شهادات خاصة كاهنة عباس - الجنازة.. 3-1

وصلنا مقبرة" الجلاز" قبيل الظهر. كانت الشمس مشرقة، قد أرسلت أشعتها في كل مكان، كي تخفّف من وطأة شتاء شهرفيفري، خلت الشوارع من حركة المرور، ما عدا بعض السيارات القليلة التي استطاعت اختراق العاصمة للوصول الى باب علوية ثم "الجلاز".
تفرقت بعض عربات الجيش متوقفة قريبا من مدخل المقبرة وأغلقت جميع المحلات الواقعة على واجهة الطريق الرئيسية المؤدية الى بن عروس.
كنت أتـابع المارة الذين تشكلوا جماعات جماعات نساء ورجالا أطفالا وشيوخا فرقة منها مكثت بمدخل المقبرة وأخرى اتجهت الى" جبل الجلود" ووفود ثالثة كانت عائدة من الاتجاه المعاكس الى المقبرة لانتظارالجنازة وحين سألنا عن موعد خروجها، قيل لنا إنها ستحل ظهرا.
و طال انتظاري، فعقدت العزم صحبة رفيقتي "آمال ونورة" على الذهاب الى بيت الشهيد شكري بلعيد الكائن ب"جبل الجلود" ، حتى نلتحق بهيئة المحامين وأن لا نبقى في انتظاروصول جنازته الى المقبرة فلم تكن المسافة الفاصلة بينهما بالكبيرة . كان علينا أن نخترق الأزقة الموازية لجبل الجلاز، حتى نصل بيت الفقيد، لكننا لم نستطع، لاكتظاظها بجموع غفيرة من الناس ، بعد أن خرجت من بيوتها لانتظارقدوم الجنازة وقد بدت عليها علامات الفقروبانت على وجوهها، تارة سمات الحزن والاكتئاب وطورا سمات السخط والغضب والتحدي ، منها من كان صامدا في وقفته غيرمكترث بما عسى أن يحدث، ومنها من لم يخف حزنه ولا دمعه المنهمر، ومنها من كان غاضبا وساخطا .
وقفنا برهة من الزمن وسط الطريق الفاصلة بين "الجلاز" و"جبل الجلود"، لا نعلم أية وجهة نتخذ، عندئذ اعتراني إحساس غريب بالتيه، فخيل لي أن المكان يمتد ثم يتسع كي يتحول الى فضاء دون حد، ثم تملكني إحساس غريب بالحزن، بعد أن عادت اليّ ذكريات حداد كل من فارقت( والدي وأقاربي وأصدقائي) فلم يسبق لي قط ، أن شيعت جنازة أي منهم ولا أن ألمح هيبة الموت في أعظم تجلياتها، تحمل من أحببت الى مثواه الأخير، كي يدفن فيتوارى جسده تحت التراب الى الأبد.
فمازلت أتذكر جنازة جدّتي ، يومها سلمت "محمد" شقيقها الإذن بدفنها، ثم أعلمته أني أود تشييع جنازتها ، فقال لي:" ليس للنساء الحقّ في مرافقة الرجال الى المقبرة ولا في مغادرة البيت؛ فالفراق مؤلم... مؤلم والمرأة بطبعها ضعيفة، عاجزة عن إخفاء حزنها. لا أريد أن أكلفك مشقة تشييعها الى المقبرة. إنها لحظة الفراق النهائي، لحظة الوداع ، قد لا تقدرين على تحملها، فأجبت: كنت الى جانبها طيلة مدّة مرضها حتى لحظة احتضارها، فقال: لا أريد أن أعرّضك الى هذا الموقف، رأفة بك يا ابنتي، ستكونين المرأة الوحيدة بين جموع الرجال المشيعيين للجنازة وهوأمرغير مسموح به، كما تعلمين ، فأردفت : المرحومة في مقام والدتي، سهرت على تربيتي منذ صغرسني ، كانت رغبتها في أن لا أفارقها وأن أرافقها في آخررحلتها حتى مثواها الاخير، ثم رفعت نظري إليه متسائلة : لكني لست على اليقين إن كانت ترغب في أن أشيع جنازتها أم لا؟ فأردف: قطعا لا،لا أظنها كانت ترغب في ذلك، أنت أقرب الناس اليها وأكثرهم يقينا من الامر. فأجبته :طيب ....طيب ..... لن أرافقكم إكراما لها وتلبية لمشيئتها. فأجاب: ذلك هوعين الصواب يا ابنتي ....أرجومن الله.... أن يمنحنا جميعا جميل الصبروالسلوان لفقدانها.
وانقطع حبل أفكاري فجأة ،على هتاف بعض الشبان وهم يردّدون النشيد الوطني "حماة الحمى"، وقد وضع بعضهم العلم التونسي على الاكتاف، فعاودتني ذكرى اغتيال الشهيد شكري بلعيد منذ يومين ، بينما كنت بأحد المحلات لشراء جريدة يومية، إذ بي أستمع الى صوت مرتبك غاضب لامرأة، يبث من المذياع خبروفاته ب"مصحّة النصر"، بعد اغتياله من شخص مجهول الهوية، اقترب منه كي يوجه له طلقات نارية أصابته، بينما كان يغلق باب سيارته .
الرصاص ، الرصاص يخترق أحوازالعاصمة ويغتال المحامي والمعارض شكري بلعيد، الذي ما انفك يحذرمن تفشي الإرهاب في ديارنا، إذ به يصبح أول ضحاياه ، الرصاص في وضح النهارعلى مرأى ومسمع من جميع الناس، قتل بالرصاص أمام منزله ب"المنزه السادس .... لعلي لم أتبين الخبر، لعلي لم أتبين جليا تفاصيل ما أذيع ومن أية إذاعة كان يبث؟ لربما حدث ذلك، في بلد آخرغيرتونس الجبيبة ... بلبنان أو فلسطين أو العراق ، لشخص آخريشبه اسمه اسم شكري بلعيد .....
سلاح منتشرورصاص يصيب "شكري" الذي عرف بجرأته وصراحته ودفاعه المستميت عن هذا الوطن ، عن فقرائه ومضطهديه.
كيف يحدث ذلك في تونس ؟ هذا البلد الذي تمتد سواحله المطلة على البحرمن الشمال الى الجنوب ، هذا البلد الذي لا تغيب شمسه الا لتشرق من جديد بنورها الوضاح في عزالشتاء ، هذا البلد الذي رغم فقره وبؤسه ومأساته ، لم تنطفىء شموعه ولم تغلق مقاهيه ولاملاهيه ولم تصمت أغانيه رغم كل ما حدث ، هذا البلد الواقع بقمة القارة الأفريقية ،يطل من عليائه على بلدان العالم ، ليذكرها بتاريخ قرطاج وروما والقيروان .
لقد نبّه شكري بلعيد في جميع لقاءاته الاعلامية الى أن العنف متربص بنا ، يترصدنا في كل ركن ...في كل زقاق... في كل جهة من جهات هذا البلد ، ليغتال حلمنا في مهده، قبل أن ينمو ويكبرفيتحقق.
هوالذي كان مسكونا بهذا الحلم ، مفتونا به الى حدّ السخط ،الى حدّ المحنة ، يحمله بين جوارحه وفي كل نبرة من نبرات صوته ، في كل نظرة، في كل عبارة ، في كل كلمة كان ينطق بها، يطوّقه بذراعيه كمن يحمي إبنا صغيرا ، خوفا عليه من السقوط والضياع والانحراف.
حلمه بأن يرى تونس تخترق الدهوروالعصورمرة أخرى فتستعيد تاريخ مجدها وتطل من عليائها على ضفاف البحرالمتوسط وهي تردّد صراخنا المنادي بحرية الانسان وكرامته ونبذه للعنف وللظلم ، ذلك الحلم الابدي ، الذي ما انفك يراود جميع شعوب العالم منذ بدء العصور، على اختلاف جنسياتها ولغاتها وحضاراتها ومعتقداتها.
إنه حلمنا جميعا ، حلم هؤلاء الفقراء الذين هبّوا من كل صوب وحدب وحلم هؤلاء الشبان الذين يردّدون النشيد الوطني يوم تشييع جنازته ، حلم ذلك الشيخ الذي كان يمشي أمامي ببطئ، متعثرالخطى، منهك القوى بعد فوات أجمل سنوات العمروحلم تلك العجوزالحزينة وهي تمسح دموعها المنهمرة.


22 - 02 - 2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى