نزار العاني - المأثور القائل «كل ممنوع مرغوب» صحيح.. خواطر حول الكتب الممنوعة

منذ فجر التاريخ، هناك أدلة على وجود كتابات لم يبح صاحبها باسمه خوفاً من القصاص والملاحقة! ومنذ القديم كتب بعض الحكماء بأسماء مستعارة للتنصّل عما كُتب! لماذا يا ترى؟ لأن كل كتابة ضد ما هو سائد وشائع تفضى إلى وجع رأس «الكاتب، وتفضي أيضاً إلى غضب «المكتوب عنه، فإذا كان الأخير سلطة، قامت القائمة، فأعدم الكاتب، وأحرق الكتاب، وحتى لو حدث ذلك في مملكة «حرية ستان التي لم تقم أصلاً ولن تقوم!
في ميادين العلم، والفلسفة، والسياسة، تذكر الوقائع التاريخية لنا كم كان ثمن معارضة العرف باهظاً، وبعض هذا الثمن السجن والنفي، أما في ميدان العقيدة والدين، فالثمن هو الموت، لأن تهمة التجديف والإلحاد حتى لحظة افتتاح معرض الكويت الدولي الثاني والثلاثين الذي أغلق أبوابه أول أمس، وصودرت فيه مئات الكتب، أقول ان جزاء التهمة، كان ولايزال الجلوس على الخازوق، وتهون المصادرة أمام الخيار الأخير.
تلك هي سنّة الحياة، ومع ذلك، ظهر آلاف الملحدين وقتلوا، وأعدم كل أثر لكتاباتهم. وما يهمني شخصياً أن أروي بعض الخواطر حول الكتب الممنوعة، لأقول ان العقل يقتضي التفتيش عن بدائل أكثر جدوى، وأوله الارتقاء بوعي الناس، فهو وحده الكفيل بتجنيب الناس البلبلة والحيرة والشك واللاأدرية، وهذه كلها من أسباب منع الكتب منذ العهد الإغريقي المتقدم، إلى العهد الكويتي المتأخر.

حكايتي مع كتاب «من تاريخ الإلحاد في الإسلام
منذ ثلاثين سنة أو أكثر، سمعت عن كتاب «من تاريخ الإلحاد في الإسلام الذي ألفه د. عبدالرحمن بدوي، وكانت كتب بدوي تثير زوابع من الاهتمام، لأصالة تفكيره وعمقه ولتخصصه الفلسفي اللافت للنظر، فقد كتب عن هيغل وشلنغ وغوته وعن الفلسفة الوجودية ومصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا.
وبدأت أبحث عن هذا الكتاب، لم أجده في مكتبات دمشق، ولم أعثر عليه في مكتبات بيروت، لا لأنه ممنوع، بل ببساطة لأنه غير متوافر، وهو دائماً غير متوافر، وكأن هناك من يشتري طبعاته ويخفيها، وسألت الأصدقاء عنه، وفي يوم من الأيام كنت والشاعر السوري علي كنعان في زيارة للمفكر السوري الطيب تيزيني في بيته، وسألته عنه لأستعيره.
وقال لي ان لديه نسخة من الكتاب وقد أعطاها لطالب عنده لإعداد دراسة، والمهم بعد سبع دوخات حصلت على آخر طبعة من الكتاب التي صدرت في عام 1993، علماً بأن الطبعة الأولى له صدرت عام 1945! الكتاب يؤرخ لسقطات بعض الزنادقة وطوائفهم وشخصياتهم، ولبعض واضعي الأحاديث والمتكلمين، ويعرض لبعض المذاهب الفلسفية التي انتشرت بين الناس كالمانوية، ويتطرق لما كتبه جبرييلي عن ابن المقفع، وما كتبه باول كروس عن ابن الرواندي، وحين قرأت الكتاب لم يتزعزع يقيني، ولم أنحرف عن عقيدتي، ولولا عنوانه المثير لما اختفى هذا الكتاب منذ عام 1945 وحتى عام 1993، إنه بكلمات، مقدمة صغيرة وترجمة أمينة لما كتبه جبرييلي عن كليلة ودمنة وبواطن الإلحاد فيها، وما كتبه كروس عن الزنديق ابن الماوردي، أي أن الكتاب يؤرخ لوقائع منتهية الفصول ومنسحبة من حياتنا الفكرية، والكتاب بسبب عنوانه المثير لايزال أشهر كتب عبدالرحمن بدوي، وباعتقادي الشخصي هو أقلها شأناً! ولا أعرف سبباً مقنعاً لندرته.

الظواهر الجنسية المتخفية
المحرمات التي لا يخوض العاقل في حقل ألغامها ثلاثة كما تعرفون: الدين والجنس والسياسة، والكتاب السابق نموذج مجتث من حقل التحريم الأول، أي الدين، وثاني هذه المحرمات الجنس، وبين يدي ثلاثة كتب ممنوعة، أو لأقل، غير متداولة، وهناك بعض الصعوبات التي تكتنف الحصول عليها، إذ لاتزال بعض العواصم العربية تتمتع بهامش للتوزيع أوسع من هامش التوزيع في عواصم أخرى.
وهنا، وفيما يخص الإيروتيكية العربية، أو الحب الجنسي، لي أيضاً حكاية مع الكتب المتعلقة بهذا الموضوع، إذ انني كباحث ودارس وكاتب لابد لي من الحصول على الكتب الأصلية الكاملة، ففي بدايات تأسيس مكتبتي اكتفيت بمختزلات كتب الأغاني وألف ليلة وليلة، والمختزلات تسقط الشطحات الإيروتيكية، لكن لم يهدأ لي بال حتى حصلت على الكتب الكاملة.
وفي مطلع التسعينيات، بدأت مجلة الناقد لصاحبها رياض نجيب الريس بتسليط الضوء على المسكوت عنه في أدب الجنس في التراث العربي، وظهر عن دار رياض الريس كتاب «أبو نواس: النصوص المحرمة وهو من تحقيق باحث عراقي متميز وجاد اسمه جمال جمعة، وهو نفسه الذي حقق كتابين آخرين هما على التوالي «الروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ النفزاوي، و«نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب لشهاب الدين التيفاشي.
ومن محاسن الصدف أنني التقيت بالاستاد المحقق جمال جمعة الذي يعيش في اسكندنافيا على مائدة غداء اقامها على شرفه في الكويت الصديق خالد قطمة، ولمستُ مدى صدق هذا الرجل وغزارة علمه ودقة أدواته في التحقيق وعمق منهجه في التناول، وانطباعي الشخصي هذا لم يكن وليد اللقاء فحسب، بل لمست ذلك من قراءتي المتعمقة لكتابيه. هذان الكتابان ممنوعان، ولا أخالني لو كنت رقيباً في مملكة «حرية ستان أنني سأسمح بهما، فالفائدة المعرفية والفكرية والعلمية من نشرهما محدودة للغاية، إنهما يصلحان كمراجع للباحثين لأن فيهما إطلالة في سياقهما التاريخي على الحراك المجتمعي والثقافي، وينبئان عن هامش الحرية المتاح للكتابة عن الجنس وطبيعة فهمهم له في زمانهم، وهو فهم مغلوط تجاوزته المعارف والعلوم الحديثة، ولهذا السبب الأخير وحده، لا أجدني أرتكب إثماً لو منعتهما بسلطة كائن من كان، لكن لا ضير لو سمح بهما غيري، فذنبه على جنبه، لأن جولة القارئ على صفحاتهما ستنسى بعد حوالي شهر وإلى الأبد، وكنت أتمنى على جمال جمعة ان ينصرف بعلمه ودرايته العميقة بخفايا التحقيق التراثي إلى كتب أكثر جدوى.
ترى، هل ينازعكم الفضول للاطلاع على هذين الكتابين مثلي؟ ربما.. لكنكم مثلي أيضاً ستصابون بخيبة أمل، تجعلكم تتساءلون: لماذا المنع؟ الجواب هو: كل ممنوع مرغوب. وما قلته عن هذين الكتابين ينطبق على كتاب ثالث هو «الوشاح في فوائد النكاح للإمام السيوطي.

وللكتاب السياسي أيضاً متاعبه
اقتنيت في حياتي الكثير من الكتب السياسية النادرة التي اوقعتني في الحرج، في هذا البلد أو ذاك.
في أواسط الستينيات كنت أعمل في المملكة العربية السعودية، وآنذاك كنت أكتب في جريدة عكاظ، ولكي أتابع بمقالاتي مستجدات الفكر والأدب، كنت أقوم بتهريب بعض الكتب المهمة بين طيّات ملابسي، وأحياناً تضبط هذه الكتب فأتعرض للملامة والكتاب للمصادرة.
في مرة من المرات كنت أخفي كتاب صادق جلال العظم «دراسات يسارية في القضية الفلسطينية.. ولولا أنني أقسمت أمام المسؤول أنني مثل حمام مكّة، لا أهش ولا أنش، وأنني مجرد كاتب لا حول له ولا قوة، لما أعتقني لوجه الله.
فكلمة «يسارية في عنوان الكتاب كافية كمسوغ لاعتقالي، حتى لو كنت يمينياً وجئت بالكتاب لأدرسه وأقوض الدنيا فوق رأس كاتبه! ذلك أن كل قارئ مشبوه حتى يثبت العكس!
في الدين والجنس والسياسة بعض الخطوط الحمراء، وهذا من تحصيل الحاصل، لكن الذي حدث في ميدان العلم أنكى بكثير.. علماء كبار أجلاّء من أمثال كوبرنيكوس وكبلر وغاليليو غاليلي،لاقوا المرّ والعلقم، واضطهدوا، لأنهم كانوا على يقين من صحّة نظرياتهم العلمية.
كوبرنيكوس أوصى ألا ينشر كتابه «دوران الأجرام السماوية إلاّ بعد وفاته كي لا تغضب الكنيسة، وأساتذة اللاهوت منعوا كبلر من نشر مقال عن مذنب سبق ظهوره في عام سابق. أما غاليليو فقصته أشهر من أن تروى، لقد جثا على ركبتيه طالباً من محكمة التفتيش أن تغفر له ما قاله حول دوران الأرض.
إن مربط الفرس في قضية الحريات عموماً، وقضية حرية النشر على وجه الخصوص، هو العقل، ولا شيء غير العقل، لأن عملية التغيير والارتقاء والتطور والتنمية مناطة به. اسهروا على تربية العقول جيداً ولا تخافوا بعد ذلك من الكتب. لقد قال فولتير ذات يوم ما معناه: بمقدور العقل أن يجعلك تضحك كثيراً في الصباح من الأفكار التي راودتك في اليوم السابق. فوحده العقل يسند منظوماتنا الفكرية والثقافية، ووحده القادر على الدفاع عن هويتنا.
وأخيراً، كنت قد اشتريت كتاباً باللغة الفرنسية عنوانه «الدكتاتوريون في القرن العشرين، ومن بين هؤلاء حكام عرب، وقرأت الكتاب، وحين عدت إلى بلدي لم أحضره معي من فرنسا، بل أهديته لصديق عربي مقيم هناك. قلت لنفسي لماذا وجع الرأس، فقبل هذا الكتاب، وبعد هذا الكتاب، أنتم وأنا، نعرف هؤلاء الدكتاتوريين واحداً واحداً. أليس كذلك؟ ولن يضيف الكتاب شيئاً، ولن ينقص شيئاً.


د. نزار العاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى