ابراهيم محمود - تعويم النقد " صيد طرابيشي بشَرَك الجابري "

لا أنوي في سياق هذا المقال التطرقَ إلى المفكريْن الراحلين : محمد عابد الجابري " 1936-2010 "، وجورج طرابيشي " 1939- 2016 "، بمقدار ما أركّز على نقطة أعتبرها رئيسة في أي عملية نقدية تخص كيفية التعرف إلى الآخر من خلال حضوره الأدبي- الفكري- الفني...الخ، وليس التعريف به وهو في وضعية غياب، وما يبقيه مغيَّباً كذلك.
محفّز كتابة المقال هو قراءة لمقال الباحث المغربي حسن نجمي " معارك محمد عابد الجابري الفكرية والسياسية " في موقع " مغرس الأخباري " وقد نشِر في " الاتحاد الاشتراكي " يوم " 7-5/ 2010 " إذ يتطرق، وكما يفصح العنوان عن محتواه إلى مأثرة الحضور الفكرية اللافتة للراحل الجابري، وكيف أنه كان شاغل شرق العرب ومغربهم بكتاباته، كما هو واضح في بنية المقال، ومن خلال أمثلة لافتة. سوى أن للراحل طرابيشي الحضور اللافت بالمقابل في مقال نجمي ليس حباً به، وإنما تعظيماً من مكان " مواطنه " وإظهار طرابيشي- ربما- خارج سياق استحقاق كونه كاتباً فعلياً.
يتحدث نجمي عن تناول الجابري له لقرابة ثلاثة عقود من الزمن من خلال موسّعته " نظرية العقل العربي "كممارسة نقدية مسحية وتنقيبية في بنية فكر الجابري، وفي " العقل العربي " بتتالي أجزائه، مشيراً إلى نوع من الاستخفاف بما قام به، وهو يستشهد بقول الجابري ضمن لقاء أجري معه في صحيفة سعودية، وكما نقل نجمي ( وكشف الجابري عن أنه كلم محمد أركون طالبا منه أن يشرف على أطروحة جورج طرابيشي للدكتوراه ليفاجأ لاحقا أن الأخير لا يحمل الشهادات العلمية الكافية لهذه الدرجة، وأنه يريد أن يحصل على الدكتوراه من خلال مناقشة مقالاته فقط!! )
واقعة لا يعرَف عنها متى كانت وكيف كانت بالفعل؟ ما إذا كان الجابري طلب من أركون هكذا أم لا ؟ ما إذا كان ذلك تم بطلب من الجابري، وكيف، ومتى ؟ كما لو أن طرابيشي ليس لديه معرفة بطرق الحصول على شهادة الدكتوراه كالتي ذكرها نجمي، وهل حقاً أن طرابيشي كان يحتاج إلى من يرشده، من " يتوسط له لهذا الغرض ؟
بغضّ النظر عن خلفية الواقعة، فإن لكل من المفكرين الراحلين بصمته الفكرية في الساحة الثقافية العربية، وأرى أنه لو لم يتطرق طرابيشي إلى مشروع الجابري " العقلي " بمشروع عقلي مضاد، وما اجتهد في تبيانه، لمَا تم تناوله بطريقة كهذه. حيث إن لكل منهما ما يبعده كثيراً عن الآخر، وإلى درجة استحالة اللقاء أحياناً، من خلال طبيعة الموضوعات، لقاء تم في وضعية غير محتسبة غيرت جوهر العلاقة بينهما، ولعل الجابري أول من يُسأل عن ذلك، حيث لم يرد على " خصمه " كما يستقرأ من عدم رده، وهو ما ذكره طرابيشي في رثائه له، بـ" ربع قرن من حوار بلاد حوار ".
هل حقاً أن طرابيشي كان كاتب مجموعة مقالات، وبناء عليها أريدَ من أركون، كما يزعم القائل منح الدكتوراه عليها؟ لقد سبق طرابيشي الجابري بنشر أعماله بقرابة عقد من الزمن من خلال كتابه " سارتر والماركسية – 1963 "، ليأتي كتاب الجابري عن " العصيبة والدولة " سنة 1971، ليبدأ التقارب التشنجي في ثمانينيات القرن الماضي ويتنامى في تسعينياته، ربما على وطأة متابعة مستميتة من طرابيشي لمصادر كتابات الجابري في مشروعه السالف الذكر قبل كل شيء.
ما انشغل به طرابيشي يبقيه ذخيرة ثقافية حية للذين يبحثون عن معارف مختلفة في كلاسيكيات الماركسية، ومن ثم ترجمة أعمال فرويد، وبعض من أعمال هيغل " المدخل إلى علم الجمال "، وموسعة " تاريخ الفلسفة، عدا عن " معجم الفلاسفة " وما يتعلق بإسهاماته في تطبيق التحليل النفسي على نصوص الأدب والفكر فيما بعد، وهذا ما ينبغي الاعتراف به واقعاً، وليكون تركيزه في السنوات الأخيرة على ما هو إسلامي، في ضوء تنامي الأصولية ذات الدمغة الإسلامية في المنطقة وانشغال الجابري نفسه بها بنوع من المغازلة الجلية، كما في كتابه بعدة أجزائه عن القرآن. والاستغراق في التراث من قبل كم كبير من المثقفين العرب، وبنيانهم الإيديولوجي ، في مسار يمنحه فرصة الهيمنة الرمزية على مختلف الأنشطة الفكرية عربياً.
هنا، لا مجال للمقارنة، إلا في النقطة التي ألمحت إليها، وهذا يبقي طرابيشي صاحب مأثرة فكرية وترجمية بالمقابل.
وهنا أنوه إلى جانب مهم، يبقي الجابري في واجهة اهتمامات المثقفين العرب: المغاربة بصورة أساسية، وذلك الاهتمام المركّز بأعماله والاحتفاء به في " الشرق " وهو أنه في مجمل ما أنجزه كان يتحرك من داخل التراث، كان يشكل لسان حال من يديرون دفة السلطة في المحصّلة، ويبرز القومي العربي ذا نفحة مرئية في سطوره، وهو إجراء دغدغ مشاعر هؤلاء المتنعمين بما هو سلطوي، متجنبين مكائد السلطات المحلية ومن يندغمون فيها، ولا يبرَّأ الجابري من ذلك، إن قابلناه مسلكاً وفكراً بالجابري.
طرابيشي كان على النقيض تماماً، في عقلانيته، وهو المسيحي، وهو وجه آخر من وجوه الخصام الصريح والمضمر في آن، فلم يكن هناك من يتجاوب معه إلا في رقعة لبنانية محددة.
طرابيشي الذي التقيته مرة واحدة، وتلك كانت مصادفة، قبل عدة سنوات من رحيله في مكتبة دار نشر " المركز الثقافي العربي " ببيروت، أفصح عن بعض همومه، ومن ذلك، أن كتابه" النظرية القومية والدولة القطرية " لم يوافَق على طبعه في مركز دراسات الوحدة العربية، انطلاقاً من مضمونه، والمركز له طابع توجهي قومي عروبي يلحِق الإسلام به، فاضطر إلى طبعه في دار " الطليعة ".
ومن يمعن النظر في منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، حيث أعرف " أهليه " عن قرب، يتلمس هذا الجانب، وهو الذي تبنى نشر أعمال الجابري: الفكرية والتحقيقية كافة، بينما لم يكن لديه أي استعداد لطبع أي كتاب لطرابيشي، أو من سبقاه في الرحيل: ياسين الحافظ، وإلياس مرقص، حيث الثلاثة سوريون وعُرِفوا بتوجههم الماركسي بداية. أما كان يفترض على المركز المذكور أن يتبنى نشر كتب طرابيشي، أو ما يتعلق منها بموضوع " العقل العربي " وهو مفهوم قابل للمساءلة بأكثر من معنى ؟
نتلمس بالطريقة هذه تعويماً للنقد، تبئيساً له، وباسم النقد نفسه وفق مبدأ الموالاة والممالأة، ولتتضاعف مأساة العقل العربي المنقود من قبل الجابري، ومن ذلك " العنصرية المغاربية " حيث مرْكَزها الجابري، وهاهو نجمي يثمّنها ضداً على توجه نقدي تنويري، وبذلك أيضاً يستمر الحوار من دون حوار،فأي عقل عربي هذا الذي يزكَّى هنا وبمعناه " الفحولي " ...؟!


ابراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى