ابراهيم محمود - فن الكتابة عن قبلة

تُعتبَر أي لحظة ِكتابة إبداعية امتحاناً عسيراً لصاحبها، وعلى أكثر من صعيد بالتأكيد، إذ كثيراً ما يستهان بها بمفهومها الوقتي، وهي تجسّد مشهداً معيناً، كثيراً ما يخيّب كاتبها الآمالَ، ويتراءى مزيفاً، عالة على الكتابة هذه نفسها. ولنأت على ذكر مشهد قبلة، مثلاً !

هنا، لا بد من أن يسائل الكاتب نفسه أولاً، عما إذا كان مؤهَّلاً لأن يجعلها موضوعاً له، ما إذا كان لديه تلك الخصال التي تعزّز فيه هذه اللحظة الصعبة جداً، ما إذا كان لديه خبرة بالقبلة بوصفها أجناساً وأنواعاً، وأنها تتفاوت في مراتبها، وفي مدد القوة، وزخم الدلالة في كل منها، حيث يحضر الزمان والمكان فاعلين في رسم علاماتها الفارقة بالمقابل .

ما إذا كان لديه صنافة القبل: قبلة العاشق المتيم، الزوج المخادع، القبلة المسمومة، قبلة انفجارية بأثرها، قبلة عابرة، قبلة مختلسة، قبلة ذات صلة بسفاح القربى...الخ.

لا بد على الكاتب هذا، أن يتحقق من بنية هذه اللحظة وكيف يمهّد لها. إنها من حيث الزمن قد تستغرق دقيقة أو دقيقتين أو دونهما. لا بد هنا من الأخذ بعين الاعتبار ما هو متردد عنها جهة التوصيف، كما في العبارة المتداولة " وغابا في قبلة طويلة ". إن حالة الاستغراق في قبلة، لا ينبغي لها أن تخدع كاتبها، وهو يختلف عن سواه، إنما أيضاً عنه هو بدوره، في عمره، وفي نوعية القبلة وفي أي موقف، وتوقيت كذلك، كما ذكرتُ. أن يكون آهلاً بقائمة من العبارات التي تتداعى إلى متخيله وهي حيّة، وهي معزَّزة بما هو جسدي نابض بحياة تتجاوب مع المبتغى من هذه القبلة الجاري العمل على الإشارة إليها، حيث تتم دراسة المحيط الخارجي، والحالة النفسية للاثنين، ومن يكونان اجتماعياً، وعلى مستوى الثقافة...إن كل ذلك من لوازم الكتابة عن هذه اللحظة التي تختصر زمناً طويلة، بمقدار ما تكون محك اختبار للكاتب ومدى صلته بما يكتب .

يجب أن تكون هذه القبلة الجاري التهيؤ لها، قبلة الكاتب، وهي تحمل بصمته، كما لو أنه يبتكر قبله وأهليه ومن يكونون. أي حيث يتعرف قارئه عليها من خلال كلمات منسابة، حية، نابضة بما هو معزّز لفعل الإقدام على الدخول في حُمّى أو مشهد قبلة موضوفة، وهو يتخذ المسافة نفسها من قائمة القبل الموجودة، والمدرَك لها، كونه أديباً، فيعطي لكل منها حقها في القيمة.

هنا، يجب عليه أن يكون حذراً، وإلى أبعد الحدود مما هو فيه، ألا يستشعر أنه هو نفسه، حين كان يقبّل فتاته، خطيبته، زوجته، فتاة لا على التعيين في موقف معين، وهو ينتعظ. ذلك من شأنه الإيذان بولادة مشهد لقيط، مشهد سخيف، مبتذل، قد يتَّهم كاتبه في الحال أنه متطفل على الكتابة، وربما أكثر من ذلك، أنه يتاجر بالمشاعر، ويهين كلّية الجسد. لا عليه أن يكون ممتلئاً بتلك الخاصيات التي تمنحه شرف الدخول في هذه اللحظة، سوى أن المتطلَّب منه هو أن يسعى جاهداً، إلى الانفصال عما هو عليه، كشخص عاش هذه اللحظة، كما لو أنه يرسم صورة فوتوغرافية. إنه فنان هنا، وعليه أن يمتلك ملَكة القدرة على الخلْق الفني، أن يكون هو وليس هو، أن يعيش الآخرين ممن يستشعر بهم في هذه الوضعية .

أن يكون محيطاً بتقنيات الكتابة الفعلية عن الجسد: مشاعر، أحاسيس، ومخاوف، أو ميكروسكوبيات الثانية الواحدة التي تنتمي إلى هذه اللحظة قبل الدخول فيها، ليكون أهلاً للوصف، أهلاً لأن يقال له ضمناً من قبل قارئه: مرحى لك.

إنها خطوات لا بد من معرفتها، تتوجب على الكاتب التقي دبها حرفياً، وهي تصطبغ بمشاعره، بهواجسه، بتلك الثقافة التي أمكنته من معرفة مجتمعه، والذين يعيشون فيه، كما لو أنه يعيش جمهرة القبلات في وضعيات شتى، ويمتلك القدرة على التمييز بين الواحدة والقدرة، أي أن يكون بعيداً عن التكرار الذي كثيراً ما نتلمسه لدى كتاب كبار، وهم يصفون هذه اللحظة كما لو أنها يسرقون من أنفسهم، أي يستخفون بذائقة القارئ، في فعل الاستنساخ المقيت هذا.

لمن تكون القبلة؟ من الذي اختير لأن يكون طرفاً فيها مقابل آخر؟ كيف يكون المناخ المحيط بها يا ترى ؟ إن مقدار الوصف، ونوعية الكلمات المعتمَدة وبنيتها، وهندستها... يتناسب ومقدار القيمة المعطاة/ الممنوحة لها. فالقبلة متجنسة بخاصية جسدية وعمرية وثقافية معينة .

ثمة وصف لقبلة لمشتهي امرأة لا صلة فعلية بينهما، امرأة هي الأخرى تعيش حالة اشتهاء للآخر دون تحديد، قبلة قد تخدع الكاتب قبل أي كان، لا يجب التركيز عليها طبعاً، باعتبارها قاتلة إن منَحها قيمة اعتبارية أكثر مما تستحق في الوصف. إن مشهد داعراً، أو بورنوياً بشكل ما، لا يتقبل إدخال قبلة لها صفة حميمية في نطاق اللقاء الجسدي، لأن القبلة خالقة ، واصلة بين جسدين وهي بعمق نسابتها الروحية بالذات. القبلة هنا تسمى تجاوزاً، هي قبلة غريزية في أقصى حالات التوصيف. فمن يعيش وضعية النعظ واشتهاء جسد الآخر تجاوباً مع وطأة نعظ معينة، وليس سواها، يكون الإتيان على ذكر القبلة حماقة وإسفافاً، ودلالة على الجهل بأدبيات القبلة بالذات، وإدانة مباشرة للكاتب. إن وصفها هنا يجب أن يتم عبر ربطها بما هو سفلي، بما هو ميت من مشاعر وأحاسيس تلهب جسدي الاثنين، وترفع من شأنهما إلى مستوى الفني .

في قبلة عاشقين مثلاً، وتبعاً لحرارة العشق، الصب أو الهوى المكين، فإن ذلك يتوقف على مهارة الكاتب، وكيف يمكنه أن يعيش هذا العشق وقد تملَّكه من الداخل، أن يكون هو وهي، هي وهو وبالتبادل، وألا يغفل ولو لجزء من الثانية عما هو فيه حتى ينقطع الأثر الصيروري، ونقط اللقاء وكيفية سريان فعل العلاقة في الجسدين الداخلين في طقسية قبلة .

ربما أمكنه الاستغراق نفسه في وصف قبلة من هذا النوع، أن يهبَها استثنائية الأثر، طالما أن لديه ما يبرّر هذا الإجراء، وهو يوغل في نسَل القبلة، وهو يجعل منها موضوعاً، كما لو أنه يمتلك ذاكرة جمعية للقبلة، وقد تأرشفت فيها كل قبل العالم، والأعمار المختلفة، والجنسيات المختلفة، ويدفع ذلك بقارئه وهو يهتف داخلاً: لله درك من فالح في الوصف!

في البحث عن القبلة ثمة ما هو تشريحي تماماً، ما هو فيزيائي تماماً، ما هو كيميائي تماماً، ما هو فلكي تماماً...بما أن الكاتب هذا، يريد أن يعرّف بنفسها كاتباً إبداعياً، وينتظر درجة / علامة من قارئه/ قرائه، إزاء ما قام به. إنها خاصية فيلمة اللحظة وقد تعمقت وتشعبت، وهي تدخر بمناخات لا يعيشها إلا الكاتب وقد تكوْنن. دون ذلك لا عليه إلا أن يدع القلم وشأنه، أن يتجنب كتابة أي جملة عن حالة كهذه، ألا يورّط نفسه فيما لا خبرة مطلوبة له فيه، فأن يكون عادياً أفضل من أن يزعم أنه كاتب وهو مذموم بفعله ، أو يُشتَم كلما قرىء هنا وهناك..!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى