حيدر العايب - وائل حلاق.. الأخلاق من الهامش إلى المركز.

استدعاء وائل حلاق قد ينطوي على مفارقة خاصة لدى أولئك المفتونون بسباق التصنيفات المانوية مفادها أنّه ذي أصول عربية مهتم بالتراث العربي والإسلامي وبالضبط المدونة الأصولية والفقهية الإسلامية بيد أنّه كمفكِّر وأكاديمي ولاهوتي مسيحي يموضع ذاته ضمن نطاق الحضارة الغربية المعاصرة فالرّجل يفكِّر للغرب ويتفاعل مع قضاياه الأنطولوجية والقيمية والسياسية الراهنة، كما أنّ مسعاه الفكري يُضاف إلى مسعى المفكرين الغربيين المعاصرين الانجلوسكسونيين منهم على نحو أخص من هؤلاء ألسدير ماكنتاير Alasdair Maclntyre وتشارلز تايلور Charles Taylor وتشارلز لارمور Charles Larmore هذا المسعى كما أخبر به حلاق "يجب علينا أن نبحث عن مصادر أخلاقية في تقاليد أخرى، مصادر ربما تساعدنا في مغامراتنا الاجتماعية والاقتصادية والسّياسية والقانونية"[1]. وعليه يبدو جليا على أنّه ينسب ذاته لتقليد آخر غير التقليد العربي أو الإسلامي، وأنّ هدفه هو البحث عن مرجعية أخلاقية أكثر ثراء وتماسكا أنطولوجيا، "ومع أنّه ينتمي فعليًّا ومهنيًّا إلى الحداثة وإلى المجتمع الغربي، فإنّه عرف بكونه ناقدا جذريا لهما، مجادلا النّموذج السياسي والأخلاقي الغربي، ملتقيا في ذلك بعديد المفكرين الغربيين"[2].

إلاّ أنّ الذي جعله يختلف عن هؤلاء ومحاولاتهم أنّ اختياره وقع على تقليد أو تراث اللّجوء إليه من طرفهم يبدوا لهم أمرا مستحيلا ففي نظره "قد اقتصر هؤلاء لسبب مفهوم على ما سمي التراث الأوربي، وبحثوا عن إجابات لأسئلتهم لدى أفلاطون PlatoوأرسطوAristote وتوما الاكوينيThomas Auinas ومن شاكلهم... أمّا نحن فسوف نركّز بحثنا هنا على المصادر الأخلاقية الإسلامية، نظرا لأنّ للمسلمين تراثهم الخاص بهم، وهو تراث ضخم وثري يضرب بجذوره في قرون من الإنجازات الثقافية... بعبارة أخرى"[3]. رجوع وائل حلاق للمدونة التراثية العربية والإسلامية هو ما جعله خليقا بالاهتمام ليس لاعتبارات ذاتية بل لأنّ موقفه هذا خلق توازنا مع بعض المفكرين العرب الذين بحثوا عن حلول أخلاقية من إنطلاقا من تجربة الحضارة الغربية.

إنّ أطروحة وائل حلاق تسعى أساسا إلى تجذير القيمة في قراءة الواقع والتراث -أو التاريخ- بإخراجها من النطاق الهامشي وموضعتها ضمن النطاق المركزي الخليق بها. تستحيل بموجبه الأخلاق إلى نموذج تفسيري ورؤية للعالم قرأ بموجبها قضايا إسلامية تراثية ومعاصرة منها الشريعة والفقه، وعلاقة الدّولة بالشريعة، وإمكانية الغرب المعاصر الاستفادة من التجربة الأخلاقية الإسلامية مع تأوله لتلك العلاقات ايتيقيا جعلت مقاربته أبعد ما تكون عن المماحكات السياسية والثنائيات المانوية لعلاقة الأنا بالآخر التي تعج بها الأوساط الثقافية والإعلامية وحتى الفلسفية خلقت حرجا مضاعفا لإحراج أوطيفرون.

يزخر متن وائل حلاق بعديد المرجعيات الغربية المعروف عنها بنقدها الجذري للمشروع الحداثي زيادة على غناه بمفاهيم تفكيكية للبنى الفكرية والمقولات التأسيسية للحداثة الغربية من قبيل "النموذج" و"النطاق المركزي"، "النطاق الهامشي أو الثانوي"،... دون أن يُفهم من ذلك تنكره المطلق للمشروع الحداثي، فمحاولته هي إحداث توازن بين مكونات الحداثة الثلاث المعرفي أو الفلسفي والاقتصادي والسياسي عبر موضعتها في نطاق أخلاقي بديل، بداية بتجديد فهمنا لماهية الأخلاقية انتهاء بإعطائها نطاقا مركزيا، فــالأخلاقية "لا تعني معاملة شخص مجهول بالنّسبة إليك، ومن غير المحتمل أن تلقاه ثانية، كما تعامل نفسك، ولكن الأهم هو عدم القدرة على -أو الامتناع عن- ارتكاب عمل ما ليس لأنّك لا تستطيع فعله من حيث المبدأ، بل لأنّك لا تستطيع العيش مع نتائجه ولا تسمح لنفسك بمواجهة تلك النتائج"[4].إهمال هذا الفهم للأخلاقية هو ما يطبع على ثقافة العصر الحديث، وعليه "فإنّ تقهقر الأمر الأخلاقي إلى مرتبة ثانوية وفصله بصورة عامة عن العلم والاقتصاد والقانون وما إلى ذلك، كان في جوهر المشروع الحديث"[5].

لذا ما لاحظه حلاّق في أمر الحداثة اقصاءها الجذري لأمر لأخلاقية ما جعلها تبدوا مشروعا اقتصاديا وسياسيا ذي خلفية معرفية مفصولة عن القيمة من مظاهرها؛ أنّها اجحفت بحق ثلثي سكان العالم فالفقر والمرض والجوع إصر البشرية كان من ورائه المشروع الحداثي المنفصل عن القيمية وقيمة قيمه "التقدم". كذلك التفكك العضوي والاجتماعي والأسري وانهيار الأنظمة التقليدية بفعل تنامي النزوع الاقتصادي الرأسمالي. ثم، دمار مملكة الطبيعة وما تبعه من إحراج إيكولوجي تجد الإنسانية نفسها مسؤولة عليه[6].

الأمر الذي جعل حلاق يصارع مع المشروع الحداثي إنطلاقا من الفاعل السياسي والاقتصادي المعبّر عنهما في صورة "الدّولة الحديثة" وظاهرة "العولمة"، فكما يعبر عنه قائلا: "لا يكون ثمة مجال لاستجواب المشروع الحديث من دون وضع الدّولة في صدارة النّقد"[7]. إلاّ أنّ في نظره تبقى تلك المجالات غير كافية وأيّ نقد يطال ذينك المجالين دون أن يتغلغل في بنيتها التحتية التي تتفاعل بموجبها مجتمعة، يبقى نقدا ظاهريا للحداثة، لذلك فالأخلاق في نظره تبقى "النطاق المركزي" لأي نقد جاد ومعمق للمشروع الحداثي الغربي.

يعود بنا حلاق إلى مشروع التنوير الذي رفع الشعار الكانطي "العقل المستقل" فهو رأس الأمر وسنامه في الفصل بين عالمين لم يكونا منفصلين من قبل عالم الطبيعة والمعرفة من جانب وعالم المعاني والقيم الأخلاقية من جانب ثانٍ وذلك تبعا للقسمة المـُستحدثة التي افترضها العقل التنويري بين "ما هو كائن" و"ما ينبغي أن يكون"، وهو فصل أدّى إلى فصل لاحق أكثر شناعة بين "العقل" و"العلل"[8] جعل الكون يبدو ككتلة فيزيائية صماء لا غاية حكمية لها وأنّ العقل الذي يستمد استقلاله الذاتي من سلطته الخاصة على نحو ما تصوره كانط له حرية التصرف في هذا الكون بحرية مطلقة غير مقيّدة[9].

تصحيحا منه لهكذا وضع يستعيد حلاق البادرة الإسلامية التشريعية منها على نحو خاص كونها نظرت للأخلاق كنطاق مركزي جمعت بموجبه بين العقل والشرع في إطار "توليفة عظمى Great Synthèses"[10] وهو ما يعكسه رمزيا مفهوم "الأمّة الوسط"[11]، في حين أنّها لم تمثِّل نطاقا ثانويا في العالم الإسلامي إلاّ مع العصر الحديث خاصة مع تبني المسلمين نموذج الدّولة القومية بمرجعيتها الحداثية المتمركزة في نطاق الإنسان السيِّد أو الإنسان مركز الكون وتراجع مكانة الشريعة بفعل الحركات الاستعمارية التي فرضت على المسلمين مفهوم "الدّولة" كمفهوم أورو-أمريكي[12].

هذا في الوقت الذي كانت فيه الشريعة خلال عهدها الأوّل تشرِّع للعالم أجمع حيث كانت تمثل الأوامر القضائية للقرآن، مقترنة بالسياسات العامة للنظام الجديد، التعديل الوحيد للقانون العرفي السائد بين شعوب شبه الجزيرة العربية والقوانين التي تضم عناصر القبائل الأصلية، وإلى حد كبير الأحكام القانونية التي طبقت في المناطق الحضرية، وثقافات الشرق الأدنى لأكثر من ألف سنة[13]. إلى أن أصاب التشريع الإسلامي تشنج خلال القرن التاسع عشر "هكذا يلخص القضاء على الشريعة في القرن التاسع عشر كل شيء: لم تستطع الحداثة ودولتها أن تقبلا، ولا يمكن لهما أن تقبلا، الشريعة بمعاييرها، لأنّ هذه المعايير أخلاقية وذات نزعة مساواتية بصورة عميقة، بينما أنزلت الدّولة والعالم الذي أنتجته الأخلاق إلى منزلة النطاق الثانوي، وباختصار شديد كان النطاق المركزي للاستعمار هو الاقتصادي والسّياسي وليس الأخلاقي. كما يظل الاقتصادي-السّياسي هو النطاق المركزي للحداثة وعولمتها المتزايدة"[14].

هذا الانتقال التشريعي من الشريعة والفقه إلى الدّولة القومية الذي بموجبه أصبح القانون وفروعه من مشاريع الدّولة وتقلص تبعا لذلك دور الفقيه وسلطته القضائية يمثل "قفزة ضخمة إن لم تكن مدمِّرة في التراث والعقلية الإسلامية"[15].


[1] وائل حلاق. الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، تر: عمرو عثمان، ط1، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2014، ص 36.

[2] محمد بوهلال. الأخلاق في الحداثة من النطاق الثانوي إلى النطاق المركزي: مقاربة وائل حلاق، مجلة تبيُّن للدراسات الفكرية والثقافية، العدد 22، ص 65.

[3] الدولة المستحيلة، ص 36.

[4] المرجع نفسه، ص 35.

[5] المرجع نفسه، ص 36.

[6] المرجع نفسه، ص ص 33- 35.

[7] المرجع نفسه، ص 385.

[8] يقوم التصور الغربي للعقل على أساس الفصل بين "الحكمة Intellectus" من جهة، و"Ratio" الذي يعني المعرفة العلمية من جهة ثانية. وقد جرى تأكيد أحدهما على الآخر في مراحل مختلفة من الفكر الغربي إذ مَثَّلَ القديس أوغسطين "الحكمة" بمفهومها الأفلاطوني، في مقابل ذلك مثل توما الإكويني معنى المعرفة العلمية العقلية بمفهومها الأرسطي. ومع انتصار هذا الأخير "كَبَتَ الفكر الديني المسيحي جانب الحكمة في وظائف العقل ليبرز منها البعد العلمي القائم على عقلانية خالصة لا تعمل إلاّ في إطار طبيعة خالية من أي مغزى روحي". سيد محمد نقيب العطاس. مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، ص 61.

[9] وائل حلاق. المرجع السابق، ص ص 286-288.

[10] سيصبح لهذا المصطلح (Great Synthèses) مكانته عند وائل حلاق متى كان هنالك توليف بين حركتين متعارضتين داخل الثقافة الواحدة أو بين ثقافتين فأكثر، حيث استخدمه كذلك عندما أراد الجمع بين "أهل الرأي" و"أهل الحديث" في أصول الفقه أو بين "الفقه" (التقليد) و"الإدارة" (التحديث) في تسيير الشأن العام. راجع كتاب: WAEL B HALLAQ. The Origins and Evolutions of Islamic Law, p 124.

[11] الدولة المستحيلة، ص ص 291، 292.

[12] ليست الدّولة في نظر حلاق مجرد جهاز سياسي محايد على نحو ما فهمه الإسلام السياسي الذي أخذ يستثمر في هذا المفهوم ويبعث فيه روحا إسلامية، تماما كما فعل مفكرو الإسلام الأوائل مع المنطق الارسطي عندما ظنّوا آنّه مجرد "آلة للعلم" مُحايدة إلى أن تفطن ابن تيمية لعدم حياده وأنّه مشبع برؤية ميتافيزيقية معينة، وعليه تميل "الدّولة" لأن تشكيل نموذجا ورؤية مقابلة للرؤية الإسلامية للعالم، تتمحور حول فكرة الإنسان مركز الكون، وأنّ مصدر التشريع هو الإنسان لا سلطة أنطولوجية مفارقة، وأن ليس غاية الدّولة جعل الناس أخلاقيين، وأنّ غاية الدّولة المواطن الصالح لا الإنسان الصالح، والإنسان يُقاس اقتصاديا أو ما يقدمه للدولة من خدمات لا بما يقدمه للّه. راجع وائل حلاق. الدّولة المستحيلة، ص ص 277- 284. هذا الذي نجد له سندا آخر لدى "يورغن هابرماس" فالأخير وفي معرض طرحه لفرضيته حول نظامه السياسي الليبرالي الذي استلهمه من الإرث الكانطي رأى أنه لا يمكن تطبيقه إلاّ في بيئة ذات رؤية معلمنة للعالم، يقول: "تقدم الليبرالية السياسية (التي أدافع عنها في الشكل الخاص للجمهورية الكانطية)، نفسها كتبرير غير ديني وغير ما بعد ميتافيزيقي للأسس المعيارية للدولة الدستورية الديمقراطية، وتجد هذه النظرية مكانها في إرث الحق العقلي الذي يتخلى عن الفرضيات الكسمولوجية والخلاص التاريخي لتعاليم الحق الطبيعي الكلاسيكي الديني... لكن مصدر أسس شرعية سلطة الدولة ذات المنظور المحايد لأصل العالم أتت في الأخير من مصادر دنيوية لفلسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر" يورغن هابرماس، جوزيف راتسنجر (البابا بندكتس 16). جدلية العلمنة: العقل والدين، تر: حميد لشهب، بيروت: جداول ،ط1، 2013، ص47.

[13] WAEL B HALLAQ. The Origins and Evolutions of Islamic Law, First published, Cambridge university press, New York, 2005, P 32

[14] الدّولة المستحيلة، ص 293.

[15] وائل حلاق. مقالات في الفقه، تر: فهد الحمودي، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014، ص 188.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى