إميل حبيبي - سداسية الأيام الستة (6)

الحب في قلبي !

عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان
ويأتي أهله النائي الغريب!

"أغنية لم تنشدها فيروز"

أغنية لم تنشدها فيروز كلاما ولكنها تنشدها دفئا.

وهذه القصة التي بين أيديكم الآن، أيضاً، لم أكن أنا واضعها، ولكنني أعدت كتابتها مرة، وأعدت كتابتها مرتين وثلاث مرات، حتى أخفي معالمها عن أصحابها فلا أشقيهم، فشقيت، وحتى أخفي معالمها عن حابسيهم فلا أثيرهم، فثرت.

ولولا خوفي من أن تخونني بقية العمر لآثرت الابقاء عليها، طي الدفاتر حتى تتغير الحال، فأطلقتها بغير كحل الخيال على جفون كحلاء.

ولولا خوفي. أيضاً، من أن يطول تلكوء الحال على حاله...

ما أصعب ميلاد الخيال في قصة تعيش.

فلفحة الألم تعتمل في صدر الكاتب تسعة أشهر، تسعة أعوام، العمر كله، حتى تعصف به آلام المخاض فيلدها قصة، اذا تنفست هواء أرضنا عاشت، وأما اذا هبطت علينا من كوكب آخر لا يتنفسون فيه هواء كوكبنا اختنقت وولدت ميتة.

وأصعب منه ميلاد الحقيقة في قصة ملتفحة بالخيال يقيها لسع البرد.

مثل وميض البرق، لا تستطيع أن تحضنه في صدرك شهرا، ولا تستطيع أن تحضنه لحظة. أما أن يمزق حجب الظلام أمامك، فترى ما هو أمامك، وتهتف: اني أرى ما هو أمامي. وأما أن يمزق أحشاء صدرك تمزيقاً، فلا تعود ترى ما هو أمامك، وتتأوه.

وحين كنت في ليننجراد هذا الصيف انشقت سماؤها الصافية عن وميض برق.

كان النهار صحوا. وكانت طلعة الصبح مبرقة. وأما الغيوم فتلبدت في عيوننا حين دخلنا الساحة الرحبة، المزهرة بالورد وبشقائق النعمان، الفواحة بعطر الريحان والقرنفل وزهور "لا تنسيني"، التي احتوت مدافن ما يزيد على ستمائة ألف من أهالي ليننجراد، الذين مات أكثرهم جوعا أثناء حصار ليننجراد في الحرب العالمية الثانية، تسعمائة يوم، من سبتمبر 1941 حتى فبراير 1944.

وانتصب أمامنا، في صدر الساحة الرحبة على بعد كيلومتر من مدخلها، تمثال جرانيتي داكن، هائل، لامرأة نصف، ملتفحة، وقد فتحت ذراعيها لوعة – تمثال آلام الوطن.

وسرنا بين القبور النضرة، آصاص كبرة زرعت فيها الرياحين، كل قبر يحتضن ألوف الضحايا، شهرا شهرا وسنة سنة. والموسيقى المهيبة تملأ الفراغ في الجو وفي القلوب.

ومن جوف النغم الحزين العميق كان ينطلق ألوف الناس يؤمون هذا المكان في تؤدة، رجال ونساء وأطفال، صبايا وعجائز، جنود وأطفال، ينثرون على هذه الباقة من القبور باقة من الزهور، ويقفون أمام هذا الأصيص ويسقونه دمعة.

وانتبهنا إلى امرأة عجوز تمسك بيد طفلة. وكانت الطفلة تندفع أمامها وتجر جدتها المتثاقلة. وكانت الطفلة تحمل باقة من الزنابق الحمراء. وكانت الطفلة تقف أمام مجموعة قبور فتلقي عليها زنبقة، ثم تجر جدتها نحو مجموعة ثانية فتلقي عليها زنبقة. وكانت الجدة تخف متثاقلة وراءها. وكانت الجدة تمسح بيدها المغلقة دمعة عن هذه العين ودمعة عن هذه العين، لعل زنبقة حمراء من هذه الزنابق أن تعلق بعروة ما بقي من السترة التي أسجت فيها زوجها قبل عشرين عاماً وخمسة أعوام، فيشرق مبتسماً لها، فتشرق بالدموع.

ووضعنا على عيوننا نظارات الشمس السوداء مخافة أن يلحظ الليننجراديون أننا تعدينا على ما ليس لنا فيه قسط.
وكانت السجائر مشتعلة في أيدينا، فأطفأناها في أيدينا، وألقينا ببقاياها في جيوبنا، فما أرذل احتراق الجيوب حين تحترق القلوب.

ولما اقتربنا من تمثال آلام الوطن، ترجموا لنا أبياتا من الشعر المنقوش على قاعدة التمثال:

"هنا ترقد ألوف مؤلفة
"من الرجال والنساء والجنود والأطفال
"يخلدهم الجرانيت
"ولكننا نريدكم أن تعلموا
"أننا لن ننسى أي واحد منهم
"وإلى الأبد.."

الجرانيت ميت، لا حياة فيه. وكذلك ميت هذا الوصف، لا حياة فيه. لا أدري اذا كان من الممكن التقاط صورة فوتوغرافية للبرق. وحتى لو كان ذلك ممكنا فلن تسجل وميضه. ألم تلاحظ، حين يومض البرق أمام عينيك، انك تنتبه إلى ما يريك مما حجب الظلام عنك أكثر من انتباهك إلى رؤية البرق نفسه.

ولكننا رأينا صورة فوتوغرافية للبرق.

ففي جانب من ساحة المدافن الرحبة، على الطرف الأيمن من مدخلها، قام بناء متواضع جمعت فيه بعض آثار الضحايا التي تدل عليهم وعلى ما قاسوه.

وحين دخلنا هذا البناء المتواضع بحلقت في عيوننا عينا طفل ممزق الثياب، ضامر العود، مثل شجرة تين منسية في حقل منهوب من حقول بلادنا، في الخامسة أو في السادسة من عمره، في شارع عام، بين أطلال وخرائب، ودخان ، وموت، في صورة فوتوغرافية كبيرة. كانت عيناه ذابلتين في ذهول . ما هذا ؟ لماذا؟ أين أذهب؟

عيناه فقط مفتوحتان. وأما كل شيء آخر فيه فمقفل، من فمه حتى قبضتيه النحيلتين.

ما كاد هذا الصبي يتفتح على رعاية أمه، ويعرف أنه اذا ناداها مسحت بحنان كفها أوجاعه، حتى جاء هذا الشيء، الذي لا يعرف ان اسمه الحرب. فأقفل فمه عن مناداة أمه، الظالمة، التي تأبى أن تسمع، والتي تأبى أن تتحرك، والتي تأبى أن تجيب. وفي صدره سؤال أقفل فمه عليه: لماذا لا تردين يا أماه؟

واندفعت زوجتي خارج البناء المتواضع وهي تنشج. فلحقت بها: ما هذا؟ فقالت: ألا يشبه ولدنا؟

لا،لا، هؤلاء لا يشبهون أحدا. فما من أحد تحمل ما تحملوه. ولا يزالون يتحملون. ولا نزال نطلب منهم أن يتحملوا.
ولكن مرافقينا اللينينجراديين نادوا علينا أن نعود. وقالوا: انه لا يمكن أن نذهب دون أن نرى المفكرة.

أية مفكرة؟

ودخلنا البناء المتواضع ورأينا المفكرة مصونة تحت غطاء من الزجاج، حتى تبقى المفكرة.

هذه مفكرة طفلة ليننجرادية كانت في السابعة من عمرها حين كتبت هذه المفكرة الأولى على حصار ليننجراد، واسم هذه الطفلة هو تانيا سافتشيفا.

على دفتر مدرسي بال كتبت يومياتها.

كتبت؟
تستطيعون أن تتخيلوا ما تستطيع طفلة في السابعة من عمرها أن تخط بقلمها.

على صفحة الدفتر الواحد ثلاث كلمات أو أربع كلمات، مائلة إلى أسفل، غير مستقيمة الأحرف. ولذلك تمتلئ الصفحة.
وترجموا لنا ما جاء في هذه الصفحات. ولم أجسر على تدوين ما ترجموا . ان للمكان رهبة، وان في اليد رجفة. ولكن هذه اليوميات جرت، صفحه صفحة، على ما يشبه المنوال التالي:

"اليوم ماتت جدتي"
"في الصباح لم يستيقظ أخي الصغير"
"اليوم حملوا صديقتي الصغيرة على زحافة"
"علمت اليوم أن جارتنا ماتت"
"اليوم ذهبوا بأمي النائمة ولم تعد"
وكان آخر سطر، في آخر صفحة ، في المفكرة:
"اليوم بقيت لوحدي"

لقد وجدوا هذه المفكرة بين الخرائب. وقالوا انهم وجدوا صاحبتها الطفلة تانيا. وحاولوا انقاذها من الجوع. ولكنها لم تعش بعد ذلك طويلا.

ولم أنتبه إلى نفسي إلا بعد أن قلت لهم: سأكتب عما شاهدت.

ولكنني في تلك الليلة لم أنم من غصات الندم. سأكتب؟ ما شاء الله! وهل أحملهم جميلة؟ وهل يقوى هذا القلم، الذي يراه صوان الجرائد، وضيقت أفقه سجون الهموم اليومية، على ترجمة ما انطفأ في العينين المشدوهتين، وما ومض في الأسطر العاتبة؟

حتى وقعت في يدي رسائل فتاة مقدسية، صبية في الثامنة عشرة من سنيها، رهينة في سجن الرملة، شبه يوميات، أو مفكرة، بعثت بها إلى والدتها، في غفلة عين.

وكانت ، في غفلة عين، كتبتها على ورق سجائر "ديجل". التي يسمح بارسالها إلى السجناء. وتوزع عليهم أربع سجائر في اليوم الواحد. ولا تنتظروا مني تفاصيل أخرى.

ان الخيال، هنا، يمتزج بالواقع حتى لا تستطيع أن تفرق الحقيقة عن الخيال. مثلما أمسينا، بعد أن أوغلنا في العمر، لا نميز بين ما وقع لنا في شبابنا وما كنا نحلم ، آنذاك، بأن يقع لنا.

وعليك أن تفترض أن حادث الفتيات المقدسيات الثلاث، اللواتي اعتقلن بتهمة تهريب السلاح أو التستر على تهريبه، وما ثار حول اعتقالهن وتعذيبهن من ضجة في الصحف وفي الرأي العام وما نشر عن حشرهن مع نسوة ساقطات، وعن اطفاء السجائر المشتعلة في أجسامهن البضة. وغير ذلك من الاهانات ومحاولات الحط من الكرامة. وما أستطيع أن أتصوره. وما أعرفه. عن أوضاع السجون، وجوع السجين في السجون إلى الحرية وإلى الكرامة الانسانية والى الطمأنينة وإلى الأصدقاء وإلى الطعام وإلى الشمس وإلى العطف، وقلق السجين في السجون على قلق الأهل عليه وخوفه عليهم من أن يقلقوا. ذلك ما أوحى إلي بفكرة هذه الرسائل، اليومياتـ المفكرة.

ولنعط الفتاة، صاحبة الرسائل اسم فيروز. ولنبدل في أسماء أحبائها الذي تذكرهم في رسائلها تبديلا.

لماذا اخترنا لها هذا الاسم ولم نختر لها اسم تانيا، مثلا؟ لأن تانيا أصغر منها سنا. ولأننا نعتقد انها ستعيش بعد ذلك طويلا. ولأن تانيا، بالذي عبر عليها أكبر منها.

واخترنا لها اسم فيروز لأن هذا الاسم يؤثر فينا، بهدأة صوته وبهدهدة ما احتواه هذا الصوت، مثل تأثير والدة على ولدها، وقد احتضنت رأسه المصدوع، وأخذت تمسح على جبينه رتيبا رتيبا، خفيفا خفيفا، حتى يذهب صداعه.
ولن أطلعكم على هذه الرسائل كاملة بل سأختار ما يحلو لي مما احتوته، وما يحز في نفسي، وما يحز في نفوسكم، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.


الرسالة الأولى

ماما الحبيبة

لك ولكل الأهل أجمل الأماني وأطيب الدعوات. سنلتقي مرة أخرى بخير وبسرور وبانشراح وباشراق جديد.
أرجو أيتها الحبيبة أن تحافظي على صحتك وأن تهدئي من أعصابك، فقد كبرنا وصار علينا أن نتحمل مشاكلنا بأنفسنا.
ربنا يعوض تعبك علينا خيرا وسعادة فقد حملت عنا الكثير. واليوم آن الأوان أن نتحمل أفراحنا وأتراحنا.

أستحلفك بالله العزيز أن تهدئي نفسك وأعصابك. وأن تصلي لنا دونما قلق.

لا تقلقي علي ولا على وظيفتي، فهي مضمونة.

اكتبوا لحسن دوما (هذا خطيبها وهو معتقل أيضا – ا . ح).

وأنت يا أختي الحبيبة اكتبي لحسن ولزوجك أيضا (وزوج أختها معتقل ايضا – ا.ح).

أنا الآن أعيش في غرفة جيدة مع بقية الفتيات العربيات ونتسلى مع بعض.

أنتم طبعا لا تعرفون أي شيء. ولكن لا تقلقوا، أرجو ارسال الأغراض التالية مع أي شخص أو مع المحامي.

1 - مجلات عربية وانجليزية موجودة تحت الطاولة بجانب سريري.

2 - فرشاة الشعر وشبشب بلاستيك وصابون نابلسي ومعجون أسنان.

3 - الشلحات والبلوزات وكم تنورة مرتبة فيجب أن نكون في منظر جيد أمام اليهود.

4 - زيت زيتون في علبة صغيرة حديد لأن الزجاج ممنوع. كل المسؤولين عنا أخلاقهم جيدة لا تخافي.

5 - بطيخة صغيرة + 2 كيلو ليمون حامض + تفاح من الجيد + موز وخوخ + عنب أسود وأبيض + بندورة وخيار+ مخلل خيار من مطعم نظيف + زيتون في كيس.

6 - دجاجة أو اثنتين مع بصل + كباب مثل الذي أحضرته الأخت وقد اشتقت اليه كثيرا. فتاة معي تريد ديك. ها. ها. ها. أرجو يا أخت أم الوليد عدم نسيان أي شيء. كل الأغراض تدخل. ولا تفهموا من هذا أننا جياع. لا تقلقوا. فنحن نقضي الوقت في الغناء وفي سرد النكت والأحاديث الحلوة.

وكثيراً ما أنظم الشعر.

وصديقة أخرى تقول ما أحلى هواء السجن، سجن الرملة، ليس مثله هواء نتانيا. فلا تقلقوا.

على فكرة كل الفتيات العربيات اللواتي معي علمتهن الصلاة وكثيرا ما نصلي للمحامي فهو يبذل مجهودا كبيرا.

أرسلوا لي رسائل حسن حتى أقرأها. نحن نصلي ونقرأ القرآن، وكثيرا ما أصلي من أجل روح والدي. كذلك أدعو لكم جميعا.

أهديكم أغنية طول ما أملي معايا والحب في قلبي.

وإلى اللقاء قريبا.

"ابنتكم"

الرسالة الثانية

ماما الحبيبة

الحمد لله انكم في صحة جيدة. وفرحت كثيرا حين أخبرني المحامي أنكم ستزورونني في الأسبوع القادم وتحملون الينا المآكل الفاخرة التي طلبتها. معناه رسالتي وصلت، ومعناه أن هذه الرسالة ستصل أيضا. الله يكتر من الناس الطيبين. صديقتي تقول لي أنه يوجد ملائكة حتى في جهنم.

وهي صديقة جديدة أحب أن أحدثك يا ماما عنها. فهي ليست من عندنا بل من حيفا. يعني عربية من اسرائيل. وهي معتقلة منذ حرب حزيران بدون محاكمة أيضاً وبتهمة الاتصال بالعدو. وفي هذا الأسبوع نقلوها إلى غرفتنا، التي تسمى قاووشا. فرحبنا بها وأصبحت واحدة منا كأنما نعرف بعضنا منذ الصغر.

وهي من عائلة الساري من حيفا وكانوا يسكنون في وادي الصليب أي حيث كانت عائلتك تسكن يا ماما. وتقول أن مامتها ولا شك تذكركم.

وهذه الصديقة الحيفاوية هي شاعرة مثلي – احم، احم – وصاحبة نكتة برضه – وتشاركنا في الغناء. ولكن بينما أنا أحب عبد الوهاب هي لا تفضل على فيروز أحدا. وخصوصا "راجعون، راجعون".

ونجلس حولها ونتعجب من أفكارها. فلما سألتها: ماذا يحركك في أغنية "راجعون، راجعون" وأنت لم تنزجي ولم ترجعي بل بقيت في وطنك؟ أجابتنا: وطني؟ إنني أشعر أنني لاجئة في بلاد غريبة. أنتم تحلمون بالعودة وتعيشون على هذا الحلم. أما أنا فإلى أين أعود؟

ويا حبيبتي أم الوليد هذه الصديقة الحيفاوية تعشق، مثلك. المتنبي وشعره. وحين تتحدث عن فردوسها المفقود، وعن وطنها الذي تعيش فيه ولا تشعر بوجوده، تردد أبيات المتنبي التي تعلمناها منها، وصرنا نغنيها على أنغام حوليات أم كلثوم:

مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
هل تعرفينها يا أم الوليد؟

وتقول هذه الصديقة الحيفاوية أنها لا تشعر بالوطن الا حين تجلس في الليل قبل النوم إلى جانب والدتها على الفراش، وتحدثها والدتها عما مضى من أيام حين كان اخوتها الستة في البيت. وينامون على الأرض. ويتضاحكون ويتشاجرون. وفي الصباح تصر الأم لهم الزواويد. هذا يذهب إلى عمله وهذا يذهب إلى مدرسته. واخوتها الستة تفرقوا الآن في أنحاء الدنيا، في الكويت وفي السعودية، وفي أبي ظبي، وفي بيروت، وواحد في القبر.
ولديها أيضا عن فراق أخوتها بيتا شعر، لشاعر قديم، وها هي تكتبهما الآن في هذه الرسالة بخط يدها:

قد كنت سابع سبعة لي اخوة

لو أن شيئا يا دريم يدوم

ذهبوا بنفسي أنفسا اذا ودعوا

فالعيش بعد مقتم مذموم

أليست أفصح منك يا أم الوليد؟

وهي تنتصر علينا جميعا حين نتبارى بالشعر مع أنني في بعض المرات، حين أعجز ، أنظم البيت المناسب. فتقول لي: مكسور، ولكن لا بأس، من أجل خاطر والدتك الحيفاوية!

وسألناها: بما أنك تعيشين في هذه البلاد، وتعرفين أكثر مما نعرف، كيف ترين المستقبل؟

فأجابتنا بلوعة: ما أن أفكر بالمستقبل حتى يتراءى لي الماضي. ماذا أقول لكن؟ ان المستقبل الذي احلم فيه هو الماضي؟ وهل هذا ممكن؟

الآن فهمت يا ماما لماذا ترفضين أن تزوري حيفا. ماما الحنونة: ألم تخافي من أن تشعري بما تشعر به هذه الفتاة الحيفاوية؟
ما كنا نعرف مشاعر اخواننا الذين بقوا.. ولا مأساتهم.. فهل هي أكبر من مأساتنا؟

على فكرة. اذا وصلت هذه الرسالة اليكم قبل أن تأتوا لزيارتنا فأرجوا أن تطبخوا الدجاج مسخنا وليس محمرا بطلب خاص من شاعرتنا الحيفاوية التي تقول أنها معنا، حتى في هذا القاووش، تشعر الآن أنها في وطنها.

ولا تنسي يا ماما الشكولاته والبسكويت المحشو العربي وملبس من صناعة نابلس في كيس نايلون من الجنس الجيد.
وأرجوا ارسال كعك بسمسم حوالي ست، وضعيهن في كيس نايلون، حتى لا يجفوا.

انتبهوا كي تكون الفواكه صلبة حتى تدوم طويلا خاصة البندورة ولأن الأكل كثيرا ما يكون جافا. ولكن لا تقلقوا.

اطلبوا من لميا أن تصنع لي حلبة وقبلاتي وقبلات الصديقة الحيفاوية لها.

أرجوا ارسال فلافل من عند عبده بعشرة قروش ومخلل وفلفل. أرسلوا بزر وقضامة، يعني مخلوطة من الحمص أوقيتين. وبرمة بفستق حلبي كيلو ضروري جدا. فنحن نفتقد الطعام والحلويات كثيرا. ولكن لا تحزنوا.

اياك يا أم الوليد أن تنسي شيئا فالنقود مع امي. خذي منها واشتري لي. أوصي عمتي وعمي بشأن زيارة حسن.

سلامي لكل السمر. سلامي لنونة الحلوة الصغيرة. وإلى حماتي وحماي الأعزاء.

هل أهديتكم في الرسالة السابقة أغنية؟ لا بأس من أن اهديكم اياها حتى ولو كان الاهداء للمرة الثانية.

أهديكم أغنية طول ما أملي معايا والحب في قلبي.

هذا ما أحاول أن أزرعه في قلب صاحبتي الحيفاوية.

وإلى اللقاء قريبا.

"ابنتكم"

الرسالة الثالثة

ماما الحبيبة

......................
......................

(ولكنكم قرأتم هذه الرسالة ، كما قرأتها، في الصحف. لقد نشروها أثناء محاكمة الشرطية اليهودية التي طردوها من وظيفتها وحكموا عليها بسنة حسن سلوك حين وجدوا أنها هي التي تهرب رسائل فيروز إلى والدتها. ان الملائكة موجودون حتى في جهنم!

غير اني متأكدة أن ما نشروه مليء بالتشويهات. ان كل ما ورد في الصحف، على انه من هذه الرسالة حول "الاتفاق مع الفتاة الحيفاوية على تنظيم خلية سرية داخل اسرائيل" هو محض تشويه لصداقة بريئة بين فتاتين من شعب واحد. اجتمعتا بعد فراق طويل، تحت سقف واحد، سقف القاووش.(


* المصدر: اميل حبيبي, الأعمال الأدبية الكاملة, الطبعة الأولى – نيسان 1997, الناشر: سلام اميل حبيبي, صفحات: 143-159.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى