أيمن مصطفى الأسمر - المتردد

يؤدي تغيير زاوية الرؤية لحدث ما إلى اختلافات مذهلة في تحليل الأحداث والوقائع، وعندما ينظر الإنسان إلى الأشياء من علِّ فإنه يرى الصورة بتفاصيلها كاملة أو شبه مكتملة، وقد لا يكون ذلك متاحا لمن يتابع الوقائع من قلب الأحداث فتغيب عنه تفاصيل هنا أو هناك، وقد أتاحت لي ظروف مختلفة ومتعددة أن أنظر إلى أحوال الوطن من خارجه، أتابعه بنظرة شمولية متفحصة، نظرة هادئة متعمقة بعيدا عن الانفعال اللحظي أو الهم الشخصي، رأيته من بعيد صارخا منكسرا، متألما نازفا من جروح لا يسعى أحد لتضميدها، يغرق أهله في الفقر والجهل والمرض، ويحاصرهم القمع والفساد وغياب العدل والقانون، رأيته دولة متداعية ومؤسسات نخرها السوس، كانت الأحوال كابوسية والصورة شديدة القتامة، لا ترضي أحدا إلا إن كان عدوا حاقدا، أو صديقا حاسدا، كان الأمر يؤرقني لكنني شعرت بالعجز وقلة الحيلة، فماذا بيدي أن أفعله لتغيير صورة الوطن وأحواله؟ فرجل واحد مهما أتيح له من العلم والخبرة والتجربة بأمور العالم لا يمكنه أن يفعل شيئا بمفرده، ترددت كثيرا لكنني قررت في النهاية أن أتحرك قدر استطاعتي، بدأت على استحياء في إطلاق بعض الدعوات لإصلاح ما أفسده النظام الحاكم الذي بدا أنه فقد كل وعي أو إدراك، إلا إدراكه ووعيه لمصالحه هو ومصالح المنتفعين من حوله، قوبلت دعواتي بهجوم شرس من أجهزة النظام الرسمية وغير الرسمية، مسني الهجوم بصورة شخصية وعلت به نبرة السخرية والتصغير، إلا أنها قوبلت أيضا بترحيب غير متوقع من بعض الجماعات والحركات والأحزاب التي تحاول التصدي للنظام وأتباعه، بل تجاوب معها الكثير من بسطاء الناس الذين أنهكهم الفساد وأرهبهم الاستبداد، كان ذلك مشجعا إلا أنه لم يكن كافيا كي أتحرك وأرفع صوتي بقوة مطالبا بإصلاح أحوال الوطن، ففي النهاية لست إلا فردا واحدا لا يملك تفويضا من أحد ولا يستطيع فرض نفسه على أحد، قررت أن أتعامل مع الأوضاع بقدر كبير من الحكمة والهدوء، أروح وأجيء، أقترب وأبتعد، أتكلم وأصمت، أطلق بالونات اختبار وأراقب ردات الفعل عليها، ألتقي بأفراد وجماعات وأستطلع آرائهم، ورغم كل ما صادفني من عقبات إلا أن الأمور كانت تسير بشكل لا بأس به، كانت الأيام تمضي برتابة والنظام واثقا مطمئنا لمخططاته، متجاهلا لتذمر الشعب وبذور الغضب التي تنمو سريعا لتصبح غابات من الثورة، ثم تسارعت الأمور بشكل غير محسوب لم أتوقعه أنا شخصيا، فأدت أحداث خارجية وأخرى داخلية إلى اضطرابات بطول البلاد وعرضها، بدأت الاضطرابات هادئة حذرة وقابلها النظام باستخفاف بالغ، كنت لحظتها بعيدا أتابع الأحداث مفكرا متأملا، ثم استعرت الأحداث فجأة وتحولت إلى فوضى جنونية وغضب عارم، وخرج الشباب ومن ورائهم بسطاء الناس بالآلاف ثم الملايين إلى الشوارع والميادين ولا أحد يعرف كيف خرجوا، تجمعوا حول شعارات وهتافات بسيطة إلا أنها معبرة، لم يبرز من بينهم قيادات واضحة فقررت بالاشتراك مع شخصيات عامة تعاملت مع أغلبها خلال الشهور السابقة أن نعمل على توجيه غضب الناس لتحقيق ما كنا نطالب به من إصلاحات متنوعة، إلا أن غضب الناس كان هائلا بدرجة لا يمكن استيعابها أو التماشي معها، كنا نحاول لاهثين اللحاق بهم فإذا بهم يتخطون ببساطة الكثير من الحواجز ويرفعون العديد من المطالب التي كنا نعتبرها بعيدة الأجل، تعامل النظام بغباء شديد لكنه متوقع مع الأحداث فعجل بنهاية سريعة لم يتوقعها أحد له ولها، وقفز الجيش إلى واجهة الأحداث مستغلا حالة الفوضى والارتباك وقلة الوعي فأمسك بالسلطة، لم يروقني الأمر إلا أنه بدا حلا وسطا مناسبا وبديلا للفوضى، بدأت في الاتصال مع العديد من القوى السياسية ذات التوجهات المختلفة، كنت آمل أن نتفق جميعا على أرضية مشتركة ننطلق منها لتحقيق أهداف الإصلاح التي خرج الناس من أجلها، إلا أن كل فريق ارتد إلى حالته وتمسك بمواقفه الفكرية ومطامعه الخاصة، بدا الأمر محبطا ولم أنجح في تحقيق إجماع وطني على أهداف واحدة، قررت أن أبتعد قليلا وأتابع الأحداث عن كثب، تتابعت وتزامنت الأحداث من سيء إلى أسوء، فتفتت القوى الثورية وتشبثت الحركات والجماعات والأحزاب بمواقفها ومصالحها، وافتقد الناس الأمن وتصاعدت أعمال البلطجة والنهب والسلب، وسقط النظام اسميا لكنه ظل قائما فعليا، وازداد الأمر سوءً بدخول الدين إلى ملعب السياسة، وغرقنا في دوامات من الجدل والجدل المضاد، ووضعت خارطة طريق معيبة فندت عيوبها إلا أنني لم أفلح في تعديلها فانسحبت من المشهد، ثم اضطرني تتابع الأزمات واشتدادها إلى أن أعود إلى الساحة على مضض، كنت أتوقع أن تنفجر الأوضاع بصورة أشد قسوة وأكثر حدة وحذرت كثيرا من ذلك، إلا أنني فشلت في السيطرة على الناس أو دفعهم إلى التوقف للتفكير والتأمل، حاولت كثيرا أن أدفعهم إلى تحكيم العقل والمنطق، إلا أن الفقر والجهل وقلة الوعي منعهم من ذلك فاستغلهم من يريد لمصالحه الخاصة، كنت أعجب لمن لا يريد أن يتعلم من تجارب الشعوب والأمم الأخرى ويصر على تكرار أخطاء الماضي، فتسلح من نجح في الاستحواذ على السلطة بسلاح الشرعية، وتسلح غيرهم بسلاح الثورة، واتخذ البعض من المال والعنف سلاحا، فيما استخدم آخرون الدين وآخرون الإعلام، تعددت الفرق والجماعات وتعددت معها الأسلحة، فيما الثورة تائهة، والشرعية حائرة، والدين يتضرر، والإعلام ينفخ في النار، حاولت قدر استطاعتي أن أجمع الشتات فشكلت ائتلافا وطنيا واسعا، آملا أن أجعل منه حلقة وصل بين جميع الأطراف وبارقة أمل وضوء وسط ظلام دامس، إلا أن العناد والإصرار على تغليب المصالح الخاصة منعاني من تحقيق غايتي، قررت أن أبتعد مرة أخرى وأراقب الأوضاع كما راقبتها سابقا، فقد يأتي الزمن والصبر باللحظة المناسبة، فينضج الناس ويتعلمون من أخطائهم، ويتغلب العقل والمنطق على الجهل والعنف، لحظتها سأعود طواعية لأقدم خبراتي وخلاصة تجاربي من أجل الوطن.

فبراير 2013
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى