حوار مع المفكر الماركسي سلامة كيلة: الماركسية ليست معادية للدين - سامح إسماعيل و حاتم زكي

"سلامة كيلة مفكر ماركسي، ولد في بيرزيت بفلسطين عام 1955م، حصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة بغداد عام 1979م، عمل في المقاومة الفلسطينية، وانخرط في أنشطة اليسار العربي، ثم استقر في سوريا وتعرض للسجن ثماني سنوات، أصدر ما يزيد عن 30 كتاباً، كما كتب في العديد من الصحف والمجلات العربية".

ـ بداية يطرح السؤال نفسه، أين اليسار مما يحدث في العالم العربي الآن؟

سلامة كيلة: في السنوات الماضية، كان مصطلح اليسار يشمل كل جماعة تستهدف التغيير الاجتماعي من القوميين إلى الشيوعيين، الآن الواقع كشف أن مجمل الأحزاب التي تكونت في الفترة الماضية أصبحت أحزاباً منتهية الصلاحية، والتغيرات التي حصلت في الفترة الأخيرة أدت لتهميش الأحزاب اليسارية التي لم تستطع فهم الواقع، وقد كتبت في عام 2010 "إن علينا أن ندفن موتانا"، تعبيراً عن واقع اليسار العربي، وعندما حصلت الثورات كان الشباب الذي خاضها يميل لإبعاد الأحزاب، لأنها تحولت إلى عبء، والسؤال المطروح الآن هل سيتأسس يسار جديد أم لا؟

ـ وما رأيك؟

سلامة كيلة: أعتقد نعم.

ـ ولكن كيف يمكن تأسيس يسار حقيقي في إطار وضع ثوري؟ وما هي شروط التأسيس؟

سلامة كيلة: تأسيس وعي جديد مخالف لثقافة الشفاهة الجامدة التي انتشرت في أحزاب اليسار؛ فالحزب يعتمد على التكتيك السياسي، وليس فهم الواقع كما هو، والعضو ملتزم بالتكتيك، والمثقف يضيق بتهميش مساحة الحرية المتاحة داخل أروقة الأحزاب، والسؤال كيف تتأسس نخب سياسية بناء على فهم التراث الفكري الإنساني وليس الماركسي فقط ؟ والسؤال أيضاً كيف يمكن استخدام الجدل المادي في فهم الواقع؟

ـ كيف يمكن تفسير نجاح تيار الإسلام السياسي الذي يتبنى سياسات اقتصادية يمينية في الانتشار بين الطبقات الاجتماعية المهمشة من فلاحين وعمال، بينما فشل الماركسيون في تحقيق ذلك، على الرغم من تمركز المشروع السياسي الماركسي حول هؤلاء؟

سلامة كيلة: استسلمت الأحزاب اليسارية للتفكير في السياسي دون التفات لواقع الناس، وهو ما دفعهم للتشرنق، وأصبحوا جزءاً من النظام السياسي، لم يعد النظر إلى المهمشين والفقراء ضمن أولوياتها، ولا سيما مع تحول الدولة إلى دعم الاتجاه الأصولي، وعلى الأخص الإخوان المسلمون في مصر وسوريا، لمواجهة الفكر اليساري لتمرير السياسات الليبرالية، ومع توسع حركة انهيار حركات التحرر الوطني دخل الإخوان المسلمون على الخط، مما دفع الدولة للصراع معهم، هنا ظهر أنهم وحدهم يمثلون المعارضة، وهذا ما دفع الشعوب للتعاطف معهم، وكان قيام حماس وصراعها مع إسرائيل، وما ظهر من قيادة الإسلاميين للصراع ضد الإمبريالية، حتى إنهم احتكروا الشعارات اليسارية، ومن منظور الليبرالية فالقوى الليبرالية كانت ترى أن الإسلاميين تطوروا إلى اتجاه ديمقراطي؛ أي أنهم ليبراليون، هنا احتكر الإسلاميون الشعارات اليسارية واليمينية، وقد تكشف كذب تلك الأفكار مع قيام الثورات العربية، وظهور عجز الإسلاميين عن المشاركة فيها بشكل فعال، وبعد تجربتهم في مصر ظهر أنهم ليسوا معادين للإمبريالية الأمريكية؛ لدرجة أن أمريكا أصبحت تدافع عنهم وكذلك إسرائيل، ولم يختلفوا على السياسات الليبرالية الاقتصادية، مما كشفهم أمام الناس، وأنا شاهدت كتلاً ضخمة في 30 يونيو من طبقات اجتماعية متفاوتة خرجت كلها بسبب كذب الإخوان، وخوفاً من طبيعة السلطة التي كانت أقرب للقرون الوسطى، مما أثار خوف قطاعات واسعة، وتفككت الرمزية التي حصلوا عليها، فهم ليبراليون من الناحية الاقتصادية يعبرون عن أفكار العصور الوسطى، هم تجار يعبرون عن الإسلام السني التجاري الذي ظهر بالحضر، بالإضافة لذلك، فهم لم يكونوا في حالة تناقض إيديولوجي ضد نظام مبارك أو بسبب تهميش وتفقير المصريين، ولكن بسبب تهميش كتلهم الاقتصادية. وأعتقد أن تجربة مصر قد أنهت تلك المرحلة، وكنت أدرك هذا جيداً، ففي 4 فبراير 2011 كتبت أن الأمريكيين سيأتون بهم وسيفشلون، وكذلك في سوريا حيث يلعبون دوراً تخريبياً بسبب وعيهم الخارج من القرون الوسطى ومستوى التفكير المحدود.

ـ الثورات العربية هدمت أنظمة استبدادية عتيقة، وأطاحت بالإسلام السياسي في مصر، ويبدو أنها تتجاوز كافة الإيديولوجيات القديمة، فهل تدرك نخب اليسار هذا التحول التاريخي؟

سلامة كيلة: اليسار لم يدرك التحول، ولم يدرك مطالب الناس وكيف تتحقق؛ فالبنى الحزبية القديمة حتماً ستنتهي؛ لعدم قدرتها على تغيير نفسها بسبب شيوخ الأحزاب، والقطيعة المعرفية والسياسية بين الشباب والأحزاب، وبدا أنها تسير نحو الموت؛ فالذهنية السياسية الحالية تجتر المفاهيم ليس إلا، حتى في نضالها السياسي اهتمت فقط بالتركيز على تجميع الكتل الثورية ضد مبارك ثم المجلس العسكري ثم الإخوان دون التركيز على البعد الطبقي، مما يدل على أنهم لم يلمسوا مشكلات الواقع وكيفية الوصول إلى تغيير حقيقي وجذري.

ـ ولكن هل النظرية الماركسية قابلة للتطوير والتطبيق في واقعنا العربي المعاصر؟ أم باتت من كلاسيكيات التاريخ؟

سلامة كيلة: ما معنى النظرية هنا؟ هذه هي الإشكالية، أنا أفهم النظرية بفهم الواقع، والنظرية عدة مستويات، وقد طور ماركس المنهج من الصوري إلى المادي الجدلي، وهذا يقوم على فهم مفتوح للواقع، أن نحلل الواقع ونطرح حلولاً لذلك الواقع ومشكلاته، وهذا ما فعله لينين؛ فقد اكتشف استحالة تكرار البرجوازية الروسية للمسار البرجوازي الغربي، وهذا ما دفعه لتطوير دور الدولة الاقتصادي، ما حدث بعد ذلك أنه تم تجميد النظرية وتحولت من جدل مادي إلى فكرة مثالية تنظم الواقع وتقيس الواقع على الأفكار، أصبح هناك فكرة مسبقة، ونسوا الواقع الملموس المنتج للأفكار، وانعكس ذلك على رؤية الأحزاب في السياسة إما مع أو ضد أمريكا، وهذا هو الإشكال، الاستسلام لبنى ذهنية وتطبيقها على الواقع، إنها المثالية البعيدة عن الواقع، لأن طرح فهم للواقع وصراعاته وتحديد مطالب الناس هو الهدف الأساسي للجدل المادي.

ـ ونحن نناقش تلك المفاهيم والمصطلحات التاريخية ومحاولات تطويرها، مصطلح آخر يطرح نفسه بقوة هو الفكر القومي، فهل هناك مستقبل للقومية العربية في مرحلة ما بعد الثورات؟

سلامة كيلة: في السنوات الأخيرة أصبح هناك انتباه للفكرة، لكن يجب التمييز بين الفكر القومي المثالي الذي طرح في فترة كانت الشيوعية عاجزة عن التعبير عن المسألة القومية وتبنيها، على عكس فيتنام والصين، لكن الأحزاب الشيوعية نتيجة ارتباطها بالسوفييت ظلت سياساتها ترفض المبدأ القومي، إلا أن قضية القومية ما زالت قوية، لقد انتشرت الثورة من تونس إلى باقي الدول العربية، ويجب وضع القومية في إطار مشروع طبقي واضح، فلا مستقبل للبلاد والصناعة بدون تكامل الأمة العربية، وهذا كان حلم محمد علي الألباني بأن يوحد السوق تحت اسم العرب، وكذلك عبد الناصر الذي لم يبدأ قومياً، وكان مشروعه حقيقياً يتبنى هذه المسألة.

ـ ولكن يبدو أن هناك قطيعة بين الفكر الماركسي والفكر القومي.

سلامة كيلة: لقد طرح ماركس وإنجلز المبدأ القومي بالبيان الشيوعي، والحزب الشيوعي الألماني كان هدفه توحيد ألمانيا، والآن مع الرأسمالية انتقل العالم إلى الدولة الأمة، والأممية مطروحة بهدف تحقيق تحالف أمم وليس أفراداً أو طبقات، والارتباط بالسوفييت فرض رؤى خاصة، فعندما ضُرب الحزب الشيوعي المصري كان الحزب الشيوعي الفلسطيني يتابع الوضع في مصر، وكان الميل القومي التحرري للوصول للاشتراكية هو الغالب، لكن الأحزاب الشيوعية العربية أخفقت، ولم تدرك أنه لا إمكانية للتطور إلا في ظل نظام اشتراكي، ولم تلعب هذه الأحزاب دوراً قومياً لتبعيتها للسوفييت، رغم أن فراغ السلطة كان يسمح خاصة في ظل الانقلابات المتتالية.

ـ في رأيك هل يستطيع الفكر الماركسي إعادة إنتاج نفسه وتقديم تصورات واقعية قابلة للتطبيق؟ أعني هنا عدم الجمود النظري والانطلاق نحو مساحات جديدة تحقق مطالب القطاعات العريضة من الشعوب على غرار ما فعله لينين فيما يعرف بسياسة الـ "نيب"NEP ؟

سلامة كيلة: الماركسية تحتاج لطرح تصورات جديدة ومختلفة للاستفادة من أخطاء التجربة السوفيتية وإيجابياتها، ويجب التأسيس لفهم حقيقي للارتقاء بحركة الناس، وخاصة مع الثورة التي تفتح أفقاً لإعادة بناء مجال حقيقي أمام الشباب للتغيير، والآن الشباب الذي يخوض الصراع مرتبط بتكوين حقيقي عضوي مع الواقع ومع البديل الاشتراكي، وتنتابه حالة إحباط من الرأسمالية التي فشلت في المجتمعات، كل هذا يدفع الشباب إلى البحث عن بديل، والنظم القديمة انتهت رغم محاولتها القفز على الواقع، والأحزاب القديمة انتهت، والشباب يبحث تطوير وعيه، وهناك حالياً مرحلة تخمر لتكوين البديل وفتح أفق جديد، والثورة ستستمر ما دامت هناك حاجات لم تشبع.

ـ كيف يرى المثقف الماركسي سلامة كيلة قضية العلاقة مع التراث الديني؟

سلامة كيلة: هذه المشكلة طرحت في مرحلة ما انطلاقاً من منظور خاطئ، أصبح هناك اعتقاد لدى قطاعات من المثقفين بأن انحسارهم وتقوقعهم ناتج عن عدم فهم الوعي الشعبي، والابتعاد عن تراث تلك الشعوب، وبعضهم انتقل من الماركسية للفكر الإسلامي، بالأساس أعتقد أن المسألة أعمق من ذلك، فكيف نفهم تاريخنا ونربط بين علاقة الحاضر بالتاريخ؟ لا بد من فهم التاريخ بشكل علمي لكي نصل لاستنتاجات صحيحة، لا أن نخضع لابتزاز القوى الإسلامية، فالأساس هنا هو كيف نبلور بديلاً يتضمن التاريخ، ويستوعب مشكلات الحاضر ويؤسس لمستقبل بديل، فالإسلام جزء من التاريخ وليس مجرد دين، وكل النقاش الحالي دائر في مجال العقيدة، لا بد أن نناقش ماذا لعب الإسلام في التاريخ من أدوار وماذا قدم للاقتصاد والسياسة والتاريخ؟ وهذا ما تأملته في كتاباتي، وأنا لست معنياً بالمنظور الفقهي، وهناك شخصيات، مثل علي عبد الرازق الذي قام بتفكيك الدين من الداخل للدفع بحركة التاريخ، لا بد من مساءلة التاريخ وتحليله وفهم الإسلام في سياقه التاريخي.

ـ ولكن هل يمكن أن يتبلور موقف ماركسي جديد من الدين؟

سلامة كيلة: الماركسية ليست معادية للدين، وهناك فارق بين الإلحاد والمادية، وهذا ما تبلور في الدولة العباسية ودفع الغزالي للهجوم على الفلسفة ظناً منه بأنها تؤسس للإلحاد حسب وجهة نظره، ثم انطلق ابن رشد ليوازن بين الدين والفلسفة. الماركسية تنطلق من الإنسان لذلك فهي تحترم حقه في العبادة، وبالتالي فهي أيضاً في قطيعة مع الفهم الأصولي للدين الذي يحاول فرض عقيدته على الآخر، وعندما نقرأ "في المسألة اليهودية" نرى الإيمان العميق بحق الجميع في حرية التعبد. كان الاتهام الدائم للماركسية بأنها تدعو للإلحاد نوعاً من الهجوم والتشويش على الماركسية للتخويف منها، انطلاقاً من مسألة قديمة هي ثنائية الإيمان /الإلحاد.

ـ وهل ترى إمكانية تطوير الخطاب الديني الراهن أم أن القطيعة مع الخطاب الديني هي الحل؟

سلامة كيلة: ليس الإصلاح ولا القطيعة، في كتابي "الإسلام في سياقه التاريخي" رأيت أن الإسلام مثل باقي الأديان سيتكيف مع كل تطورات الواقع، لقد طرح الإسلام نفسه ديناً ودولة، وهو أشبه بما حدث للمذهب الكاثوليكي في التجربة الأوروبية، فقد ظل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة من أجل الدفاع عن مواقعه، ولكنه في النهاية تكيف مع الأمر الواقع.

ـ هل تتفق مع فكرة أن الإسلام دين ودولة أم أن الإسلام دين في حدود الشخصي فقط؟

سلامة كيلة: الإسلام دين ودولة، والقرآن دستور الإسلام وذلك في محيطه التاريخي، لا بد من تحديد الرؤية من خلال منظور تاريخي، فعلي عبد الرازق ـ كنموذج ـ أراه مخطئاً في فصل الإسلام عن السياسة، جاء عبد الرازق في زمن كانت هناك رغبة في نشر الفكر العلماني والمدني، وهو من منظور طبقي خدم التطور الحداثي، ولم يكن علي عبد الرازق دقيقاً في تأويل الآيات القرآنية، والقرآن دستور دولة ينص على تشريعات وقوانين تمس حياة الناس، لكنها يجب ألا يتم تأويلها خارج بعدها التاريخي، لا يمكن أن تمتد التجربة خارج عصرها، الإسلام دين ودولة في عصره الذي جاء فيه، يوجد مجال للتأويلات تؤدي عموماً لتكيف الدين مع الفكر الحديث، وهي آليات تفتح الطريق للمدنية وتحديث الإسلام، وستظل التأويلات موجودة طالما ظل الإسلام يمثل معضلة أمام التحديث.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى