جمال الدين علي - الرقص على أرصفة الجنون.. قصة قصيرة

( خاف من الله على قلبي.
قلبي من غرامك خاف. زرعت الشوك على دربو). صوت الفنان وردي بأسنان اللبن يأتي من راديو أمي الموضوع على نافذة المطبخ المفتوحة على باحة المنزل الأمامية. جسمي ممدد على السرير; منهك ورأسي ثقيل; أجفاني متورمة وكأنها قضت الليل تحفر جبال النوم بمرود السهر. ولما صدح وردي متحسرا على الفقد ( خسارة قلبي في حبك وااااا خسارة). طشت أمي حلقات البصل فوق الزيت الساخن; فعبق الجو برائحة البصل المحمص. فتحت عيني ببطء. فرت منها دمعة سجينة من الأمس. النغمة المليئة بالشجن; فكت أسرها و فضحتني.
ذات صباح ليس كهذا; وقف عصفور صغير على نافذة القلب المواربة ونقر ثلاث نقرات. اهتز كياني و رفت عيني. سحبت نفسا طويلا وكتمته. تسللت على أمشاطي و فتحت له; فدخلني. قلبي حديقة واسعة مكتسيا بزهور الغرام. غرد عصفوري الصغير; بصوته الملائكي; تملكتني رغبة عارمة للطيران. فردت أجنحة الفرح وحلقت أحلامي في الملكوت. أدرت للقدر باقي عمري وخيباتي ونفثت في وجهه وهج النهوض ودخان الإنكسار . وكان في تلك اللحظة عصفوري يحلق بجواري. غنينا معا أغاني الحب القديم; تلك التي لا يزال صداها يتردد بطبقات الجو العليا يطرب الجن والملائكة.
وفجأة تعصف بنا رياح الغيرة الهوجاء. ( لن أنتظر أكثر. يجب عليك أن تفعل شيئا. أي شيء. سافر بلاد برة. ولكن لا تجلس هكذا تنتظر الراتب الهزيل). قال عصفوري بحنق; هوت أحلامي ودقت عنقها على أرضية واقعي المأزوم. أمي قالت منتحبة( ولكن يا ولدي ; أخشى ألا تجدني حين تعود).
( يا ولدي أصح الله يهديك. أفتح الباب. لي زمان وأنا أنادي عليك). تقول أمي و تمشي مسرعة لتفتح الباب. الشمس ترمقني بنظرة صفراء وكأنها تطلبني دين. ذبابة متشردة تنبش نفايات النوم المبعثرة على سطح وجهي بأرجلها الخشنة. حاولت إبعادها بشتى السبل. أخبرتها أن أسراب البعوض سبقتها من الليل. هل قالت أن البعوض يبحث عن شيء وهي تبحث عن شيء آخر؟
كأني سمعتها تقول ذلك. فتحت عين واحدة وصفقتها بكفيّ لأكتشف أني صفقت الريح. وهو ذات السلاح البالي الذي استخدمته في الليل ضد البعوض. الشمس شاهدت المنظر; ضحكت وغطت وجهها خلف سحابة مهترئة. الجدار ابتلع ظله كما تبتلع الأرض المشققة الماء; وتجشأ خيوط الضوء من الأخرام الصغيرة. فتحت عيني الثانية; كانت أمي تقف عند عتبة الباب الموارب. سمعتها تجادل أحد; في البدء ظننته بائع اللبن استبعدت الفكرة لما لسعتني أشعة الشمس الصفراء بجبهتي; أصغيت.
يا ولد; أنا جني وجن حركات الفهلوة بلا مدام. أنا ما مدام; أنا كلتوم بت الضو.
يرد الصوت بضحكة مصطنعة ويقول:
- حاضر يا ست. دا حتى أنا بحب الست. مين في الوطن العربي ما بحبش الست؟
- نعم أنا بحب الست. لكن بكره الاستهبال.
قررت البقاء في مكاني على السرير; مستمتعا بهذا الحوار الثقافي الاقتصادي النادر.
قال البائع .
- في أيه يا ست; يا أمي; هو أنا حأنصب عليك
- بالحيل هو النصب كيف؟ بالله عليك بنطلون جنز كونز أصلي وجلابية تيترون ياباني أصلي وثوب توتال شبه جديد; كلهن يسو ثيرمس شاي ودستة كأسات ملامين; ولا حتى رخام صيني. صدق القال أنتو تأكلو مال النبي.
- ولا تزعلي نفسك خذي يا ست. مصفى شاي مش خسارة فيك.
قبلت أمي المقايضة. سمعتها تغلق الباب و تقول بصوت مسموع مقلدة لكنة البائع.
- عالم تخاف وما تختشيش
ابتسمت وسحبت نفسي من الفراش. جرجرت أقدامي إلى الحمام. ولما خرجت تفاجأت بالفقد. يا إلهي. ما هذا؟ أين ذهب نصف ظلي؟. ظلي المرسوم على الأرض مشقوق طوليا إلى نصفين. نصف رأس; عين واحدة ونصف أنف ونصف فم. يا إلهي أعضائي مشقوقة طوليا من رأسي حتى مثانتي. أين ذهب نصفي الآخر. يجب أن أحدد أي نصف فقدت. اليمين أم الشمال. وقفت تحت الشمس وكان نصف الظل في طولي تقريبا. وبدأت أحرك رأسي. يمين شمال. أمام خلف. لأعلى ولأسفل. ثم حركة دائرية حتي دار رأسي وكدت أسقط. لا فائدة لم تنفض تلك الحركات العبثية نصف ظلي من المكان الذي اختفى فيه. تسندت على على نصف خطواتي. وقف ظلي على قدم واحدة. لا فائدة من ذلك لن أستطيع تحديد أي نصف فقدت. سوف أخلع ملابس ستظهر أعضائي واضحة تحت أشعة الشمس; وحينها سوف ينعكس ظلها بوضوح. تعريت بالكامل. وبدأت أحرك أطرافي في الهواء و ألف وأدور وأقفز لأعلى. وصوت الراديو يرتفع بالنغم الشجي و نصف ظلي ينكمش ويقصر رويدا رويدا حتى اختفى في التراب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى