ولذلك أحببته بقدر ما أفتقده فى هذه الأيام التى تهل فيها علينا ذكراه، فتؤكد فى داخلنا الوعى بقيمته التى تجعله حيًّا ومستمرًّا فى التأثير حتى زمننا الذى أشك فى أنه كان يمكن أن يقبل سلبياته، التى لا نزال نحتج عليها إخلاصًا للمبادئ التى جمعتنا وإياه فى زمن يصل زمانه بزماننا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى