مولود بن زادي - مصطلح "المدينة الذكية"

اللغوي مولود بن زادي يرد على أمين الزاوي بأدلة من بريطانيا!
"المدينة الذكية“، بالإنكليزية (smart city)، من المصطلحات الحديثة المعقدة التي يستعصي فهمها حتى على الطبقة المثقفة. فقد أكدت دراسة أجراها معهد الهندسة والتكنولوجيا البريطاني (IET) عام 2016 أن المواطن البريطاني لا يحسن فهم معنى "المدينة الذكية". ففي مجتمعٍ معروف بتطور العلوم والتكنولوجيا، وبشغف أبنائه بالمطالعة، وتُعتبر عاصمته أذكى مدينة في العالم، 18 بالمائة من السكان لم يسمعوا هذا المصطلح من قبل! وهو ما يدعونا إلى التساؤل عما تعرفه الجماهير العربية عن هذا المصطلح وهي تحيا في أمم أقل حظا في اكتساب العلوم، وأقل اهتماما بالمطالعة؟

مصطلح واحد بمعانٍ مختلفة
إنه أحد المصطلحات العجيبة التي تعني أشياء مختلفة، وهذا ما استخلصته دراسة معهد الهندسة والتكنولوجيا. فقد يعني ذلك مدينةً تفوق فيها نسبة الجامعات والمعاهد المعدل (8 بالمائة من المشاركين حسب التقرير)، أو مدينةً تتمتع بانتشار أوسع للإنترنيت السريعة المتطورة، أو تتوفر فيها الوسائل التكنولوجية المختلفة... أو ربما مدينة مجرّدة من الخرفان وهو ما ذهب إليه الروائي الجزائري أمين الزاوي في مقالة بالفرنسية في جريدة "ليبرتي" في عدد يوم 16 أغسطس/آب 2018 بعنوان: “البداوة الإسلامية، الجزائر العاصمة وخرافها” دعا فيها إلى إيقاف الخرفان التي يُقبل على شرائها المواطنون للاحتفال بعيد الأضحى، لتناقضها مع 'المدينة الذكية' دون اقتراح حلول أو بدائل عملية، في قوله: "قبل بضعة أسابيع، عقد مؤتمر دولي في الجزائر العاصمة وكان موضوعه: “المدن الذكية”!! واو، الأغنام تغزو شوارع المدينة الذكية!". وقد أثار الموضوع سخط الجماهير وفجّر جدلاً تسيره تيارات دينية وعلمانية متصارعة.

مفهوم "المدينة الذكية" في الواقع
فماذا يعني هذا المصطلح الذي أخذ في السنوات الأخيرة يتردد في وسائل الإعلام، مرفقا بعقد مؤتمرات وعرض مقترحات وبرامج لتجسيد هذه المدينة في الواقع؟ وما الذي يميّز "المدينة الذكية" عن المدينة التقليدية؟ ولماذا تعدّ العاصمة البريطانية مثلاً أذكى مدينة في العالم؟
ما يلفت انتباهنا، ونحن نبحث في الموضوع، هو عدم وجود إجماع على تعريف "المدينة الذكية". ولعلّ التعريف الأقرب والأكثر شعبية هو أنها مدينة تستخدم تكنولوجيا الاتصالات الرقمية الحديثة أو حلولاً تكنولوجية مبتكرة لأجل تحسين مستوى الحياة والخدمات لمواطنيها، وتحسين أساليب استفادتهم من البنى التحتية والخدمات المقدمة لهم، وتوفير الوقت والتكاليف لسكان المدينة وزوارها، بتوفير وسائل وخدمات مثل شبكة النقل، شبكة التزويد بالمياه، شبكة الكهرباء، ضبط الأمن، خدمات إطفاء الحرائق، الرعاية الصحية، وما شابه ذلك. فتصورات البشر لهذا المفهوم وبرامج "المدينة الذكية" ستختلف حتما من مدينة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى، بل ومن قارة إلى أخرى حسب الهياكل القاعدية والثروات والموارد المالية والأوضاع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وما تحقق فيها من نمو وتطور، فضلا عن طموحات سكان المدينة وأفراد المجتمع.

مجالات تحقيق المدينة الذكية
تتحقق "المدينة الذكية" في مجالات مختلفة مثل: العمران: ويشمل المباني والحدائق والأماكن العامة. والنمو الاقتصادي: فاستخدام التقنيات الحديثة يساهم بشكل فعال في ترقية المدن وازدهارها ورفاهية سكانها. والطاقة: ومن جملة ذلك استبدال الطاقة التقليدية بالطاقات المتجددة. والصحة والخدمات البشرية: فتطبيق التكنولوجيا الرقمية الحديثة في القطاع العام والخاص معا يسهل حصول المواطنين على الخدمات. والدفع: بما في ذلك أجور العمال ونفقات المستهلك والضرائب من خلال دفعٍ ذكي يساهم بشكل فعال في تحسين مستوى المعيشة. ضمان سلامة المواطن وأمنه: فالتقنيات الذكية تسمح بتحديد أماكن الأخطار والحد منها أو منع حدوثها. والاتصالات السلكية واللاسلكية: بتوفير وسائل اتصال متطورة للمواطنين. ووسائل النقل: وذلك بتوفير وسائل مواصلات راقية لضمان تنقل المواطنين في أنحاء المدينة بطرق أفضل وأسرع وأقل تكلفة. وإدارة النفايات: فاستخدام التقنيات الحديثة يساعد على إيجاد حلول ذكية لمشاكل النفايات المتزايدة في المدن. واستغلال المياه ومعالجة مياه الصرف: فالتكنولوجيا الحديثة تسمح بالتقليل من النفايات ومعالجتها والحد من تسرب ثروات المياه وتقليص تكاليف استغلالها.

"مدن ذكية" مُرتّبة وفق مقياس متطوّر
شرع مؤشر (Innovation Cities Index) عام 2007 في نشر تقارير تتعلق بترتيب المدن اعتمادًا على مقدار النمو والازدهار ومستوى المعيشة والصحة وما قطعته المدن في مجال التخطيط وتطبيق مبادرات ومقترحات "المدن الذكية". ويعتمد هذا المؤشر على عناصر أساسية مثل الممتلكات الثقافية من معارض فنية ومنشآت رياضية ومتاحف، والمرافق البشرية من وسائل نقل ومدارس وجامعات ومرافق صحية ومكتبات ومحلات تجارية... فحسب التقرير الرسمي للمؤشر الصادر عام 2016-2017، جاءت لندن البريطانية في المرتبة الأولى، تليها نيويورك الأمريكية، ثم طوكيو اليابانية، ثم سان فرانسيسكو وبوسطن ولوس أنجلوس في الولايات المتحدة الأميركية، ومدينة سنغافورة عاصمة سنغافورة، وتورنتو في كندا، وباريس عاصمة فرنسا، واحتلت فيينا عاصمة النمسا المرتبة العاشرة. وفي الوطن العربي، حققت دبي نتيجة جيدة باحتلالها المرتبة الثامنة والعشرين! بينما تخلفت العواصم المغاربية حيث احتلت مدينة الرباط المرتبة 468، والجزائر 475، وتونس 477 وهي مراتب أخيرة ضمن خمسمائة مدينة مشاركة. وبذلك، تبدو العواصم الخليجية، بإنجازاتها، أكثر تقدما، وفي أفضل وضع للتنافس على المراتب المتقدمة من العواصم الشمال أفريقية التي يبقى أمامها مشوار طويل لاستدراك الفارق.

هل الحيوانات الأليفة تتعارض مع "المدن الذكية"؟
ونحن نفحص تقرير "استراتيجيات المدن الذكية – مراجعة شاملة 2017" (GRSCS)، لا نلمح أي إشارة سلبية إلى الحيوانات في مقترحات "المدينة الذكية". وعكس ذلك تماماً، نتفاجأ بمشاهدة صورة تحت عنوان "تطور المدينة الذكية" تُظهر رجلاً يقود كلبه في شوارع المدينة الذكية! فالرجل الغربي الذي صمم مصطلح "المدينة الذكية" يدرك أنّ الحيوانات تحيا رفقته في مدينته منذ مئات السنين ولا يمكنه التخلي عنها. وقد بلغ اهتمامه بهذه الحيوانات حدَّ الاحتفال بها على منوال مدينة (يوركشاير) بشمال بريطانيا التي تنظم سنويا مهرجان "ماشام" للأغنام (Masham Sheep Festival)، ويحتفل به يومي 29 و30 سبتمبر/أيلول ويباع فيه نحو 70.000 رأس غنم! كما تحتفل لندن سنويا بمهرجان "لندن بريدج" للأغنام (London Bridge Sheep Drive) حيث تسير الخرفان في قلب لندن. هذه الخرفان التي تخرج في شوارع المدينة، يضاف إليها قطط يفوق عددها 7.4 مليون تجوب شوارع المدن البريطانية وتكاد تعادل سكان لندن نفسها (8.7 مليون نسمة)، لم تمنع مدينة لندن من الفوز بالمركز الأول لتكون أذكى مدينة في العالم! كما أن "غزو" ما يناهز ربع مليون كلب شوارع باريس الفرنسية لم يمنع هذه المدينة من احتلال المرتبة التاسعة! ولن يمنع غزو الثيران الشوارع الإسبانية في مهرجانات الثيران التقليدية فوز المدن الإسبانية!

عراقيل في طريق بناء "المدينة الذكية"
فلا شك أن وجود خرفان "عابرة" في شوارع مدن عربية لأيام معدودة، تبث البهجة في نفوس الأطفال، ولا يبقى لها أثر بعد العيد، لا يعيق بأي حال من الأحوال مساعي بناء "مدن ذكية". ما يهددها فعلاً هو انتشار البناء العشوائي ورمي الأوساخ في الشوارع وتلوث الهواء ومياه الشرب (ما سبب انتشار مرض الكوليرا في الجزائر هذه السنة)، وقلة الوعي لدى المواطن. "المدينة الذكية" – حتى لا يساء فهمُها - هي المدينة التي تكفل لمواطنيها أسباب العيش الكريم والأمن والرعاية الصحية، وتوفر لهم الوظائف ووسائل التواصل وشبكة طرقات ومواصلات متطورة وتستبدل مصادر الطاقة التقليدية الملوثة بأخرى متجددة، ووسائل نقل تقليدية بأخرى مطورة كالسيارات والحافلات الكهربائية التي بدأت تغزو شوارع لندن والمدن الغربية، وتستخدم نظاما ذكيا لإدارة حركة المرور في طرقات ذكية مزودة بأحدث التقنيات التي تسمح بالحد من حوادث المرور، بعيدا عن فوضى المرور التي تميز شوارع مدننا (أكثر من 25 ألف حادث في الجزائر 2017!)
اقتراحات "المدينة الذكية" في المجتمعات العربية لن تكتمل إلا بتركيز هذه المجتمعات على فتح المكتبات العمومية في أحياء المدن التي تهيمن عليها أماكن العبادة. وأيضا باقتراح نشر الوعي بين المواطنين لمساعدتهم على فهم هذه المشاريع والمشاركة في تجسيدها في الواقع إلى جانب سلطات مدينتهم وحكومتهم.


طيور مهاجرة حرة – بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى