علي بن مكشر - العُولَه

عندما شبّ احمد " واحمد كل الأسماء " كانت الحياة أكثر انتظاما و أمنا و صفاء . كانت حياة التونسيين ريفية بنسبة ثمانين بالمائة ، متشابهة و متناسقة ، و لم تكن حياة المدن تختلف كثيرا عن حياة الريف ، لذلك كانت أغنية مارسيل " أحن الى خبز أمي " ليست مجرد كلمات في الفراغ تدغدغ الآذان بموسيقاها العذبة ، بل كانت تلامس شغاف القلوب ، لأنها تحرك فيها حنينا حقيقيا غير مصطنع لحالة اللذة الأولى و الإنطباعة الندية في رحلة العمر الشقي ... الفكرة العظمى في المجتمع القديم ، كانت الأمن الغذائي ، قبل هيمنة الدولة وقبل إفلات الموضوع من يديها في مرحلة لاحقة . الوعي الفطري البدائي ، لم يكن يعي دور الدولة ، و لم تكن بالقوة الكافية لبسط يدها على الغذاء ، لترتهن في النهاية لرجال أعمال يتحكمون فيها و في القوت الأساسي للشعب ، بل كان المجتمع يعول على نفسه بجد و تعب و مسؤولية فأراح و استراح ...
ينهض أحمد في الصباح قبل موعد المدرسة بساعة ، تكون أمه قد أخرجت العجين من مخبأه و قد تخمر ، و أوقدت النار تحت الطاجين ، ثم حولت العجين الى رقاقات ترميها فيه واحدة تلو الاخرى ... رائحة مذهلة تجعل أحمد بسرع للسُّفْرة القريبة من الكانون ... زيت زيتون خارج لتوه من الزير ، و بجواره كوب حليب دافيء حلبته أمه من شويهاتها ... زبدة بيضاء كالثلج آخذة في التحلل بكسل ، بيضتان صغيرتان استوتا في البراد بعد ما جلبتا للتو من قن الدجاج .. و شيء من زيتون أسود لامع في صحن صغير ، و تمرات و قليل من شرائح التين المجفف ..
كان أحمد يأكل جملة و يتلذذ تفصيلا .. يفكر في الوقت القليل الذي أنفقته أمه في جمع هذه التشكيلة المدهشة ، متى عجنت و متى حلبت و متى مرت على الزير و متى زارت قن الدجاج ، و متى زارت بيت العوله لتجلب التين و الزيتون و التمر ... يااااه ما ألذ الزيتون الأسود اللامع الطري مع التمر .. طعم آخر ...
لازال أحمد يذكر الى الان كيف كان أبوه الانسان الفلاح البسيط ، يفكر في استراتيجية الأمن الغذائي ... كيف استطاع على قلة ماله السيطرة على وضع غذائي مقبول ، و ما سمعه تذمر قط من غلاء الأسعار .. بل إنه كان يمارس ترفا مع الضيف لا يقدر عليه الآن إلا صاحب معاش فلكي .. لقد كان يذبح خروفا لضيفه و يطبخه كاملا و يسمى ( مسلان)..
هل كانت البركة هي اللغز ؟ أم أن الشعور الحاد بالمسؤولية هو ما جعله يعيش مستورا لآخر يوم من حياته دون فلس من الديون ؟
كان بستانه مقارنة ببساتين اليوم عبارة عن حديقة صغيرة ، و لكنها تزود البيت طوال السنة بالخضار البيولوجي ( لم يكن أحد يعلم هذا الشيء آنذاك ) ابتسم حين تذكر كيف عجز أبوه عن نطق هذه الكلمة .. كان البصل منها ، و السلق و المعدنوس و البرطلاق و النعناع و الفول و الحمص و الزبيب و التمر و أشياء أخرى .. الجزر لكثرته كان في الشتاء يزيد عن الحاجة فيعلفه الشياه ... كان الزيت و شرائح التين تأتيه من الجبل ، وكل هذا مآله بيت العولة ، تلك المغازة العامة العجيبة ، التي تدر خيرها طوال السنة ، و لا تنقضي منها حاجة حتى تزود من جديد .. رائحة واحدة كانت تزعج أحمد عندما يدخل بيت العولة ، تلك المنبعثة من مسبحات الفلفل الدائرية ..
كانت حادة بما يجعله يعطس كل مرة يطل برأسه فيها ...
الآن و هنا في نفس المكان ، يعد أحمد ملاليم معاشه ، يمسك الآلة الحاسبة ، يضرب و يطرح و يقسم ... لا شيء ، لا شيء يكفي من المال ، بينما يحدق في بيت العولة القديم ، تصفر الريح في ثناياه ... يدندن بصوت خافت " أحن الى خبز أمي " وذلك الطعم المفقود .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى