أشرف صالح محمد - مكانة حواء فى المجتمع المملوكى

حواء مصر المملوكية، "أرق نساء الدنيا طبعًا وأحلاهن صورة"، سكتت وأُسكتت لقرون طويلة فى الحريم السلطانى داخل أسوار القلعة، تحيا فى عالم يكتنفه الغموض وتلفه الأسرار والحكايات، وكلما سمعت صوتًا غليظًا يفتح باب مقصورتها الخاصة، دارت بها الأرض من الرهبة وراحت فى إغماءه طويلة. وداخل بيوت قاهرة القرون الوسطى، توجب على حواء لسنوات طويلة أن تخرج رأسها من "المشربية" وتلوى عنقها بإرادتها مع تيار الهواء البارد الذى يمر بين البيوت القريبة من بعضها، تختلس نظرة إلى المارة فى نهاية الزقاق المتعرج المبلط بالحجارة المضلعة.

تمثل فترة دولة المماليك (1250 – 1517م) فترة حاسمة فى تاريخ الحضارة الإنسانية بصفة عامة والعربية الإسلامية بصفة خاصة، فبها الكثير من الأحداث الكبيرة، كما أنها حفلت بالعديد من السلاطين العظام الذين تركوا لهم بصمات على صفحات التاريخ. لقد استطاع المماليك أن يشيدوا إمبراطورية ضخمة حققت وزنًا فى السياسة العالمية فى العصور الوسطى، إلا أن عصر المماليك هذا كانت له آثار سلبية مدمرة فى عدة ميادين اجتماعية، واقتصادية، وثقافية،(1) ويهمنا هنا مكانة المرأة فى ذلك العصر من واقع المصادر المعاصرة.

نساء السلاطين والأمراء

لقد تمتعت المرأة فى عصر سلاطين المماليك بقسط وافر من الاحترام، فالمماليك (النخبة الحاكمة) نظروا إلى نسائهم نظرة تفيض بالإجلال والتقدير، وخصصوا لهن الألقاب مثل: بركة الدولة، خاتون (أى أميرة)، المصونة، المعظمة، الدرة،... وغيرها(2) من الألقاب وعبارات التبجيل التى تبدو بوضوح فى مكاتبات السلاطين لبناتهم وزوجاتهم وأخواتهم، والتى سجلها القلقشندى (ت. 832هـ) فى كتابه "صبح الأعشى".(3)

ويرى بعض المؤرخين أن الرحالة والمستشرقين فى القرون الوسطى نقلوا صورة مغلوطة عن أوضاع المرأة فى المجتمع المصرى والشرقى عمومًا، فصوروها كملكية يتم تداولها، مكانها الأساسى هو "الحرملك"،(4) جارية لا حول لها ولا قوة، وتناسى هؤلاء المستشرقون ما للمرأة من دور فى هذا المجتمع، فلولا "شجرة الدر" التى تسلطنت (1250م) بعد رحيل زوجها الصالح أيوب (1240– 1249م) وكتمانها نبأ وفاته،(5) بينما الجيش المصرى يحارب الغزوة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع الفرنسى عند المنصورة لانهزم الجيش واستولى لويس على البلاد.

كما أن هناك نساء لعبن أدوارًا قوية جدًّا، ولم يصلن إلى الحكم ونذكر منهم (الست مستكة) إحدى جوارى السلطان المملوكى الناصر محمد بن قلاوون، التى قامت بالإشراف على شئون الحريم السلطانى وتربية أولاد السلطان، ولعبت دورًا كبيرًا فى حياته فكانت بجانبه فى كل النوائب والمحن التى واجهته، وهو الدور نفسه الذى قامت به (خوند بركة) مع أبنها السلطان الأشرف شعبان خلال فترة حكمه (1363 – 1377م).

ومن هنا لم يجد السلاطين المماليك أى حرج أو غضاضة فى أن يشيدوا لهؤلاء النساء آثارًا تحمل أسماءهن حتى وإن كان بعضهن فى الأصل من الجوارى قبل عتقهن، ولذلك تزهو القاهرة ربما أكثر من أية عاصمة شرقية أخرى بالآثار الجليلة التى تحمل أسماء سيدات من هذا العصر.

الحريم والجوارى

ونفهم من هذا أن المرأة قُدرت فى المجتمع المصرى فى عصر المماليك، إلا أن ذلك التقدير لم يصل إلى الدرجة التى أصبح عليها فى المجتمعات الحديثة، فالمصادر نفسها صاحبة الإشارات التى تدل على مكانة المرأة فى المجتمع، جاءت بعبارات يفهم منها أن المرأة ظلت "محل الازدراء والاستخفاف"،(6) ويرجع السبب فى ذلك إلى أن نظرة المعاصرين إلى المرأة قامت على أساس أن الله خلق المرأة للمتعة والاستغلال ليس إلا، كما يتضح من كتابات المعاصرين؛ السيوطى فى كتابه "الإيضاح فى علم النكاح"، والتيجانى فى كتابه "تحفة العروس ومتعة النفوس".

وقد ظهرت هذه الفكرة بوضوح فى شغف الناس باقتناء الجوارى الحسان ودفع الأموال الطائلة فى شرائهن، حتى أن أحد السلاطين تزوج بأربع فى حين وصلت حظاياه وجواريه إلى أكثر من ألف ومائتين على حد قول ابن تغرى بردى (ت. 874هـ) فى كتابه "النجوم الزاهرة".(7) لذاك فإن جمع آلاف الجوارى فى القصور وهجرهنّ مدة طويلة كان السبب المباشر فى ظهور "المثليّات" سدًّا لحاجات جنسية ضاغطة فى مجتمع جعل السلطان يعدد الحرائر ويتسرّى بعدد لا يحصى من الجوارى.(8)

وقد سار الأمراء وعامة الأهالى على نهج السلاطين فى الإكثار من شراء الجوارى، كل حسب سعته، وفيما عدا اللذة الجنسية اقتنى الأمراء الجوارى للغناء والطرب حتى أصبح من الأشياء المألوفة فى عصر المماليك أن يكون لكل أمير جوقة مغان كاملة من الجوارى.

وقد ذكرت المصادر المعاصرة ما تعرضت له الجوارى من الأذى والامتهان نتيجة لوضعهن الاجتماعى واعتبارهن سلعة لصاحبها مطلق التصرف فيها، وحسبنا ما جاء فى قصة مريم الزنارية – من قصص ألف ليلة وليلة – عندما عادت مريم إلى أمها فسألتها عن حالها وهل هى بكر أم لا، فردت الفتاة على أمها "يا أمى ! بعد أن يباع الإنسان فى بلاد المسلمين من تاجر إلى تاجر يصير محكومًا عليه، فكيف أبقى بنتًا بكرًا؟ إن التاجر الذى اشترانى هددنى بالضرب وأكرهنى وأزال بكارتى ثم باعنى لآخر...".(9) وفى هذا الصدد يذكر المؤرخون أن بعض السادة أكثروا من إيذاء جواريهم، حتى حكى عن بعضهم أنه كان إذا ضرب إحدى جواريه، فإن ضربه لها يتجاوز الخمسمائة عصاة.

ويلاحظ أن الجوارى عشن فى قصور السلاطين والأمراء جزءًا أساسيًا من الحريم، فطُبق عليهن من قواعد العزلة والحجاب ما يطبق بالضبط على حريم السلطان أو الأمير. والفئة الوحيدة التى أبيح لأفرادها غشيان الحريم هى فئة الطواشية (الخصيان) بحكم ما لهم من وضع اجتماعى خاص. الجدير بالذكر؛ أن أهم الأعمال التى كانت تناط بالمملوك الطواشى هى مرافقة الحرائر أو النسوة من زوجات أصحاب النفوذ، وخدمتهن، ومن هنا فقد كان هذا الطواشى يعامل باحترام كبير من قِبل الزوج، فقد كان الزوج يعلم أنه محيط بالأسرار وأنه حارس على زوجته، وإذا غضب الطواشى من الزوج فإنه يستطيع أن يتستَّر على أفعال الزوجة أو يقودها، ومن هنا فإن الطواشى كان مفتاحًا من مفاتيح الانتقام من الزوج.(10)

المرأة القاهرية

ولم يقتصر الاحترام للمرأة على نساء السلاطين وأمرائهم، فهناك من الشواهد ما يثبت احترام عامة الشعب المصرى لنسائهم، وخير شاهد على ذلك تلك الألقاب العديدة التى أطلقها الناس على نسائهم وبناتهم مثل: ست الخلق، وست الناس، وست الكل، وست الستات... إلى غير ذلك من الألقاب من باب "الفخر والتزكية والثناء والتعظيم" على حد تعبير ابن الحاج (ت. 378هـ) فى كتابه "المدخل".(11)

إن المرأة القاهرية فى عصر سلاطين المماليك تفننت فى مختلف الوسائل التى تظهر بها جمالها وفتنتها، فحرصت على العناية بنفسها وجسدها. وكثيرًا ما خرجت نساء القاهرة إلى القرافات والبرك وشاطئ النيل وغيرها من أماكن اللهو والفرجة حيث ينكشف ستر الحياء؟، ويختلط النساء بالرجال، الأمر الذى أثار الفقهاء ورجال الدين، فنادوا بمنع خروج النساء على ذلك الوجه السافر. ولذلك حاول بعض السلاطين منع النساء من الخروج إلى الطرقات، أو الذهاب إلى المقابر، ومواضع النزهة.(12) ورغم القيود الاجتماعية التى فرضتها التقاليد على المرأة فى ذلك العصر، فإنها أسهمت بنصيب وافر فى الحياة العامة، وحسبنا أن السخاوى أفرد جزءًا كاملاً فى كتابه "الضوء اللامع" ذكر فيه ما يزيد عن الألف ترجمة، كلها لنساء توفين فى القرن التاسع الهجرى ولمعظمهن نصيب كبير فى الحياة العامة العلمية والدينية فى مصر فى ذلك القرن.

وفى مجتمع سيطرت عليه التقاليد وأغلق أبوابه فى وجه المرأة، ولم يسمح برؤية العروس إلا بعد الزفاف، كان راغب الزواج يقصد الخاطبة لأنها "تعرف كل حرة وعاهرة، وكل مليحة بمصر والقاهرة" وذلك على حد قول المؤرخ ابن دانيال فى مخطوط "طيف الخيال"، حيث كانت تتظاهر ببيع الطيب والبخور والمرايا وغير ذلك من لوازم النساء. وجرت العادة أنه إذا رضى الراغب فى الزواج بالمعلومات التى قدمتها له الخاطبة، فإنه يسرع إليها ثانيًا مقدمًا لها هدية قد تكون قرط من الذهب، ويرسلها من جديد إلى عائلة الفتاة لتبلغهم برغبته فى الاقتران بابنتهم. والراجح أن الفتاة فى العصر المملوكى لم يكن لها أى رأى فى اختيار زوجها، بل ظل الرأى الأول والأخير لوالدها، وربما شاركته فى ذلك أمها.(13)

وكان "المحلل" فى العصر المملوكى(14) بمثابة وظيفة يتفرغ لها بعض الرجال، يقفون على أبواب الشهود أو مكاتبهم فى الشوارع، فيأتى الذى طلق زوجته ثلاثًا إلى مكتب الشاهد ومعه طليقته، فيدله الشاهد على أحد الرجال الواقفين ببابه ليكون المحلل، فيتفق المطلق – الزوج السابق – مع المحلل على الأجرة ويدفعها له ثم يدخل الثلاثة مع ولى الأمر على الشاهد وأعوانه فيعقد قران المطلقة على المحلل، ويأخذ المحلل المرأة إلى خلوة قد أعدت خصيصًا لهذا الغرض، ويجلس فى انتظارهما الزوج السابق وولى الأمر وبقية الشهود. وبعد إتمام اللقاء يأتى المحلل بالمرأة للشاهد ومَنْ معه ليشهد أنه (حللها)، فيشهد المحلل والزوجة باللقاء الذى حدث بينهما، ويقوم المحلل بطلاقها، وتعود إلى البيت تنتظر انتهاء العدة ليعيدها الزوج السابق. هذا ما كان يحدث وذكره ابن القيم فى كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، حيث كان المحلل يمارس مهنته كبائعة الهوى أى يتزوج بدون تمييز، ومع كثرة التطليق وكثرة زواج المحلل، كان المحلل يتزوج امرأة كان قد سبق له الزواج من أمها بنفس الطريقة، أو أن يجمع فى زواجه بين أختين دون أن يدرى.

إن ثقافة المجتمع المملوكى التى سادت فترة طويلة من الزمن سلبت المرأة إنسانيتها، وأحالتها إلى متاع، وتمثلت خطورتها فى أنها استمرت بحيث جعلت المرأة تتقبل السجن المادى والمعنوى المفروض عليها، وظلت المرأة لأعوام عديدة تدور فى دائرة مفرغة، وكل قدراتها الإنسانية تنصرف فى محاولة دائمة ومريرة لنيل الحظوة عند الرجل.


الهوامش:

رجب محمود بخيت، تاريخ دولة المماليك.- القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2010. ص 469.
أحمد عبد الرازق، المرأة فى مصر المملوكية.- القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999. ص 16.
القلقلشندى، صبح الأعشى فى صناعة الإنشا.- القاهرة، 1914. (ج7، ص 166).
الجناح المعد للحريم فى القصور السلطانية عند العثمانيين، ويقابله لفظ: "الزنانة" عند الأيوبيين والمماليك. راجع: مصطفى عبد الكريم الخطيب، معجم المصطلحات والألقاب التاريخية.- بيروت: مؤسسة الرسالة، 1996. ص 226.
أبو الفدا، المختصر فى أخبار البشر/ تحقيق: محمد عزب، ويحيى حسين.- القاهرة: دار المعارف، 1998.(ج3، ص 220)
سعيد عبد الفتاح عاشور، المجتمع المصرى فى عصر سلاطين المماليك.- القاهرة: دار النهضة العربية، 1992. ص 146.
ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة.- القاهرة: دار الكتب المصرية، (1930 – 1972). (ج9، ص 210).
Stephen O. Murray, Will Roscoe, “Male homosexuality, Inheritance Rules, and the Status of Women in Medieval Egypt: The Case of the Mamluks” in Islamic Homosexualities: Culture, History, and Literature.- New York: New York university press, 1997. P.168.
ألف ليلة وليلة – قصة مريم الزنارية.- القاهرة: طبعة الحلبى، 1960. (ج4، ص 108).
ع.ع.، تراث العبيد فى حكم مصر المعاصرة: دراسة فى علم الاجتماع التاريخى.- القاهرة: المكتب العربى للمعارف، 1995. ص 72 – 73.
ابن الحاج، المدخل.- القاهرة: المطبعة المصرية، 1929. (ج1، ص 238).
سعيد عبد الفتاح عاشور، "نساء القاهرة فى عصر سلاطين المماليك".- ضمن أبحاث الندوة الدولية لتاريخ القاهرة (مارس – أبريل) 1969.- القاهرة: مطبعة دار الكتب، 1971. ص 572.
أشرف صالح محمد، "وثيقة زواج من العصر المملوكى"، مجلة الغرباء (لندن): (www.alghoraba.com).- مقالات.- منشور بتاريخ 2 حزيران (يونيو) 2010.
أحمد صبحى منصور، "نكاح المحلل".- صحيفة الحوار المتمدن (www.ahewar.org).- العدد 1349 بتاريخ 16 أكتوبر 2005.


* د. أشرف صالح محمد

.


صورة مفقودة


لوحة لنساء من مدينة البليدة للرسام الأمريكي المستشرق فريدريك آرثر ...
  • Like
التفاعلات: 2 أشخاص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى