فيصل مصطفى - الربوة

قطرة الماء كرة بلورية، فوهة الحنفية تساقط قطرات الماء بانتظام آلي...
"عطا" يقيس المساحة الزمنية بين القطرة و الأخرى وحينما يدرك الدقة المتناهية لرتابة المقاييس بإيقاعها المتناوب يكف عن المتابعة ويصوب بصره إلى أعلى حيث يحط جسم ضئيل يتقافز بين أفنان شجيرة الليمون القائمة بجوار الحنفية، العصفورة الصغيرة بريشها الملون وحركتها الدائبة في نقلات وتنويعات متداخلة تشده و تثير انتباهه المصلوب على سمت اليوم الذي يأتي ليذهب ثم يأتي من جديد بذات القسمات و ذات التفاصيل ... تهبط العصفورة الصغيرة على حين غرة و تلتقط قطرة الماء المتبلورة نحو السقوط ( ما أعجب الحياة أو على الأصح ما أعجبني، ظاهرة دورة الحياة ، التكرار والمماثلة، الشمس تشرق و تغيب ونحن ننوم ونصحو والليل يعقبه النهار والفصول تتوالى ومرور السنين يزيد من رصيد الدهر ويجعله مكتنزاً حتى التخمة! وأنا أظل أسيراً لهذا الجمود! من يفض غشاء هذا الوهم الذي ضرب بخيوطه الواهية حولي ونسج من أشعة السراب بيتاً يعلو ظهر ( الربوة )!!؟...
..... صوت "روضة" كرذاذ الغيث ينهمر ويرطب جفاف بشرة وجهه ( وعاء اللحظة و نسيجها لا يتجددان!، سيظل يومك لحظة واحدة متكررة إذا لم تهدم جدران وعائها وتعيد تشكيل نسيجها مجدداً؟! )
البيت كان سراباً، أما ( الربوة ) فقائمة منذ أزمان غابرة خلف الضفة الأخرى للنيل كأثر تاريخي يعتقه الدهر و يزيد من عراقته تعاقب الأجيال وتراكم المعرفة!!؟..
كان "عطا" كثيراً ما يذهب إلى هناك حينما يعبر نهر النيل إلى الضفة الآخرى، يدور حولها رغم طول قطري محيطها الذي يستوجب نفساً طويلاً وبنية لا يعتورها الإنهاك، سراعاً وعند لحظة اكتمال الدورة التي التزم أمام نفسه بها يستجمع أنفاسه ويشد وسطه ثم يبدأ في الصعود على مدراج الأحجار المنغرزة في جسم الربوة حتى يبلغ قمتها. والآن يذكر جيداً مدى السعادة التي يستشعرها وهو يمتطي صهوة الربوة كأنه يمسك بقرني الكون ويهيمن على مقاديره ( ما أعظم هذا الفضاء الشاسع وكم هو مدهش وضئيل في ذات الوقت هذا الأنسان؟! )
ذكرى (الربوة) في ذاكرة "عطا" مع إنفلات عنان الزمن الجامح في قبضة ناموس الكون أصبحت مجرد (صورة) حائلة اللون وممزقة الأطراف بين دهاليز مخزون الذاكرة..!!؟...
لكن العصفورة الصغيرة بريشها الملون وهي تحاول بنجاح التقاط قطرة الماء المتبلورة صوب السقوط كسرت .... جسماًغه صلداً قام بينه وبين ماضي زاهر أو على وجه الدقة أحدثت به صدوعاً ، فتداخلت في مخيلته الأزمان فأصبح الحاضر ماضياً والمستقبل حاضراً ، وتزاوج الواقع بالخيال فاختلطت أوراقها وتشابك نسيجها فخرج "عطا" من محارته دون أن يغلقها ليلاً...!!؟...
كان السكون يربت على صدر جسم الحركة الممدد في استكانة على ظهر المدينة بهدوء ناعم لإنامته على وثارة وسادة الأحلام السعيدة..!!؟...
شاطئ نهر النيل يبدو ناعساً كأنه يتهيأ لغفوة ما قبل الفجر المواتية !!؟...
وصائدو الأسماك شدوا مراكبهم على مواقع مراسيها ونزعوا مقاديفها كأنهم بذلك يعترفون بحقهم في الحصول على عطلة نهاية الأسبوع..!!؟...
تلفت "عطا" يميناً ويساراً ثم شمل المكان بنظرة عاجلة أقنعته بجدوى ما انتهى إليه تفكيره فشرع في الحال بجمع قطع الأخشاب الخفيفة ذات الحجم والثقل المعقولين والقادرة في ذات الوقت على احتمال كثافة كتلته على سطح الماء..!!؟..
لم يمض وقت طويل حتى وجد نفسه يطفو مسحوباً بقوة دفع التيار نحو الضفة الأخرى حيث توطدت ( الربوة ) راسخة في شموخ وعلى ظهرها يعلو بيت. ذات البيت الذي رآه يلتمع في عيني العصفورة الصغيرة بريشها الملون...!!؟...
* * *
الصعود في هذه المرة كان أكثر استعصاء ( أين مدراج الأحجار المنغرزة في جسم الربوة؟ أيمكن للحلم أن يكون أعصى من الواقع...! الناس حينما تحلم تهرب من مزالق وعثرات قتامة الواقع ومشاقه...! فما بالي أجد الحلم عسيراً وأكثر قماءة من الواقع؟! )
انقضى ثلث الليل الأول و"عطا" يحفر بأظافره على جسم الربوة مواقع لمدراج أقدامه ولا زالت نقطة الوصول تبدو كمدائن السراب بعيدة وقبض ريح !!؟... ..ولكنه لم ييأس..!!؟...
امتدت أصابعه وشدت شعيرات جلده وتساءل في حيرة .... أهو حالم أم يقظان...؟
وعند لحظة تشبث أصابعه بحافة الربوة لم يعد "عطا" يدرك على وجه الدقة حقيقة ما يحدث له أهو خيال أم واقع...؟
فقط ثمة بقعة ضوء تنسكب أمامه وتفتح درباً مضيئاً وسط أسجاف العتمة المتكاثقة في غلظة كحوائط جبلية...!!؟...
* * *
ومنذ الوهلة الأولى سلم مصيره للدرب المضئ الذي يبدو كالسراط المستقيم وشعور جارف يجتاحه وينزل على كيانه برداً وسلاماً.
أكان مساقاً وأقدامه تدفعه دفعاً نحو هدف مبهم...؟ أم كان هو الذي يدفع بإقدامه ويحثها حثاً صوب هدف معلوم...؟!!..
لحظتها لم يكن الأمر ميسوراً فالخيوط تداخلت وصارت كشباك منسوجة من الأبيض والأسود تلوح في خاطره متناو بة بين الإضاءة والعتمة...!!..
في البدء حاول عبثاً أن يكف ذهنه عن الإعمال! وحينما قنع بإستحالة وعبثية ما اعتزم، ترك اعنته بلا قياد فرأى ظهر الربوة كوكباً جديداً لم تطأ بعد ترابه أقدام غازية...!!؟...
أهو غاز؟ أم مغزو؟!!...
صوت "روضة" يطرق طبلتي أذنيه طرقاً متلاحقاً..
- كيف تكون مغزواً وأنت تنتقل من أرضك إلى أراضي الأخرين..؟؟!...
وقبل أن يقول شيئاً دوى صوت "حكيم" معترضاً في احتداد !!؟...
قد تكون مغزواً وأنت في أراضي الأخرين فكن حذراً....!!؟...
انتبه مذعوراً وجبينه يصطدم بسطح خشبي امتدت يده تتحسس ما ظنه جذع شجرة ضخمة ولكن صرير باب يفتح دهمه وجعله يقلع عن ظنه وهو يدلف داخلاً ،
من خلفه يوصد الباب في الحال وأقدامه تغوص في وثارة الأبسطة وعيونه تغزل من خيوط الإبهار دهشته المتنامية بلا انتهاء..!!؟...
وباب يفضي إلى باب و"عطا"مملوء بالدهشة يكاد داخله أن يندلق من فرط الامتلاء...!!؟؟...
وفي لحظة ما وجد نفسه واقفاً أمام باب أكثر اتساعاً ذا لون أخضر ( إذن أنا الآن داخل البيت الذي يعلو ظهر الربوة..! )
تسمر مصلوباً أمام الباب الأخضر في انتظار طال وتمدد دون جدوى ( أين الإرادة؟ أين الفعل.؟؟!.. إلى متى تظل عاطلاً ومعطوب إرادة وكسيح الفعل..؟ تقدم ... أطرق الباب بل أقرعه قرعاً عنيفاً ومتواصلاً وإذا لم يفتح ارمي بثقلك أمام صلابته وإذا لم يستجب ويطاوعك فاكسره بل حطمه وأخرج ما خلفه... لعل مخبوءاته تستحق كل هذا العناء...!)
"عطا" والباب الأخضر خصمان يهمان بالتناطح...! من يبدأ بالنطح...؟!
الباب الأخضر ساكن ولكن سكونه المتكبر في صلف يصفع "عطا" ويثير حفيظته ويكاد أن يخرجه عن طوره، لولا أنه استعاد تماسكه قبل أن تنفلت ضوابطه وتشتعل فتلية جيشانه...!!؟...
ابتعد خطوتين إلى الوراء ثم أنحنى وهمس في خشوع...!!؟...
- عفواً للباب الأخضر ورجاء لمن يقف خلفه... الكلمات تتجوار وتلتحم لتكمل المعنى ولكن الباب الأخضر لا ينتظر ، إكتمالها بل ينفرج كإنفراجة ستارة المسرح عند إشارة بدء الفصل الأول ( أهذه البداية أم النهاية؟ أيكون هذا استبدال للموقف. ماذا يحدث لهذا العالم؟ أو على الأصح ماذا يحدث لي...؟ أهو خلل في ناموس الكون. أم هو انفجار في خلايا مخ البشرية...؟)
المكان كان فسيحاً في نظام متناهي الدقة، تتناسق الكراسي المتراصة أفقياً وتنحني عند الأطراف قليلاً لتواجه خشبة المسرح التي تبدو كحدوة الحصان وهي تحت سطوة إضاءة باهرة الفعالية، والاقتدار الفني يحرك "عطا" رأسه يميناً ويساراً وحينما يفتقد أنيساً يشاركه المكان..!!؟...
يخطو نحو بقعة الضوء كفراشة عبر الممر حتى مقدمة المسرح حيث يرتمي على أول كرسي يصطدم به. وفي قبالة حدوة الحصان ينتظر منتبهاً قدوم أحد شخوص الرواية ولكن لا أحد يأتي ولا أحد يذهب ولا شيء يحدث...!!؟؟....
وفي اللحظة التي هم فيها بمغادرة المكان تسللت إلى أذنيه موسيقى حالمة هدهدته وأنامته على وسادة الهدوء والاسترخاء فاستجاب لها وهو راضٍ وعلائم الهناءة تشع حوله ولم يمض طويل وقت حتى هب مذعوراً على دوي طبول الحرب، تفجر المكان بالخوف فترتعد أوصاله رعباً وعيناه جاحظتان تبحثان- كغريق يتشبث بقشة- عن روضة وروضة كنجمة تائهة ومشعة تتراءى له بعيدة وقريبة في آن...! ولا يلبث أن يهدأ ويستكين ويجتذب اجتذاباً صوب حدوة الحصان المتوهجة بالألق..!!؟...
ما أدهشه وبعث الرهبة في لبه أن رمشه لم يهتز حتى لمدة جزء من برهة يشغله عن رصد واستيعاب كلما يدور في حدود محيط حدوة الحصان... ورغم ذلك فإن شجرة الليمون غافلته وأثبتت وجودها قائمة في قلب الألق المتوهج..!!؟...
أنهض نفسه ودفعها دفعاً لتخطو قدماً في مواجهة عالم محفوف بالإبهام والاستغلاق! ( من لي بفك هذه الطلاسم ) !!؟..وكيف أجد مفتاحاً لهذا الترميز...! من رمى بي في بحر من التشفير.؟؟!.. ) يمضي بخطى متثاقلة نحو نقطة التلاشي وصدى صوت روضة، يصم أذنيه ( أنت من إخترت هذه الطريق... من قال إننا مسؤولون عن اختيارنا ومن قال أيضاً الفعل هو الذي يكسر الحاجز النفسي بيننا وبين الخوف..؟؟!... ) وقبل أن يستوعب تماماً فحوى ما تستهدفه "روضة" جاءته كلمات "حكيم" لكي تلجم عنان الرهبة والخوف من ريادة المجهول ( أمض ولا تتردد... بل أنظر إلى الماضي بغضب وأشرع شعلة الحب في وجه القماءة والقهر... وتقدم ولا تتراجع..!!؟..
شجرة الليمون وريفة أفنانها.. آخذة في التثني كغادة هيفاء ، ثم لاتلبث أن تتنامى وتتخايل له في أشكال هلامية ، سرعان ما تتجسم روبداً ، رويداً فتتضح لعينيه المشدوهتين قسمات وجه فتاة ، تفوق " الموناليزا" سحراً ولعل كل جمال نساء العالم يتوارى خلف عينيها ففي إلتقاهما فتحت له كوة تطل على فردوس سرمدي !!؟...( العالم الذي أعرفه لا يمكن أن يتخفى بين أرجائه كل السحر ، يقيناً أنا في كوكب آخر ..!!؟..
قدماه والشجرة الفتاة تتقاربان..!!؟..
وعطا طائر يمتلك كل فضاء العالم ، جناحاه تسبحان في حرية وإنطلاق لا يقف دونه عائق ..!!؟..
من خلف الكواليس يأتيه صوت أحس في نبراته تحذير ونهي قاطع...
- لا تقترب ، إبتعد ، حاذر أن تلمسها !؟..
لكن عيناه وداخله يشدانه شداً صوبها وليس منطقياً ولا عقلاني أن أقف على أعتاب
أبواب الفردوس ولا أتذوق كوثره والمعرفة في العيون نور ورحيق لمسرات الحياة بين الشفاه....
لن أرجع خطوة واحدة الى الوراء ، الصوت المحذر كمطرقة تتهاوى على رأسه فتمتد يداه نحو الشجرة الفتاة لتحتويها وعند لحظة التماس يختفي كل شئ ويجد نفسه في فناء منزله ..!!؟..
والعصفورة الصغيرة بريشها الملون على أشعة شمس الأصيل الآخذة في التخافت ، تتقافز بين أفنان شجرة الليمون وفوهة
الحنفية في محاولة دائبة لإلتقاط قطرة الماء المتبلورة صوب التساقط ... والربوة
تتراءى من على البعد كمدائن السراب...
بعيدة وقبض ريح !!؟..

full.jpg


الربوة
فيصل مصطفي
نشر في الراكوبة يوم 02 - 07 - 2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى