شهادات خاصة كاهنة عباس - الجنازة 2-3

نعم حدث ذلك في تونس، يوم السادس من شهر فيفري بأن سال دم شكري بلعيد أمام بيته بطلقات رصاص صوبتها يد تونسية لشاب في مقتبل العمر، لقد تأكد لي الخبر عند سماع صوت آخر مرتبك في مكالمة هاتفية وصلتني من زميلتي
وهي تخبرني بوفاته وتطلب مني أن ألتحق بها للوقوف أمام مصحة النصر.
فمن أية جهة يا ترى ستبرز الجنازة فنرى نعشه؟ من أي جهة يا ترى؟ أمن جهة جبل الجلود؟ أم من جهة لاكانيا؟ أم من خلف مقبرة الجلاز ؟
أيمكن أن يقام للموت جنازة ؟ أيكون الموت هو الذي انهزم في هذا اليوم؟ فكيف بالموت ينهزم فيقام لانهزامه حفلا ؟
"كلنا شكري بلعيد وعن دربه لن نحيد "، تلك هي بعض الشعارات التي كان يرددها الحاضرون؟ من أية جهة سيطل علينا نعشه وفي أي لحظة في أية ساعة وفي أي توقيت ؟ «كلنا شكري بلعيد وعن دربه لن نحيد» فمتى ستخرج جنازته؟ متى؟ متى؟ متى؟ متى سنغتال موته ؟ متى سننتصر؟ متى سنودعه وصراخنا يواكب نعشه ونحن نردد أننا جميعا نحمل حلمه وغضبه بين جوارحنا وأن صوته الغاضب لازال يرن داخلنا صارخا متوعدا ثائرا؟ متى سنشيع جنازة الموت المغتال ونحمله على أكتافنا ؟ متى سننتصر؟ متى سنثأر لدم شكري الذي أهدر على أبواب بيته؟ متى سنثأر دون عنف ولا دم، كما علمنا دوما هذا الوطن أن نفعل؟ فمتى ستتطل علينا الجنازة ؟ متى ؟ ومن أية جهة ؟
كيف بنا نشتاق جميعا لرؤية نعش؟ كيف ننتظر بروزه بفارغ الصبر؟ كيف انسجم الشوق والحزن داخلنا ؟ أيمكن للشوق أن يلتقي بالحزن ؟
لعلها روح الفقيد شكري بلعيد وهي ترفرف حولنا ما انفكت تبث فينا الشوق والحزن والغضب والتحدي وقد امتزجت بنشوة الانتصار، لعلها هي من شحنت هذه الاجواء بكل هذا الشوق بكل هذا الحزن بكل هذا الغضب؟ فمن أية جهة ستتطل علينا يا ترى؟ وهل للروح أن تطل فنراها ونشعر بوجودها ؟
دخلنا المقبرة من منفذ صغير شق سورها القصير، ثم صعدنا ربوتها، نجتاز القبور وقد شيدت حذو بعضها البعض، كنت في كل خطوة، أوجل النظر في الارض، تجنبا لدوسها وأنا أتبع وفود الناس الصاعدة نحو مقبرة الشهداء أين سيدفن جثمانه.
ودبت في تلك اللحظة حركة كبيرة بالمقبرة، بعد أن انزاح عنها صمت القبور، فإذا بها تتحول الى ساحة تجمعنا، توحدنا الاحياء منا بالاموات، الرجال بالنساء، لتجعل من تربة تونس وعلمها رايتنا، فهي التي سترعى أبناءنا وأحفادنا من بعدنا وهي التي ستحفظ ذكرى هذا اليوم الحزين العظيم وهي التي ستروي مسيرنا ولقاءنا وبكاءنا ولوعتنا وغضبنا، هي من كانت الحبلى بحلمنا الحلم الذي استشهد من أجله شكري بلعيد.
وصلنا الساحة الواقعة أمام مقبرة الشهداء، فلم يتسع فضاؤها لوفود الناس الغفيرة، التي بدأت تتفرق، بعضها اصطف واقفا على الجدران المحيطة بالساحة وبعضها وقف خلفها وبعضها الاخر مكث وسطها .
وفجأة ، لمحنا دخانا متصاعدا من أسفل المقبرة، ثم انتشرت بسرعة رائحة القنابل المسيلة للدموع، فرن هاتفي الجوال، فاذا بشقيقتي «علياء» تخبرني، أنها شاهدت منذ حين على شاشة التلفزة صورا مفزعة لدخان يغطي المقبرة وأعمال تخريب لمجموعة من المجرمين، داهمت المكان وأحرقت السيارات الرابضة قربها، فأخبرتها، أنني بأعلى المقبرة بعيدة عن مدخلها انتظر قدوم الجنازة التي ستحل بعد لحظات،ألحت علي بمغادرة المكان توا، تفاديا لتفاقم العنف، فهدئت من روعها وأنا أطمئنها بأن الجيش موجود على بضعة أميال منا، متأهب لحمايتنا، وأن لا داعي للهرع ثم أغلقت الهاتف.
لم أشعر بالخوف رغم اكتظاظ المقبرة بجموع غفيرة من الناس، ولم أر من بين الحاضرين من بادر بمغادرة المكان ،اقتربت مني آمال وأخبرتني أن انتشار غاز القنابل المسيلة للدموع ولوكان طفيفا،جعلها تشعر بدوار برأسها لاصابتها «بداء الحساسية» وأنها تخشى الاغماء، فأشرت عليها أن تتريث وأن تسنشق دفعة من الهواء وأن تبقى معنا الى أن نغادرالمقبرة ثم قلت في نفسي وأنا ألمحها تبتعد عني للجلوس على السور المقابل: «الى أين تراهم سيدفعوننا بعد ذلك؟ الى أين؟ ألم يدركوا موقعنا بعد ؟ إننا صامدون واقفون بهذه المقبرة ، فهي المحطة الاخيرة التي لا محطة بعدها، «فليداهموننا، فليسطوا علينا، فليعتدوا علينا، فليفعلوا ما شاؤوا، فمن حضر هذا الموكب وانتظر هذه الجنازة وهلل بانهزام الموت، لن يسكنه الخوف أبدا، فليفعلوا ما شاؤوا فليفعلوا،؟ فليفعلوا ماشاؤوا، فليعتدوا فليسطوا علينا، فدم شكري الذي سال أمام بيته هو دمنا جميعا، لن نفزع من سطو المداهمين، فليفعلوا ما شاؤوا، سنبقى هنا في انتظار الجنازة مهما حدث» .
وبينما كنت على تلك الحال، إذ بي أسمع رجلا يصرخ:" اقبضوا عليهم ولا تتركوهم يلوذون بالفرار" التفت، فإذا بي ألمح ثلاثة شبان يخترقون صفوف الناس،بعد أن فروا من رجال الامن متجهين الى الساحة أين اجتمعنا،كان من بينهم مراهق لم تتجاوز سنه السابعة عشرة، انتابتني الدهشة وأنا أتبين ملامح وجهه،متسائلة: ما الذي دفع بهذا الشاب الى مداهمة المقبرة وحرق السيارات الرابضة أمامها؟ أتراه مدركا لما أقدم عليه ؟لا أظن ذلك،لا شك، أنه أحد المرتزقة الذي لم يدرك بعد، أن المواجهة بيننا وبينهم ليست متكافئة رغم اندساسهم في صفوفنا منذ لحظات الاولى لقدومنا،لن نغادر المقبرة مهما حدث،لقد علمنا التاريخ أن جميع الصراعات والحروب والمواجهات بين المناضلين والمرتزقة يكون فيها النصر حليف الطرف الاول، لن يغتالوا حلمنا،لا بمالهم ولا بعتادهم ولا بسلطتهم، لن يغتالوه بعد أن عقدنا العزم على أن نشهد موكب الموت محمولا على الاكتاف. رأيت أحد الرجال الوافقين يقبض على المراهق الفار ثم رجل آخر يقول له:" أطلق سراحه، لا فائدة من تسليمه، إنه طفل"
لم يفلحوا إذا، في تشتيت صفوفنا ولا في استفزازنا حتى نرد العنف بالعنف،فقد فر الشاب ورفيقيه متسللين بين جموع الناس الغفيرة، فعادت الاجواء صاخبة،كما كانت وانطلقت من جديد أصوات مشييعين وهي تقول: خبز وماء والنهضة لا، خبز وماء والنهضة لا، تنديدا بالحزب الحاكم بالبلاد وبزعيمه الذي لم يحم الفقيد شكري بلعيد رغم التهديدات العديدة والمتواترة التي تلقاها منذ الثورة .
فلم يقبض على القاتل رغم ارتكاب جريمة الاغتيال صبحا في حي قريب من العاصمة تدب فيه الحركة باستمرار وفي مكان تحيط به المساكن والمقاهي من كل جهة وجانب، بعد أن تمكن من الفرار صحبة مرافقه على متن دراجة نارية .

تعليقات

ر
ما زال العلمانيون خارج السلطة ومن يسمونهم التيار الإسلامى يصدقون ما تقوم به السلطة الحقيقة وهى سلطة الجيش والشرطة ومعها العملاء الكبار للخارج فمن قتل شكرى بلعيد لم يكن متطرف إسلامى وإنما كانت السلطة الخفية لتعيد رجال السلطة القديمة للحكم فبعد الحادثة خسرت حركة النهضة وهى حركة علمانية وإن تسمت باسم الإسلامية الأغلبية فى الانتخابات وخسر المرزوقى الانتخابات لصالح الخمورجى السبسى فعاد من جديد حزب بورقيبة أو بالأحرى حزب العملاء للحكم وهو ما حدث فى مصر اتهام حركة الإخوان بأخونةالدولة وهى كذبة وأنهم من يناصرون الإرهابيين وعاد الحزب الوطنى للحكم من جديد بقائد جديد اسمه السيسى
فالسلطة الخفية هى من احدثت الثورات المزعومة لتغيير الرجل الأول لأنه تجاوز خط ان السلطة للعسكر فقط واراد توريث الحكم لابنه المدنى فى مصر أو لزوجته المدنية فى تونس
 
الى السيد رضا البطاوي : تم اغتيال المناضل شكري بلعيد في حكم الترويكا ( المتكون من حزب النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل من أجل العمل والحريات ) بعد تلقيه تهديدات متكررة دون أن يحظى بالحماية الكافية من قبل السلطة ، فاستاء الناس وخرجوا للتظاهر بعد أن شعروا بان السلطة غير قادرة على حمايتهم ولم يكن جلهم منتمين الى أحزاب ، هذا هو ما وقع بالفعل . أما عن قاتل شكري بلعيد فقد أثبتت الابحاث القضائية الجارية أنه بالفعل متطرف إسلامي ( وهو كمال القضقاضي ) وقد قتل قبل أن يقع القبض عليه واستنطاقه لمعرفة الجهات التي أصدرت أمر الاغتيال .
 
أعلى