كاهنة عباس - الحذاء الاسود

الحذاء الاسود
شعر أن رجله اليسرى تخرج بسهولة من حذائه الرياضي ذي اللون الأزرق، بينما كان في طريقه إلى البيت ،ألقى بنظرة عابرة على الحذاء، فتفطن إلى أن الخيط الذي يربط زوجه الأيسرقد أتلف،انزعج، لكنه لم يبال وقد أوشك على الوصول.
دخل البيت وتوجه إلى خزانة كبيرة، التصقت بحائط غرفة ضيقة، فتحها و انهمك يبحث بين الأدباش عن خيط أبيض يربط به حذاءه .
وبينما كان على تلك الحال، فاجأته أمه بسؤالها : ماذا تفعل ؟ فالتفت إليها ،كانت واقفة وراءه، فأجاب : لا شيء، أبحث عن خيط أبيض سميك أربط به حذائي، بعد أن أتلف أثناء مشاركتي في مباراة كرة القدم هذا الصباح مع أبناء الحي .
- تعبت من مشاكلك التي لا تنتهي ، أنت تعلم أنك لا تملك حذاء غيره،و أني لا أقدر على أن أشتري لك حذاء جديدا، فأين سأجد لك رباطا يلائمه ؟
-لا تقلقي سأتصرف، سأربطه بأي خيط آخر.
رآها تمد يدها إلى رفّ الخزانة و تسحب صندوقا صغيرا، ثم تضعه على الطاولة وتخرج منه كبّة من الخيط الرمادي، قائلة : "انزع خذاءك، سأضع لك هذا الخيط السميك الذي يستعمل لخياطة الفراش". أخذت حذاءه وأزاحت الخيط الأبيض عن زوجه الأيمن ربطت الزوجين بخيطين سميكين من نفس اللون.
- أتريدين أن ألبس حذاء مربوطا بخيوط الأفرشة، فيستهزأ مني أصدقائي و زملائي في المعهد ، وأصبح أضحوكة ومهزلة لدى الجميع .
- البسه، لتذهب به غدا إلى المعهد ،سأبحث لك في السوق الأسبوعية عن رباط يناسبه .
- لن أذهب إلى المعهد غدا.
فقالت بصوت ضعيف يستجديه : "اذهب وسأشتري لك حذاء جديدا" .
- لكني أعلم أنك لم تدفع إيجار البيت و قد زارنا مالكه في أكثر من مرة .
- لاتشغل بالك بأمور لا تهمك، سأتصرف .
- طيب سأفعل .
استلقى على فراشه الصغير ومدّ كتابا صغيرا من محفظته وتظاهر بقراءته . رآها تدخل المطبخ .فأغلق كتابه وأخذ يفكر، خطرت بباله أول الأمر فكرة عجيبة غريبة، وهي أن يسكب الحبرعلى خيطي الحذاء فيصطبغا باللون الازرق، لكنه تراجع فقد يبقع حذاءه أثناء الصبغ إن ربطه بالخيطين قبل أن يجفا من الحبر،فأين سينشرهما بعد ذلك ولا وجود لشرفة في البيت ، ماعدا تلك الموجودة في بيت الحمام ؟
ثم تراءى له أن يقصّ قطعتي الحذاء ليستغني عن الخيوط التي تربط كلّ قطعة بأخرى ، لكنه أدرك أن تغييرحذاءه على ذلك النحو، لن يجعله يضّم الساقين فيمرقان عند المشي. ماذا سيفعل إذا ؟ لا بد أن يجد حلاّ قبل أن يجن الليل ،فقد يضطر إلى التغيب في اليوم الموالي عن المعهد ثم إلى إعلام أمه ،لن يقبله الناظر إلا بحضور وليه ولا ولي له سواها ،بعد وفاة أبيه منذ سنين عديدة . لابد له أن يتصرف بسرعة ، نهض من مكانه ، توجه إلى المطبخ وقال لأمه : سأخرج حالا لزيارة صديقي عمر ليساعدني على فهم درس الرياضيات . فسألته : عمر ابن محي الدين جارنا ؟
- نعم.
- لا تتأخر عن العودة إلى البيت ،سأنتظرك لتناول العشاء .
سمعته، يجيب : "لن أتأخر."
خرج من بيته متجها إلى البيت "مصطفى طبال الحومة" ، فلم يبق له من حلّ إلا قبول ما عرضه عليه " عم مصطفى الطبال " منذ أشهر قليلة، قال له أكثر من مرة : "يا بني وهبك الله عزّ وجلّ من الوسامة و الذكاء و الفطنة و القوة الجسدية و الفكرية ما لم يهبه لغيرك ، تعالى إلى فرقتي، ستكون من بين أعضائها وسأمنحك ما استطعت من مال، لتساعد أمك على تحمل أعباء الزمن ،تعالى ولا تتردد ،لن يكلفك العمل في فرقتي إلا ارتداء أجمل الملابس و أجمل الأحذية ،أن تحمل بيدك طبلا أن تطبل في الأعراس و الأفراح و الأعياد ،خذ بنصيحتي وستكون من المبجلين ."
-طبال؟ أن أصبح طبالا ،أجوب الأزقة والأنهج وأنا أطبل وراء المحتفلين،لن أفعل ذلك ولو متّ جوعا. فنظر إليه "عم مصطفى" : "لكن فرقتي لا تجوب الشوارع يا يسري ،بل تعمل في أفخم النزل . معذور، أنت يا بني، لم تفقه شيئا من هذه الدنيا ،سيضيع ذكاؤك ووسامتك ومواهبك سدى، إن لم تقبل بهذه المهنة التي قد تفتح لك جميع الأبواب وتمنحك فرصا لا تتخيلها ،وأنت وحيد يا بني وحيد ،في حاجة إلى من يأخذ بيدك ويساعدك .
-لقد ساهمت الفرقة في الاحتفال بأكثر من مناسبة في عرس زينب ابنة "عم المختار" مثلا ،لن أخرج إلى الشوارع للتطبيل ،فيراني القاصي و الداني ولم يبق لي لاجتياز الباكلوريا سوى بضعة سنين. ونتائجي الدراسية مشرفة.
-تزوجت زينب من رجل ثري، فاشترط المختار أن تقع "الخرجة" من بيت العروس بالطبال، اسمعني ،مهنة التطبيل مفتاح ،يا ابني، وأنت ذكي بل من أذكى أبناء الحي ،ستدخلك بيوت الأغنياء وذوي السلطة ،سيرحبون بوجودك بمجرد أنك تطبل فقط، يجب أن تطبل وأن تضرب على دفتي الطبل وأن تبتسم لكل من تلاقي، ستفعل ذلك أيام الأعياد وفي مناسبات قليلة ولن يمنعك ذلك من مواصلة دراستك، تعالى إلى بيتي وسترى لباسك، والله إنه لباس أمراء، لا يحلم بارتدائه أيّ شاب في سنك وحتى وإن كان من الأثرياء : شاشية تطوقها عمامة و"فرملة" و قميص من الحريروسروال عربي أو عادي حسب اختيارك ، أما الحذاء، يا بني، فهو من الجلد الخالص، تعالى، لديّ عشرات الأزياء في ألوان مختلفة : الأحمر والأخضر والأزرق و الأبيض، فإن لم تعجبك، سأقتني لك أجمل الأزياء وسأمنحك عن كل حفل تطبيل مائة دينار .
-لا أحسن التطبيل ،ولا أريد أن أرتدي زيّ المهرجين. أنا من هواة كرة القدم ، سيسخر منّي الجميع .
- ذلك ما تتوهم، بل سيحسدك القريب و البعيد ، لقد سعى العديد من الشبان إلى العمل في فرقتي، لكنّني رفضت، لأنهم لا يتمتعون بخصالك ،إن غيرت رأيك ، فبيتي مفتوح لك في كل وقت ،ومتى شئت، سيكون لك ما تريد، أتمنى أن أراك في الصفّ الأول من فرقتي .
- لا أحسن التطبيل ولا أريد أن أتحول إلى مهرج لتلهية الناس.
- لن تكون مهرّجا، صدقني، بالعكس مهنة التطبيل، قد تجعلك ترتقي إلى مناصب ومهام لا تحلم بها، إنها المهنة التي تفتح جميع الأبواب،لن أستطيع أن أقول لك أكثر من ذلك، فأنت لم تبلغ من العمرسوى الثالثة عشرة سنة، لن تفهمني ولن تدرك ما سأقول ومع ذلك سأبوح لك بهذا السر: لو علمني أبي الشيء القليل من العلم، لأستطعت بفضل مهنة التطبيل أن أتبوأ أعلى المناصب .
فضحك يسري متسائلا : "ما جدوى العلم إن كان التطبيل يفتح جميع الابواب ؟"
- اسمع يا بنيّ ، إن أردت أن تحصل على ما تريد من أيّ شخص كان، فاضرب له على دفتي الطبل، بل، فامدحه ثم امدحه وسترى بعينيك العجب العجاب، سيستجيب لكل طلباتك ورغباتك.
- أنا لاعب كرة يا عم مصطفى، لاعب كرة، لا يستهان به، فزت بجلّ المباريات التي شاركت فيها ولا حاجة لي بالتطبيل و المدح .
استحضر ذلك الحوار الذي دار بينه وبين العم مصطفى طبال الحومة منذ شهور خلت، فشعر بالتردد : ماذا سيقول له بعد أن رفض طلبه ؟ لا يدري، كلّ ما يعلمه، هي رغبته الجامحة في أن يرتدي لباس الأمراء : قميص من الحرير و حذاء من الجلد الأسود السميك ،أما مهنة التطبيل ، فقد يضطر إلى ممارستها لوقت قصير، ليساعد أمه على دفع إيجار البيت وتحمل مصاريفه ،فيشتري أجمل بدلة رياضية وجدت على وجه الأرض،وبعد ذلك "ربي يعمل ألف دليل" كما تقول أمه .رحّب مصطفى بزيارته واستقبله أحرّ استقبال قائلا : "كنت على يقين أنك ستزورني ذات يوم، لقد كنت واثقا من ذكائك و فطنتك ومن أنك ستعمل العقل ."فأجاب يسري بشيء من الحرج : "أنا لا أحسن التطبيل يا "عم" ولا أريد من والدتي أن تعلم بمجيئي إليك ، لن تقبل ذلك مهما كان الثمن ."
-والدتك امرأة عظيمة و أنا مدرك لذلك ، لا تقلق لن تشارك في الحفلات التي تنظم بالحي، ستوافق قطعا على أن تنضم الى فرقتي ،فلا تفكر في الأمر واترك لي مهمة إقناعها، سأعدها بحمايتك ، هيّا ،اتبعني سأطلعك على طبل ثم على الكسوة التي سترتديها أيام الحفلات .
غادريسري بيت الصالة صحبة "عم مصطفي " ونزلا معا الدرج إلى أن بلغا كهفا، يقع تحت الطابق الأرضي للفيلا التي يسكنها، رأى " العم مصطفى "وهو يخرج من جيبه مفتاحا ويفتح بابا صغيرا مقوسا موجودا بالمدخل، ثم دخلا معا الغرفة، فاندهش يسري لرؤية طبول عديدة متفاوتة الحجم : كبيرة و متوسطة و صغيرة ملونة بالأبيض و الأحمر مع عصيها المختلفة ومزاميرها ثم لمح " عم مصطفى" يتقدم ويمسك الطبل وعصاه ويضرب ثم يضرب ،فتنطلق رنّة مرحة تبعث على الفرح والحبوروالزهو، قائلا : ما أطلبه منك ليس الفوز،كما هو الشأن في مباريات كرة القدم، بل أن تنشر الزهو و الطرب ، اضرب لتطرب نفسك، انظر إلى الطبل إنه فارغ ،فارغ من كل شيء ومع ذلك فهو يرنّ عاليا ،عليك أن تنسى مشاغلك وأن تنسى الدراسة و كلّ شيء حين تستمع إلى صدى ضرباتك على دفتيه ،وهذا المزمار قد يتطلب الدراية بالنفخ و التلحين، اسمع، إنّها أنفاسي تتحول إلى لحن، ثم فتح خزانة كبيرة قائلا : "اختر ما شئت من اللباس إنه لك ."
انخطف بصر يسري بألوان اللباس و زينتها فأشار بيده إلى "فرملة" بنية اللون طرزت أطرافها الأمامية بلون ذهبي، فتخيل أنه إذا ما ارتداها ،سيصبح شبيها بالفارس الذي يمتطي الخيل ويشق البراري و الصحاري، قال له العم مصطفى : "أحسنت الاختيار." ثم سحبها من الخزانة مع قميصها الأبيض وسروالها البني .كانت الأحذية مرصفة بأسفل الخزانة .تسمر يسري في مكانه دون أن ينبس وقد احمرت وجنتاه بعد أن انتظر طويلا تلك اللحظة ،لحظة اختيارحذائه الجديد سمع صوت "عم مصطفى" يخاطبه :" أمازلت مترددا ، أم أنك أعجبت بجميع الأحذية ؟"
- لا ، لست مترددا ،فعلا إنها أنيقة، لكنها لا تناسب سنّي.
- الأحذية الرياضية لا تناسب لباس الفرملة والقميص.
أشار يسري بيده إلى حذاء من الجلد الأسود وقال :" اخترت هذا الحذاء."
- البسه، إن كان على قياسك سيكون لك . فنزع يسري حذاءه الرياضي وارتداه مجيبا : رائع ،لكنه حذاء للكهول ،فرتّب مصطفى على كتفه قائلا :" عندما كنت في سنك يا بني،كنت عائل أسرتي ،تحملت آنذاك جميع مسؤولياتها وكان الطبل يذكرني بأنني مازلت طفلا فيمنحني شيئا من المرح والحبور،لقد انقطعت عن الدراسة في سنّ مبكرة ، تغيرت أحوال الدنيا منذ ذلك العهد ."
- الحذاء على قياسي ،كما ترى .
- خذ هذا الطبل الصغير وهذه الاسطوانة معك ، عليك أن تستمع جيدا إلى التسجيل وأن تسعى إلى محاكاة ألحانه . سنلتقي في البيت آخرالأسبوع حتى تتدرب على التطبيل ،سأمنحك الكسوة والحذاء اللذين اخترتهما قبل موعد أول حفل، اتفقنا . نزع يسري الحذاء وأرجعه إلى مكانه مجيبا : "اتفقنا ".
ثم غادر بيت "العم مصطفى" يملؤه إحساس دفين بخيبة الأمل والغضب .
ولم يبق أمامه إلا أن يتجه إلى بيت صديقه عمر، ليترك لديه الطبل والأسطوانة ،حتى لا يعود بهما إلى البيت، فتتفطن أمه إلى حقيقة زيارته إلى بيت "عم مصطفى" ،ثم فكر في أن يطلب منه رباطا لزوج حذائه الرياضي، فدكان الاسكافي الوحيد الذي يعرفه يقع على بعد بضع كلومترات من منزله وغالبا ما يغلق محله بعد الظهرلقلة عمله .
وما إن فاتح عمر في الموضوع حتى سمعه يجيب: "خذ هذين الخيطين لحذائي القديم، لا أحتاج إليهما ".فتنفس الصعداء وعاوده حلم حذائه الأسود الجديد، حذاء الفرسان ، الذي سيفتح له عالم الكهول مبكرا،عالم الرجولة .
منذ ذلك اليوم، تغيرت أحواله فأصبح الطبل فرسه،كانت تعتريه أثناء التطبيل حالة غريبة عجيبة شبيهة " بالتخميرة" تجعله في شبه غيبوبة، يتخيل أنه فارس الفرسان، إذ توحي له ضرباته بلحن مشحون بالمروق و التمرد، لاتشبه في شيء ألحان الأسطوانة التي أخذها من "عم مصطفى".
فبات الطبل سرجه وسراجه، عالمه الصغير ذي الشكل الدائري، الشبيه بالحلقة التي يلتف حولها الناس ليستمتعوا بضرباته ويكتشفوا وسامته ورشاقته، نعم الطبل هو حذاؤه وهو فرسه ومن دونه لن يحقق أي حلم
وبينما كان منهمكا ذات يوم في إحدى تمارين التطبيل، دخلت عليه أمه إثر رجوعها من العمل ،فباغتته بسؤالها: ما الذي دهاك ؟ لم يجبها أول الأمر فأعادت عليه السؤال بتعجب واستنكار. قال بإصرار وعناد : التحقت بفرقة عم مصطفى الطبال. بقيت واقفة واجمة ،ثم أجابت : و الدراسة وكل التضحيات التي أقدمت عليها من أجلك ؟
-لاتقلقي سأواصل الدراسة ،مهما كانت الظروف .
-لن تعود إلى هذه الفرقة.
-بل لن أعود إلى البيت إن خيرت بين مهنة التطبيل أو البقاء إلى جانبك.سأمنحك كل ما أتقاضاه من مال ، لم أعد طفلا أصبحت رجل البيت .
-ما هذا الكلام ؟
-ذلك هو قراري الأخير ، إما أن أواصل العمل في فرقة "عم مصطفى" أو أن أغادر البيت ما رأيك ؟
صمتت قليلا ،ثم قالت: ما الذي جعلك تغير رأيك فتولع بالتطبيل، بعد أن كنت مغرما بكرة القدم؟
-لا أحد .
تمتمت مرغمة : طيب، كما تشاء ،لكن عليك أن تعلمني بمواعيد حفلاتك، أن لا تعود إلى البيت في ساعة متأخرا من الليل .
-سأعلمك .
-عدني بأنك لن تدخن أبدا ، لن تشرب الخمر ،وأن لاتترك الرياضة كما عهدتك .
-لا أدري كيف خطرت ببالك مثل هذه الامور، فهي لا تستهويني . لا تقلقي، أعدك بأني لن أدخن ولن أشرب الخمر، أما الرياضة فسأمارسها، كلما توفرلي متسع من الوقت .فهل اطمأن قلبك الآن ؟
-لو خالفت وعودك، سأمنعك من الالتحاق بالفرقة، وليحصل ما يحصل . فلم ينبس . أخذ طبله وشرع يضرب على دفتيه ثم توقف عن الضرب، قائلا بنبرة لا تخلو من الحبور: ما رأيك في هذا اللحن يا أمي العزيزة؟ لم أشأ أن أغضبك لكني أصبحت من هواة التطبيل .فأجابت بنبرة لا تخلومن المرارة : جميل .
ثم عاد إلى طبله يدق على دفتيه غير عابئ بمشاعر المرارة والغضب التي انتابت أمه وقد أيقن أنها ستقتنع إن عاجلا أو آجلا بوجاهة قراره، فلن تضمن له الدراسة أي مستقبل.
لبس الفرملة والقميص المطرز بخيط ذهبي اللون مع سروال أنيق وحذاء أسود من الجلد الخالص ،فلاحت له قسمات وجهه على المرآة ذات هيبة ووسامة، لا تشبه في شيء صورة الشاب الفقير الشقي الذي كان، فقال في نفسه :" تبا للمال ،كم يرفع من شأن الناس ،ليس للفقراء من وجود على وجه هذه الارض ،إلا من خلال تلك الصور التعيسة و المثيرة للشفقة، التي تبثها الشاشات."
ومنذ ذلك الزمن أصبح يرافق فرقة " عم مصطفى " في نهاية كل أسبوع متنقلا من حفل الى حفل، يدق على دفتي الطبل بعصا يمسكها بيديه ،مصغيا لرجع صدى الفراغ المنحبس بين الدفة والدفة ، فتتملكه الرغبة في أن يضرب الارض بقدميه بقوة كي يملأ صدى الطبل بنبرة توحي بالغضب والتمرد... وهو ينثر الغبارمن حوله ،راقصا على نغم دقات الطبل فتتجاوب دقات الطبل مع ضربات رجليه أرضا حتى يلتف الناس من حوله: البعيد و القريب المتفرج و المترجل ، ،مندهشين لخفته ورشاقته،منساقين وراءه راقصين مهللين له، حتى ذاع صيته بسرعة البرق ،فأصبحت الفرقة تعرف باسمه .
وحين طلب من "عم مصطفى" الترفيع في أجرته الهزيلة، أجابه : "مازلت تتعلم في "الصنعة" ،لم يمر على انضمامك إلى الفرقة سوى سنة فقط ، إن وافقتك على الزيادة ،سيطالبني بها بقية الاعضاء ولست قادرا على ذلك في الوقت الحالي، فنحن لا نعمل إلا في موسم الصيف ، تريث يا ابني، ولا تغرنّك الشهرة ،لن يتذكرك الناس لو تغيبت ولو لفترة قصيرة." فلم ينبس وبات يدخر كل ما يتقاضاه في صندوقه الصغير ، يقضي لياله ساهرا لمواصلة دراسته ،حتى لا يغضب أمه بعد أن أحجم عن مساعدتها .
وغاب يسري ولم يعد للظهور بفرقة "عم مصطفى" فانتشرت أخبار في الحي تؤكد انقطاعه عن مهنة التطبيل لشغفه بالدراسة و حصوله على شهادة الباكلوريا ، لكن غيابه لم يدم طويلا، فكان الناس يفدون عليه من كل صوب وحدب ويطلبون منه الحضور في أعراسهم وأفراحهم ،فعاد يجوب البلاد من شمالها إلى جنوبها بعد أن أنشأ فرقته صحبة مجموعة من شبان الحي ،فأصبحت حفالاته تدر عليه مالا وفيرا .
وفي ليلة من ليالي الشتاء سمع يسري طرق الباب فأسرع إلى فتحه، ألفى أمامه "عم مصطفى" فاستقبله أحر الاستقبال ،وما إن جلسا معا حتى قال له مصطفى : جئت أطلب منك طلبا ،أرجو أن لاترده.
-ما طلبك ؟
-لقد توقفت منذ مدة عن العمل ولا أظن أنك ترضى بذلك ، هرمت وساءت صحتي وقل رزقي بعد أن منحت كل ما أملك لابنيّ، لذلك أطلب منك أن تنشط فرقتك بعيدا عن هذا الحي وأن تغير اسمها،ماذا قلت ؟
-لا أنكر فضلك علي ،فأنت من علمتني "الصنعة" وهو دين لا بد لي أن أسدده طال الزمان أو قصر ،انتظرني سأعود بعد لحظة .
نهض من مكانه ودخل الغرفة المقابلة لبيت الاستقبال ،حاملا معه صندوقا صغيرا ،ثم أخذ مكانه قبالة عم مصطفى، قائلا : "خذ هذا الصندوق إنه لك ، أما عن طلبك فلن أستطيع في الوقت الحالي لا تغيير مقر الفرقة ولا اسمها". أمسك مصطفى بالصندوق وفتحه فوجد فيه حذاء قديما أسود من الجلد السميك هوالحذاء الذي سلمه ليسري في أول حفلة شارك فيها ، تمتم وهو يغادر المكان : "مساؤك سعيد يا يسري." فرد عليه : "تصبح على خير، يا عم مصطفى ."

نشر بمجلة الحياة الثقافية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى