جمال الدين علي الحاج - أحجية أنثى الدمية

ذات يوم صنعت لي أمي دمية صغيرة من سيقان الذرة اليابسة . صممت الهيكل كما يجب . رأس مستدير ومرفوع لأعلى . اليدان مشرعتان والساقان طويلان ومستديران . انتزعت أمي خصل من شعر رأسها كانت ملتصقة بالمشط وثبتتها برأس الدمية فأصبح لها شعر طويل . بقلم الفحم رسمت أمي على رأس الدمية عينين سوداوين واسعتين . و لفتها بشريط من القماش أسفل الظهر فاصبح للدمية مؤخرة صغيرة مثل ليمونة . الخصر تركته فارغا . و فصّلت من ثوبها القديم فستانا أنيقا ألبسته جسد الدمية فبدأ مناسبا لسنها . ابتسمت أمي وقالت بسخرية . ( حين تكبر الدمية وتصبح فتاة تلفت أنظار الرجال سوف نضع لها بعض المكياج . نخطط حاجبيها ونلون شفتيها . قليل من البودرة على الخدين لا يضر . الشعر سوف نتركه كما هو منسدلا . انه مثل عصابة حمراء برأس الرمح . وحبذا لو كان مهفهفا مع النسيم . سوف تقع عليه عيون الرجال منذ الوهلة الاولى . يكون ذلك في العادة بعد النظرة الأولى الخاطفة مثل فلاش الكاميرا . النظرة التي تصور الجسد بأشعة اكس الضوئية . وتطبع صورة غاية في الوضوح . الصدر سنضع عليه تفاحتين يانعتين . الخصر سنتركه كما هو ضامرا وضيقا . يجب أن يكون خصر الفتاة مدورا مثل حلقة وضيقا كخاتم . والا لن يظهر أناقة ما ترتديه الفتاة) . غمزت أمي بعينها وقالت ( أتينا للجزء الهام في المسألة برمتها . المؤخرة سوف نجعلها فاخرة ومتكورة ومكتنزة ومرتجة بلا اندلاق . أعرف صنف الرجال جيدا . ذلك الجزء الهام يستطيع أن يلوي أعناقهم في جميع انحاء العالم وبلا استثناء . يجعل عيونهم تقفز من مكانها ولعابهم يسيل . الساقان سيكونان أملسين ومستديرين وحبذا لو انتعل القدمان حذاء بعكب عالي له وقع على البلاط . وكانت السمانة بارزة ونضرة ) . ( لماذا يا أمي لا تصنعين لي حصانا من الطين مثل حصان أخي جدو . أنا أحب الأحصنة ولا أحب الدمى) . أسال برجاء.
( لا البنت سوف تصبح عروسة في يوم من الأيام . لذا يلزمها عروسة حلوة. أما الولد فسوف يكون الفارس الذي سوف يخطف العروسة ويطير بها بحصانه الأبيض) . (ولكن يا أمي لم عليّ أن الفت نظر الرجال دون سواهم. الا يوجد مخلوقات غيرهم في هذا الكون؟ صديقي في الروضة ميدو لا يهمه مثل هذا الكلام . كل همه أن نلعب ونلهو بالطين والتراب . يبني لي قصرا من الرمل فأهده ثم يعيد بنائه من جديد . يحث التراب فوق رأسي ويلطخ فستاني ووجهي بالطين فلا أزعل ولا أحزن . ويحرص دوما الا يضايقني بقية الأطفال . صديقي ميدو سوف يصنع لي حصانا . لن أقبل أن أكون رديفة له بحصانه . سوف يكون لي حصاني الخاص . أمتطيه وأسير بقربه . يسابقني . أسبقه أو يسبقني ليس مهما . المهم أن نصل الى وجهتنا . وكل واحد منا يمتطي حصانه الخاص) . ( خلي الفصاحة) . قالت أمي وهي تضع نقطة سوداء بقلم الفحم على جبهتي . ( هيا خذي دميتك الحلوة والعبي بعيد). وضعت أمي الدمية على صدري وقامت لتتفقد شغل البيت . ولما اخذت الدمية بحضني . شعرت أني أحضن جثة . لم أحس تجاهها بما تحسه الصغيرات . ذلك الاحساس الغامض الذي كنت أقرأه في عيونهن . هو مثل نفحة أمومة صادقة مكتومة تريد الخروج من ثقب صغير . رشة عطر فواح لا تعرف مصدره . ولا الزهور التي استخلص منها . ولكنك تشتهيه وتريد أن تقتنيه . مثل غيمة عابرة بدأت تتشكّل وقبل أن تهطل تلاشت بلا سبب مقنع . كان ذلك الاحساس الغامض الذي كنت أطالعه في عيونهن ولم أحسه يوما . هل أنا مختلفة عنهن ؟ هن طبيعيات وأنا الكلمة الشاذة . أم هن الكلمات الخطأ وأنا الكلمة الصحيحة ؟ عليّ أن أختار. أضع دائرة حول الاجابة الصحيحة أو علامة صاح . في بعض الاحيان تكون الخيارات صعبة . يحدث هذا حينما تكون كل الاجبات صحيحة . نعم كلها صحيحة ولا واحدة خاطئة . هنا من يضع الاختبار يريد أن يفرق بين الأذكياء والأغبياء . الذين يفهمون الدرس والذين يحفظون . الأذكياء سوف يقرأون السؤال جيدا مرة واثنين وثلاثة . ثم يجيبون بعد أن تتكشف لهم الخديعة الكبرى . وهي ببساطة أن السؤال في وادي و الاجبات تكون مختبئة في وادي آخر . الأغبياء سوف تنطلي عليهم الخدعة ويظنون أنهم قد فهموا الدرس جيدا وفي حقيقة الأمر هم حافظون. ببغاوات ليس الا . ولذا ستكون اجابتهم خارج السوادة بلغة العسكر . بدأنا بهم اولا لأنهم يحكمون ويتحكمون . وشاذة بلغة أهل الدين. وهلم جرا بلغة الساسة . ونشازا بلغة الفن والفنانين . وخارج السياق بلغة النقاد . وتسلل بلغة الرياضيين . و ( أوف بوينت) بلغة الفرنجة . حين كبرنا حفظ صديقي ميدو الدرس فنجح في الاختبار . بعكسي أنا التي فهمت . في تلك اللحظة شعرت أنني أحضن طفلة صامتة . لا تبتسم بوجهي ولا تناغي ولا تتحرك . طفلة ميتة بحضني . جثة هامدة بلا حراك . جسد بارد لا يصدر أنفاس حارة . حين كبرت وأصبحت فتاة في سن الزواج تلفت نظر الرجال كما قالت أمي . أردت الخروج . وضعت زينتي . كحل وبودرة وأحمر شفاه . وعندما وقفت أمام المرآة وشاهدت صورتي . استطعت التعرف عليها منذ الوهلة الاولى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى